حين تواصل معي أخي سعيد الحضرمي عارضًا عليَّ طباعة كتاب ندوة جده شاعر الجوف، فبادرت بالترحيب، وخرج الكتاب، وأكثر ما في هذه المقالة مستل منه، وخاصة من بحثي أحمد العبري والدكتور عبدالله الكندي. المر بن سالم بن سعيد الحضرمي الفرقي النزوي، تضاربت الأقوال في تاريخ مولده، وأرخه الخصيبي في كتابه (شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان) بقوله: «ولد الشاعر عام ثلاثة وأربعين ومائتين بعد الألف، وتوفي عام ستة وثلاثين وثلائمائة بعد الألف، فعمره ثلاثة وتسعون عامًا»، فيكون المولد بالهجري والميلادي (١٢٤٣هـ / ١٨٢٣م).
يمكن تقسيم فترة حياته إلى مرحلتين:
الأولى: مرحلة المديح، حيث اتصاله بالبلاط السلطاني، فقد ولد الشاعر في عهد حكم السيد سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد بن أحمد البوسعيدي، وعاصر سبعة من حكام الدولة البوسعيدية، ولكن نجمه الزاهر بزغ في عهد السلطان فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان، لذا نجد كل قصائد المدح في هذا السلطان دون غيره من السلاطين، فكان من المقربين لدى السلطان في مجلسه، حتى سمي (شاعر السلطان)، وقد كتب قصائد تتعلق بالسلطان فيصل، ومدحه يفيض بالإعجاب لشخصه، ومما قاله فيه:
لك المجد والفضل والسؤدد *** أيا فيصل والعلا تشهدُ
بأنك أرفع ذي رتبةٍ *** وأنك في دهرك الأوحد
وقال في مدح الشيخين زهران وسعد ابني محسن العبريين
أتانا فقلنا بعد تقبيله سهلا *** كتابٌ غدا صعب الزمان له سهلا
أتانا فحيانا سنا وتحيةٌ *** فذكّرنا أهلا فقلنا له أهلا
ونلمح في مديحه، سهولة الألفاظ، وسريان الموسيقى، بل تدفقها تدفقًا رائقًا عذبًا، يقول مثلا في مدح سعيد العبري:
يا هاجري هجر الوسنْ *** صلني مواصلة الشجن
وامنن عليّ بزورةٍ *** أشقى بها من قبل أنْ
والمرحلة الثانية: فترة الملاحم الوصفية للمعارك، فقد أدرك المُرّ الحضرمي حكم الإمامة لفترتين الفترة الأولى هي إمامة الإمام عزان بن قيس البوسعيدي في الفترة 1985 - 1287 هـ الموافق 1868 - 1871 م، وكتب فيه أربع قصائد، ثم الفترة الثانية خلال فترة الإمام سالم بن راشد الخروصي لمدة ست سنوات.
ومن العوامل التي ساعدت في تفاعله مع الأحداث وجوده في نزوى، فكان في مقدمة المساندين بشعره لحركة الإمامة منذ بدايتها، فسجل وقائع الفتوحات والهَبُ الحماس.
ولذا قال فيه نور الدين السالمي:
يا من مسماه ضد الاسم في العمل
فأنت أحلى معي من خالص العسل
يا نجل سالم يا مر المذاق لدى الـ
هيجاء عند قراع الدارع البطل
وأكثر هذه القصائد في ذكر انتصارات الإمام سالم بن راشد الخروصي، ومنها ما قاله في معارك نزوى وإزكي ومنح والعوابي:
جنود الله هبوا للقتال *** فثمّ تشم رائحة الغوالي
جنود الله هبوا واستعدوا *** بأنفسكم لنصرة ذي الجلال
وقال في معركة نزوى:
لك النصر والتمكين والفتح والظفر *** إمام الهدى بشراك قد ساعد القدر
ولاحت نجوم السعد فانتشر الهدى *** وقام منار الحق في الأرض واشتهر
وقال الشاعر في معركة بهلا:
شرح طويل به وجه العلى شرحا *** مالت به الأرض واهتزت به فرحا
شرح فما الكون يُنشيه وينشده *** مع الجمان فصارت ألسُن فـصحا
وقال في وادي السحتن:
عل السيوف تقر بالأغماد *** وتطيب نفسا بعد فتح الوادي
فتحت صياصيه وليس سوى القنا *** والمشـرفي لهن من مقلاد
ومن أجمل نصوصه في هذا المجال نصه في معركة سمائل وبدبد:
رجاء الإله لنا شامل *** وما هو عن نصرنا غافلُ
نعد صوارمنا للعدى *** وسيف الإله هو الفاصل
يظن العدو بنا أننا *** قتلناهم وهو القاتل
رمينا ولكنه قد رمى *** ونفعل لكنْ هو الفاعل
نسوس الأمور بتدبيره *** ومهما نقل فهو القائل
نقوم بحق إله السما *** ولا يستوي الحق والباطل
ومن حارب الله مستنكفا *** فإن الإله له خاذل
ومن كان بالله مستعصما *** فإن الإله له كافل
فبالشرع قام فتى شارع *** وبالعدل قام فتى عادل
فأنت ترى نصوصًا حماسيةً، لاهبةً، بلغةٍ رائقةٍ قويةٍ حازمة، بل هي أشبه بالأناشيد الحماسية. وقيمة هذه النصوص تاريخيا توازي قيمتها الفنية، كونها تسجيل لأحداث العصر وملاحمه.
فللمر نصيب في شعر المدائح «للسلطنة» (سلطان مسقط) و«للإمامة» (إمام عمان) على حد سواء، بجانب الفخر الوطني بالأمة العمانية وذكر مناقب أبطالها.
أما الغرض الثالث فهو الرثاء، فنجد التفاعل الاجتماعي من المر مع محيطه؛ نظرًا لمكانة الشاعر الاجتماعية فقد تكونت له علاقات قوية مع من حوله من الشيوخ والزعماء، فكانت له الكثير من قصائد الرثاء، فها هو ذا يرثي العلّامة محمد بن مسعود البوسعيدي، بعد أن قتل غدرًا، ومما قاله:
رضيتم والرضا لكم بوار*** فحل بكم وأرضكم البوار
رضيتم وانتهكتم واستبحتم *** دم الشيخ النجيب وذاك عار
أما تدرون أن بما استبحتم *** دم العلماء تخترب الديار
أما تدرون أن العلم نور*** وأن الجهل يحموم ونار
ومما قاله في رثاء الشيخ زهران بن محمد العبري
حمراكمُ بمصابها سوداءُ *** وصخورها بدم البكا حمراءُ
وعراصها مصفرة من خشيةٍ *** وعيونها من حزنها بيضاءُ
فأنت ترى لغته الجميلة، وتلاعبه بالجناس.
وعموم شعره سجل لعصره، فنراه معنيا بتدوين أحداثا غير المعارك، من مثل الجراد الذي غزا قرية «فرق»، فيقول:
يا أيها القمّل المعروف بالعطب *** ماذا دهاك لأكل الحرث والنشب
أرسلتَ جندا من الرحمن مؤتمرا *** أم جنت مُعتديا في ظل مغتصب
وقال في الرد على العقبى الجزائري عندما تهجم على أتباع المذهب الإباضي:
أتقدح في الدين الإباضي يا عقبى *** لك الويل في الأولى لك الويل في العقبى
وقال في السيل الذي اجتاح نزوى ونواحيها عام ١٣٠٢هـ.
طافت بنا لُجَجُ الطوفان طوفانا *** فمَا بَلَغْنَ من العمران عمرانا
أنواء غادرن كثبان الفلا لُجَجا *** أمواهها والجبال الشم كثبانا
توفي الحضرمي في عام ١٣٣٦هـ - ١٩١٧م، في بلدة فرق وذلك عهد الإمام سالم بن راشد الخروصي وقد رثاه عدد من الشعراء وفي مقدمتهم الشيخ أبومسلم البهلاني والعلامة محمد بن شيخان السالمي. وبقي إرثه الشعري متوزعًا في قصائد متفرقة ومراجع متعددة، وقد قام مصطفى بن زاهر بن سالم الحضرمي بجمع معظم قصائده وتحقيقها في بحث تخرجه في معهد العلوم الشرعية في عام ٢٠٠٤م ، وعسى أن يوفق في استكمال جمع باقي القصائد ليخرج ديوان شاعر الجوف مكتملا
ونختم هذه المقالة بقصيدة التوبة المشهورة.
عظيمُ الذنب يغفره العظيمُ *** ويحلم عن مُناويه الحليمُ
إذا عظمت ذنوبك يا غريمُ *** فقل بعد التضرّع يا كريمُ
فإن الله توّابٌ رحيمُ
إذا رمت السؤال فسل كريما *** تنل من فضله الفوز العظيما
قديمًا يغفر الذنب القديما *** ويهديك الصراط المستقيما
فإن الله توابٌ رحيم
سَلِ الباري ولا تسألْ سواهُ *** من استكفى بمولاه كفاه
فهل لك من حمىً إلا حماه *** إذا شئت الرضا قل يا إله
فإن الله توابٌ رحيم
وعجّلْ بالإنابة والرجوعِ *** إلى المولى فدع ذكر الربوعِ
وصبَّ لما مضى حُمْرَ الدّموع *** وسلْه العفو في وقت الهجوع
فإن الله توابٌ رحيم
لقد ضيّعتَ عمرك في التواني *** وفي ذكر الغواني والأغاني
وحدتَ عن المتاب وأنت جاني *** فتبْ وارجعْ ودعْ عنك الأماني
فإن الله توابٌ رحيم
إلى كم ذا التواني والتصابي *** ونُوق السيرِ زُمّتْ للذهابِ
وبومُ الرأس زحزح للغرابِ *** فما لي لا أُعجّل بالمتاب
فإن الله توابٌ رحيم
أتوب إليك ربّي من ذنوبي *** لتغفرَ زلّتي وتحطّ حُوبي
قبيل دُلوك شمسٍ للغروب *** ألا يا نفسُ قبل الموت تُوبي
فإن الله توابٌ رحيم
نذيرُ الموت خيّم فوق راسي *** وبدَّلني لباسًا عن لباسي
وذكّرني الذي قد كنت ناسي *** وتبت لأن قلبي كان قاسي
فإن الله توابٌ رحيم
إلهي إنَّ أوزاري عِظامُ *** يذوب اللحم منها والعظامُ
ومن يقصدْ عظيمًا لا يُضام *** فسلِّمني بلطفك يا سلام
فإن الله توابٌ رحيم
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإمام الطيب: الإيمان باسم "الرقيب" يدفع المسلم إلى التزام التقوى واجتناب الفواحش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكَّد فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، خلال حديثه اليوم بالحلقة السابعة عشر من برنامج «الإمام الطيب»، أن اسم الله تعالى "الرقيب" من الأسماء الحسنى الثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية، مُستشهداً بقوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) في سورة الأحزاب، وقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) في سورة النساء، بالإضافة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ضمّن الأسماء التسعة والتسعين المُجمع عليها بين المسلمين، موضحا أن هذا الاسم يُعدُّ دليلاً على سعة علم الله تعالى المُحيط بكل شيء، ورقابته الدائمة على خلقه.
وفي إجابة عن سؤال حول الميزان الصرفي لاسم "الرقيب"، أوضح شيخ الأزهر أن صيغة "فعيل" في اللغة العربية قد تأتي بمعنى "فاعل"، مثل "عليم" (عالم) و"سميع" (سامع)، لكنَّ اسم "الرقيب" خرج عن هذا السياق اللغوي لثبوته شرعاً، قائلا: "لو قِسنا على القاعدة اللغوية لكانت الصيغة «راقب»، لكن النصوص الشرعية جاءت بـ«رقيب»، فتمسكنا بها وأغضينا الطرف عن القياس"، مبيناً أن الاسم تفرَّد بمعنى المراقبة الإلهية الشاملة التي لا تشبه رقابة البشر.
وأشار الإمام الطيب، إلى أن اسم "الرقيب" يجمع بين صفتي العلم المطلق والحفظ الرباني، موضحاً أن الله تعالى يعلم الأشياء في حال وجودها وعدمها، ولا يشغله شأن عن شأن، مستشهداً بقوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) وقوله: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، مؤكداً أن العلم الإلهي لا حدود له، وأنه يُمثِّل ركيزةً لإيمان المسلم بأن الله مُطَّلع على كل صغيرة وكبيرة.
واختتم شيخ الأزهر حديثه بتوصية للمسلمين بالاستفادة من هذا الاسم الكريم في حياتهم العملية، داعياً إلى مراقبة الله في السر والعلن، ومحاسبة النفس التي تُعدُّ "أعدى الأعداء".
وقال: "الإنسان الذي يستشعر معنى الرقيب الإلهي لا يُقدم على ما يُغضب الله"، مُحذراً من وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، مؤكداً أن الإيمان باسم "الرقيب" يدفع المسلم إلى التزام التقوى واجتناب الفواحش، تحقيقاً لقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ).