لجريدة عمان:
2024-11-08@01:48:30 GMT

شيءٌ لا يُنال!

تاريخ النشر: 1st, April 2024 GMT

لم يكن البُغض هو ما يُنهي صداقاتي القديمة، وإنّما الشعور الحاد أنّ هنالك ما يخفت، الخفوت الذي لا يعني تيبس شجرة الصداقة الحية وحسب، بل تعفن جذورها على نحو بطيء. لا أملكُ يقينا واضحا متى كانت تنفصلُ عُرى الأشياء، لكن كان هنالك شلالٌ من اللوم الأبدي بأنّي لا أملك السعي والدأب الكافيين لإيقاد شعلة الصداقات لأمد طويل!

***

أكثر عاداتي البغيضة تكمنُ في التخلص، التخلص والمحو اللذين يرافقان الحياة والكتابة على حد سواء.

وكأنّه يتوجب علينا أن ننظف هذا العالم من كل ما يخصنا قبل أن نُغادره، حتى من تلك العلاقات التي -ولسبب غامض- لم يُكتب لها أن تتبرعم!

إن ضآلة تآلفنا مع الآخر/ الصديق، لا يعني دوما ضعفا في نسيج الحيل التي نملكها لتفادي التمزق والانكسارات، وإنّما الإيمان -كما قال أحدهم- أنّ للصداقات أعمارا كالبشر، تنقضي بانقضاء الظرف أو الزمان والمكان. هذا الانتهاء الذي ينبغي أن نقبله كما هو، لا يُلغي احتفاظنا بذكرى طيبة عن أناس عبروا حياتنا تاركين بصماتهم وخدوشهم على حد سواء! كصداقات الطفولة والجيران والمدرسة والجامعة، تلك التي تحولت إلى ألبوم الصور. فكل صورة تُضيء ذكرى، تُضيء صديق.

نشعرُ برغبة عارمة في تجنب خذلانهم، لكن عندما تنعدم أسباب الاستمرار أقول في نفسي: «يكفي أن يكونوا نشيدا خافتا في خلفية مشهد حياتنا، الذي يكر مسبحته على نحو مخاتل».

***

عندما سافرت صديقتي «رانيا» في رحلة علاج طويلة، شعرتُ بوخز مُوجع، فتذكرتُ على نحو دقيق الخفة التي حظيتُ بها أثناء صحبتها، فرصة أن أكون «أناي» بأقل درجة من المواربة، التحلي بالجنون والشطح دون أن يُراقب أحدهم عثراتي المهتزة، تذكرتُ البئر العميقة التي دفنا فيها القصص والمرايا التي عكست بصفاء مُبهر تناقضاتنا، المرايا التي لطالما كانت تدلنا على جوهرنا المُخبأ. هكذا يفعلُ مرض صديق مُقرب منك، يجعلك على درجة من الحساسية اليقظة التي تُعيد فهم هشاشتك وعاطفتك المشوشة، حيثُ تختبر المآسي كل ما ظننته صلبا!

***

سألتُ نفسي: هل تغيرت صفات الصديق منذ بدء البشرية وحتى الآن؟ شكل الصداقة، الروابط الروحية الخفية، أمّ أنّ الصداقة مرتبطة بالمثل العليا التي لا يشوبها القدم، والتي تتمثل في الشخص الذي يُعين ويُصغي ويُدافع ويُحبّ؟

من المؤكد أنّها -أي الصداقة- هي أكثر من تعبئة الوقت بالثرثرة والضحك والشكوى، ورغم أهميتها جميعا في صياغة شكل العلاقة بيننا فإنّ هنالك شيئا بالغ الرهافة يكتب كل قصّة على نحو شديد الفرادة.

***

وجدتُ في صديقتي «رانيا» نقيضي، فهي تعرفُ بدقة ما تريد، لديها حُكم غير مُلتبس على الأشياء، دون أن يمنع ذلك طبعها الإنساني بالغ العذوبة. كل شيء مُرتب في حياتها وفي حيزها الآمن، في البيت والعمل والمشاوير. وأكاد أجزم أنّها وجدتْ فيّ النقيض: الفوضى العارمة التي تطال أفكاري ومكتبتي، عدم اليقين بشيء، والتمزق الانفعالي الصارخ لحظة الكتابة، وأنا ألملم تاريخ شخصياتي كأنّما اقتطعها بفأس من شجرة حيّة. لم أخبرها أيضا عن توتري من تفاؤلها المستفز، وكأنّ الكون - بالنسبة إليها- يسير وفق خطة ناجحة تماما، بينما يأكلني القنوط من كل شيء!

لقد كانت «رانيا» ذات طبع أقل تعقيدا من طباعي، أقل حذرا، وأكثر طيبة. ذلك الانسجام مع الحياة وصروفها، وكأننا نمضي فوق حزام متحرك ناحية النهاية المؤكدة دون مُمانعة تذكر!

***

لم أنضوِ قط تحت راية الصداقات الممتدة والمتجذرة، فثمّة ما هو مخيف، أعني ذلك النوع من الصداقات التي تُعريك، بل تنظر تحت جلدك وتحكم عليك. إنّها الخشية من أن نبدو مكشوفين. ربما لأننا نختبر نوعا آخر من الانكشاف الصريح عندما نعرضُ شخصياتنا الكتابية لأمر مماثل عن قصد ووقتما نشعر أنّ ذلك ضروريا للقراء!

وكما يبدو فإنّ الريبة لا تمضي في اتجاه واحد، بل تتشكل أيضا عند الآخر/ الصديق الذي يعي إمكانية تحوله لمجرد «كركتر» روائي. إذ لا يريد «الصديق» أن يغدو مادة للكتابة - باستثناءات قليلة- إلا من وراء طبقات مكثفة من الحكي والتورية والاستعارات.

***

في غياب «رانيا» عن مشهد الصداقة اليومي والكثيف، خطرت في ذهني فكرة حول أولئك المحملين بالعطف الأبدي والمؤازرة الداعمة، أولئك الذين يجعلونا نشك دوما في إمكانية أن يُصيبهم مكروه، ربما لأنّهم في ظهرنا دوما، وكأنّما خُلقوا من أجلنا كملائكة، إلا أنّ المرض هو أول ما يهز هذا اليقين، فيحتضر الأمل لأيام وساعات، ثمّ يستشرسُ في الظهور من تحت رماد اليأس. إذ لا شيء يُمكننا أن نُجابه به الحياة أكثر من الإرادة الغامضة في العيش!

***

عندما يمرض صديقك المقرب، يجدر بك أن تتحلى بالصبر، عقب الغضب والهياج الجارف. لأن أسئلة مُلحة حول المصير ستغدو أكثر سطوعا وحدة. لكن تلك المجابهة المريرة واليومية التي يخوضها صديقك الأعزل والمجرد من اليقين، ستدفع يأسك وقنوطك للارتخاء قليلا، ليشتد الإيمان بحبل الأمل، ذلك الذي لا يُنال بيُسر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على نحو الذی ی التی ت

إقرأ أيضاً:

رانيا البيايضة بين اللوحة والناظر بقلم حسين الاسدي

آخر تحديث: 7 نونبر 2024 - 12:11 م

رانيا البيايضة بين اللوحة والناظر

حسين الأسدي

تمتلك الفنانه التشكيليه الأردنية رانيا
البيايضة والتي تعمل مدربه للرسم والفنون التشكيلية في مديرية الثقافه بمحافظة الكرك قدرة كبيرة في تطويع الالوان وتجعلها تقترب كثيرا الى محكاة الواقع والطبيعة الى درجة قد يتفوق حسها المرهف وخيالها الى ابعاد بعيدة بحيث يتم خلق صورة تثير الاحساس المرهف والجميل في عيون كل من نظر الى لوحاتها الابداعية٠وقد تمكنت الفنانة رانيا من خلال عملها على امتداد اثني عشر عاما في نادي ابداع الكرك وقيامها باعطاء محاضرات وتنظيم ورشات ودورات في مجال الرسم في العديد من المؤسسات والمنظمات على مستويات خارجية ومحلية من النهوض بفن الرسم والفنون التشكيلية وجعلها تحلق بعيدا في عالم الفن والابداع وينخلق لها جمهورا واسعا في اطار متابعة يومية وميدانية٠ ومن الجدير بالذكر قدرة السيدة رانيا في جميع اللوحات التي رسمتها من مزيج رائع للالوان بحيث تعتبر اللوحة جسدا واحدا يكمل بعضه البعض الاخر حتى لا يمل الناظر اليها بحيث يكون الانسجام بين اللوحة والناظر اليها عباره عن سمفونية تتناغم فيها الاصوات التي تتقافز كاصابع فنان محترف من دون اية حركة نشاز٠فتحية لهذه الفنانة الراقية والتي توحي لوحاتها بولادة رسامه من طراز خاص سيكون لها شأن كبير في القادم من الايام وان غدا لناظره قريب

 

٠

مقالات مشابهة

  • الصول: الصديق الكبير يتحمل مسؤولية خطورة الوضع المالي الليبي
  • الصديق اللدود
  • محافظ القاهرة: علاقات الصداقة والأخوة بين الشعبين المصري والياباني ممتدة وعميقة
  • محافظ القاهرة يبحث سبل التعاون مع محافظة طوكيو
  • رانيا البيايضة بين اللوحة والناظر بقلم حسين الاسدي
  • تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية
  • عبدالله بن زايد يبحث مع حاكم عام أستراليا تعزيز الصداقة والتعاون
  • شهداء الحركة الرياضية .. الحلقة 42 (جهاد قادوس)
  • الصديق الفطين!!
  • «الصديق الصور» يتابع سير العمل في إدارة إنفاذ القانون