كانت ثورة يونيو فى عام 2013 نقطة تحول جوهرية فى تاريخ مصر المعاصر.

لقد استطاعت مصر بهذه الثورة أن تتخلص من حكم الإخوان الذى كاد يجرف البلاد إلى متاهات الفوضى والتفكيك، كما نجحت فى صياغة دستور جديد للبلاد صدر فى عام 2014، وترتبت عليه بداية عهد جديد من بناء أركان الدولة، والانطلاق فى عملية متكاملة من التنمية، ترتبت عليها إنجازات ضخمة فى مجال تطوير البنية الأساسية، وفى شبكات الكهرباء، واستصلاح الأراضى، وما يرتبط بذلك من تنمية الثروة السمكية، والإسكان، والطاقة، والخدمات الاجتماعية، التى كان أبرزها شبكات الحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة، والشروع فى مبادرات لتقديم خدمات صحية واجتماعية مجانية، وانطلاق مشروع تنمية القرية المصرية لضمان الحياة الكريمة لسكان الريف.

ولقد تواكب ذلك مع تحولات جادة لتطوير التعليم ومناهجه والتوسّع فى بناء الجامعات الأهلية والحكومية. وشكلت كل هذه الإنجازات انطلاقة كبرى نحو بناء مجتمع جديد، له سمات جديدة، تواكبها دعوة قوية لإعادة بناء الإنسان.

وعلى خلفية هذه التغيّرات كان من الضرورى التفكير فى رؤية وطنية جديدة. رؤية تحدّد معالم مجتمع جديد، ومستقبل جديد. ولقد تم التعبير عن هذه الرؤية بطرق كثيرة كان أهمها إصدار رؤية مصر 2030، التى حدّدت لمصر طريقاً للنمو والتنمية المستدامة، فى إطار بناء جديد عبّرت عنه الرؤية على النحو التالى: ولقد وضعت الرؤية مبادئ وأسساً للمجتمع الجديد، وشيّدت أطراً للسياسات فى مختلف قطاعات الحياة، بدءاً من الاقتصاد وحتى الثقافة والتعليم. ولقد تفرّعت عن هذه الرؤية استراتيجيات كثيرة فى مجالات مختلفة، مثل حقوق الإنسان، وحماية الحقوق الفكرية، وحماية حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة، وتمكين المرأة وغيرها من المجالات.

وتحتاج المجتمعات فى مثل هذه الظروف من التغير السريع لأن تضع لنفسها إطاراً سياسياً عاماً. صحيح أن دستور البلاد يقدّم هذا الإطار ويحدد معالمه، ويضع الأسس التشريعية لبنائه، ولكن يحتاج الأمر فى كثير من الأحيان إلى قوة دفع سياسية، أو بمعنى آخر خطاب سياسى يحفّز المواطنين ويعمل على شحذ طاقاتهم، بحيث تتكون لديهم العقيدة الراسخة بأننا بصدد مجتمع جديد، يؤسسها المواطنون ويحافظون على استمراريتها للأجيال القادمة، لأن بناء الأمم لا يتكون من مجرد سياسات يتم تنفيذها فى المجال الاقتصادى والخدمى، فتلك الأخيرة لا تنجح ولا تستمر إلا إذا أصبحت الأمة كلها قائمة فى ضمائر الأفراد وفى وجدانهم.

فعندما يتحقّق هذا الهدف فإن الأفراد -الذين يكونون سكان هذه الأمة- يلتفتون إلى بعضهم البعض، ويتدبّرون أمرهم من أجل صالح مجتمعهم وصالح معاشهم وسياستهم وهويتهم الجمعية. ومن هذا المنطلق يؤكد المفكرون الاجتماعيون أهمية التكامل الوطنى، والتماسك الاجتماعى، مع التأكيد فى الوقت ذاته على أهمية العمل على استبعاد كل ما من شأنه أن يُقوض تكامل المجتمع وتماسكه كانتشار الجريمة والمخدرات والفساد بطرقه المختلفة (الرشوة والمحسوبية واستملاك الفرص والملكية العامة).

ولا يتحقّق مثل هذا المطلب إلا فى ضوء فكرة تجمع الناس على كلمة سواء، وعندما يطالب المجتمع بتأسيس جمهورية جديدة فإنه يسعى إلى تحقيق الهدف الأسمى للبناء. فالبناء لا يتم إلا بأفراد يؤمنون برسالة معينة، ويسعون إلى تحقيقها وسائل مشروعة ورشيدة.

ولا يوجد هؤلاء الأفراد إلا إذا تكيّفوا مع الأهداف العامة للمجتمع عبر مشروع وطنى كبير، حينئذ يتخلّق لديهم ما لمّحنا إليه آنفاً عندما أشرنا إلى أهمية أن تصبح الأمة حاضرة فى وجدان أبناء الوطن الواحد.

ويبدو الأجر هنا وكأنه محاولة لتأسيس ضمير جمعى قوى ومتماسك يستمد منه المجتمع طاقته على الاستمرار، كما يستمد منه الحفاظ على هويته من أن تتفكك أو تسيل، أو أن تُصبها لزوجة تجعلها تأكل بعضها بعضاً.

وإذا كان لنا أن نُحدد بعض الأولويات التى يمكن أن تتحقّق فى الجمهورية الجديدة، فإننا نشير إلى الأولويات التالية:

- مجتمع الإنتاج والإنجاز: لا سبيل إلى بناء مجتمع مستقر دون ضمان استقرار المعاش الذى اعتبره ابن خلدون أساس تكوين العمران البشرى.

لقد كان المجتمع المصرى طوال تاريخه مجتمعاً منتجاً، وشكل هذا سمته الدائم المميز لتدفّق عملياته الحضارية.

لذا فإن مجتمع الجمهورية الجديدة يجب أن يحافظ على مستويات عليا من الإنتاج، ويتحول إلى مجتمع إنجاز فيزرع قحمه، وينتج غذاءه، وحاجاته الأساسية، ولا يعتمد على عمليات الاستيراد إلا فى النزر اليسير، وبما يقوّى قدراته الإنتاجية.

- قيم عمومية حداثية: لابد للأمة من قيم عامة تحكم سلوكها وتحقّق إنجازاتها، لذا فإن مجتمع الجمهورية الجديدة يجب أن يرفع قيم العدالة والمساواة، والجدارة والكفاءة، والمواطنة، والمسئولية الأخلاقية النابعة من ذوات الأفراد ورغبتهم فى التطوع والعمل، والحوكمة الرشيدة، والشفافية والنزاهة، وغير ذلك من القيم الدافعة إلى البناء والعمل الخلاق.

- الطاقة الشبابية المنجزة: لا يقوم للمجتمع شأن إلا بأبنائه، وشبابه.

ولذلك فإن قضية بناء البشر تُعد أولوية كبرى فى تحقيق التقدّم وتتطلب بناء البشر فى المجتمع الجديد حزمة من السياسات تبدأ بضبط النمو السكانى، وتحسين خصائصهم الاجتماعية عبر العناية بالتعليم والصحة وخدمات السكن والمرافق، والعمل على انتشال الشباب من براثن غرائز الاستهلاك والمخدرات والطموحات الجامحة المتخلقة من العوالم الإلكترونية.

وتظهر هنا الأولوية القصوى للتعليم الجيد، وما يلحق به من أساليب ترقية العقول وصقلها وإعدادها لمواجهة المستقبل، مثل العناية بالجاهزية التكنولوجية والرقمية، وفنون الموسيقى والمسرح والتشكيل، وترقية القدرات اللغوية والاتصالية.

- التنمية التشاركية: لا سبيل إلى بناء مجتمع جديد إلا بتأكيد مفهوم الدولة التنموية التشاركية، التى تضع سياسات عامة لتعبئة الموارد، والإشراف والرقابة على توزيعها واستثمارها عبر شراكة رباعية الأبعاد، تظهر فيها أدوار واضحة للقطاع الخاص، والمجتمع المدنى، والمواطنين الذين يعملون جميعاً تحت المظلة السياسية والتشريعية التى تضعها أجهزة الدولة السياسية والتشريعية والتنفيذية، والتى تراقبها الهيئات القضائية.

- التماسك الاجتماعى: تتحقق أهداف المجتمع الجديد عبر قدرته على تحقيق مستويات من التماسُك الاجتماعى، والتقليل من مظاهر التباعد بين الطبقات الاجتماعية على المستوى الثقافى إن لم يتحقق على المستوى الاقتصادى، وقدرة أجهزة الدولة على أن تخلق أحزمة رابطة للبنية الاجتماعية، عبر دوائر تنظيمية تبدأ بالمجالس المحلية، وتتدرّج إلى مجالس المركز والمحافظة، وعبر أدوات فعّالة لضبط السلوك العام، وإنفاذ القانون بشكل فعّال، والتعرّف السريع على حاجات المجتمعات المحلية ومشكلاتها وتقديم حلول سريعة. والمفترض فى كل ذلك أن يتم وضع الدولة فى قلب المجتمع، ووضع المجتمع فى قلب الدولة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الجمهورية الجديدة قواعد الديمقراطية حياة كريمة الحوار الوطنى الجمهوریة الجدیدة

إقرأ أيضاً:

زعيم الأغلبية: قانون لجوء الأجانب يتماشى مع الجمهورية الجديدة

أعلن النائب عبد الهادي القصبي، زعيم الأغلبية البرلمانية بمجلس النواب، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، موافقة الهيئة علي مشروع قانون مُقدم من الحكومة بإصدار قانون لجوء الأجانب، والذي يعد أحد التشريعات الهامة التي يتصدى لها المجلس.

زعيم الأغلبية بمجلس النواب ووزيرة التضامن يكرمان أبطال البارالمبية المصرية زعيم الأغلبية: الصندوق السيادي ليس بدعة

جاء ذلك خلال الجلسة العامة المنعقدة الان برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي رئيس المجلس والتي تناقش مشروع القانون وقال القصبي ان هذا المشروع بقانون يأتي تفعيلا للمعاهدات الدولية، وبما يتماشي مع الجمهورية الجديدة، لاسيما في ظل التحديات العديدة التي تواجه الدولة المصرية.

وأشار "القصبي" الي إن التحديات المحيطة بالمنطقة استوجبت ظهور تشريع جديد يوائم المعاهدات الدولية والالتزامات المصرية من جانب والحفاظ علي الأمن القومي والعام من جانب أخر، لذا جاء التشريع الجديد بإنشاء لجنة مختصة بشؤون اللاجئين وتجديد الطلبات ووضع مدد للرد عليها، وشروط من تنطبق عليه صفة اللاجيء في ضوء الاتفاقيات الموقعة، ومن ثم يتمتع بالحقوق السياسية والصحية والتعليمية، فضلا عن حق التقاضي وممارسة الأديان علي أرض مصر.

ووجه "القصبي" التحية إلى رئيس مجلس النواب المستشار الدكتور حنفي جبالي، علي كلمته التي أكد فيها التزام مجلس النواب، بالنظر إلي ملف الإيجار القديم من منظر شامل ومتوازن، في ضوء حكم المحكمة الدستورية العليا بشأن عدم دستورية بعض مواد القانون رقم 136 لسنة 1981، في مسؤولية تاريخية لمعالجة الآثار المتراكمة للقوانين الاستثنائية التي تنظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، قائلا: "المجلس يتصدى دائما لملفات شائكة سواء كانت التزاما أو استحقاق دستوري أو تفعيلا لمعاهدات دولية".

 

مقالات مشابهة

  • رئيس الدولة: الأسرة الأساس في بناء مجتمع قوي ومزدهر
  • رئيس الدولة: الأسرة أساس بناء مجتمع قوي ومزدهر
  • المستشار أسامة الصعيدي يكتب: الملكية الخاصة في حكم الدستورية بشأن العلاقة الإيجارية
  • فى لقائه بمستشار رئيس الجمهورية.. محافظ أسوان: تحقيق معدلات إنجاز بملف التقنين
  • سامح فايز يكتب: الحرب الثقافية (3)
  • التبشير بـ«الجمهورية الجديدة».. مواقف مشرفة للبابا تواضروس في دعم الدولة المصرية
  • المجتمع يسأل طبيبة كفر الدوار
  • جواهر القاسمي: ولاؤنا للوطن والمجتمع قبل السياسات والإستراتيجيات المؤسسية
  • زعيم الأغلبية: قانون لجوء الأجانب يتماشى مع الجمهورية الجديدة
  • جواهر القاسمي: العمل المؤسسي الحكومي أمانة عزيزة يحملها كل فرد عامل في المجتمع