مَا وراءَ الأَكَمَةِ! ... بين قرني المأزق والإذعان
تاريخ النشر: 1st, April 2024 GMT
د. عبدالله بن سليمان المفرجي
في الشتاء، يتساقط المطرُ فيغسل أحقاد الصدور، وينقي سواد القلوب، ويصفي جلاء النفوس، وترعدُ السماءُ، بدويها المروع، فتذكرنا بأن الله الجبار أكبر من كل طاغ ناشز متكبر وإن علا صوته واشتد غضبه وعقابه وجبروته، وبين الليالي " الكوالح.. الطوالح.. الموالح.. الصوالح.. قرة العنز" وأجوائها المنعشة يدركُ كل قاس القلب فض الجانب، أن البرودة قاسيةٌ قارصة مؤلمة جدًا!
وفي "الصَّيْف ضَيَّعْتِ اللبن"، ففي مروجه الغناء تكتسي الأشجار بلون الطبيعة، حيث الثمار الطيبة اللذيذة في كل مكان، تتفتح الأزهار، وتكثر نسمات الندى كم يسحرني ذلك المنظر الخلاّب الذي يخلب الألباب ويسحر الأفئدة في حلته البهية تلك في كل صباح.
والغريب أن في أوطننا ثروات تحتاج إلى ثراء فكري لتخرج في وهج مختلف من المعارف والإبداعات والابتكارات حتى تحوز قصبات السبق في كل تحدٍ ونزال، فأنا غريب في هذا العالم المترامي الأطراف، لذلك آن الأون لترشيد أجود ما لدينا من ثروات بشرية وبحث احتياجات المجتمع من المعارف والعلوم والخبرات والصناعات التي سوف تساهم في حركة البناء والتطور لأوطاننا الحبيبة ليتم توظيفها في أماكنها الصحيحة، ويضمن أبنائنا فرصة حياة كريمة ولائقة، وحتى لا نستيقظ يوما ما، لنجد الأكفاء المبدعون من أبناء جلدتنا يبنون صروحا شامخة في بلاد غيرهم، ولم يتبقى داخل أسوار الوطن إلا من لفظتهم على حين غرة وانسلت أسواق العمل الخارجية، بعدما أغلقت عليهم الحياة في زنزانة الانهيار العنيفة، وتركتهم يتنفسون من رطب جدرانها المرارة ويعبق صدرهم بالخوف والذهول والأسى. ومَن سوف يعوضنا عن فلذات أكبادنا، الذين خسرناهم من الذين قد لا يقدم لنا القدر أشباههم مرة أخرى، فالعقول الفارغة أخطر فتكا وشراهة من البطون الجائعة.
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم // وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدر
فَإِن عِشتُ فَالطَعنُ الَّذي يَعرِفونَهُ // وَتِلكَ القَنا وَالبيضُ وَالضُمَّرُ الشُقرُ
وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ //وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِنفَسَحَ العُمرُ
(أبو فراس الحمداني)
وقد قالت العرب قديما: "عِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقين"، والشيء يجذب شبيهه ليس في الأحداث فقط بل حتى في المعاني، فتجاربك وخبراتك ومحاولاتك هي من تكشف لك المعاني، وقد توجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير، فهل فعلا يمكن أن يكون هناك فكر بدون لغة؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن توجد أفكار خارج حدود اللغة؟ والعدسة هنا تركز على أفكار كثيرة أحاطت بمخيلتي، وتزاحمت في ذهني، تعبر بصمت عما يختلج في القلوب، وقد حان الوقت لتخرج من أسرها وأغلالها وتتدفق كالأمواج العاتية على سيل قلمي ليكتب بلغة من أرقى لغات العالم “بدون حروف ولا أبجديات" لغة المشاعر والإيماءات تلك اللغة التي تقرأها ملامح الوجه وتفضحها رموش العيون، حينها يتسربُ الوجَع مِن مَسامات الصَمت فلا صمتنا يَستُرنا وَلا نحنُ على البوح بقادرين... فأضحى حالنا بين مطرقة البوح وسندان الصَمت، وإذا تحدث صمتي عن حزني حرك دوني جبال الألم الشاهقة الراسخة بكاء وحزنا وأسى وشفقة على ما أصاب الإبداع والابتكار من جروحٍ وشروخ صنعتها الأيادي المحترفة. في هذه الأيام تموج بحارها وأمواجها بالضجيج المجلل والغوغاء وتفيض بالثرثرة وقلة الأفعال ويقف على شطآنها الذين يدعون المعرفة والكمال الزائف، وتطفو على سواحلها بين قرني المأزق أنصاف المتعلمين، ممن يبتغون صناعة مكانة لافتة لهم بين الأنام، وينشدون حضورا قويا وذا معنى.
بيد أنهم لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون وإن تظاهروا بالفهم يجادلون وإن جادلوا ينكشفون وتتساقط الأقنعة، وتغيب شمسها ويأفل نجمها. فهل من ملاذ للقلوب المفطورة التي أغلقت عليها الحياة في زنزانة الانهيار العفنة فتركتها تجاذبها الأهواء والمطامع يتنفس من رطب جدرانها المرارة ويعبق صدرها بالخوف والذهول وتعتريها المسغبة، ومن باب المقارنة المؤدية إلى الفهم السليم للعلامات الفارقة بين العزة والذل؛ نجد عزيز النفس الذي يأبى الذل والإذعان ويرفضهما مهما كان المتاع.
من الرائع والجميل أن يجد المرء وقتًا، يخلو به مع نفسه، تزهو فيه روحه، ويجمع شمل أفكاره وذكرياته المتناثرة، وتروق له مشاعره الجياشة، يخاطب فيها نفسه، ويحادثها مصارحًا ومُعاتبًا لها عمَّا أساءت واقترفت وشُغِلَت عنه وانطوت بين سجلات الأحداث ويقلب أرماسها، ويتذكر شئون الحياة وصراعاتها المتلاحقة، وفي ساعات الصفاء الروحي وبين تلك اللحظات تجيش في النفس أشتات من المشاعر، تبعث فيها الأمل تارة، واليأس والكآبة تارة، ويتذكر حينها تساقط بعض النفوس والقلوب من حوله ويتمنى أن لو كانت ذاكرته من رمال لا تمسك لهم ودًّا، حتى لا يبقى رمسها وينمحي عورها بين ثنايا الصدور لتجبّر بمعانيه الرحيمة كسور الأرواح المنكسرة، والقلوب المهشّمة، والأنفاس الضعيفة التي تحتاج إلى من يجبرها ويضمد جراحها ويداويها من عواصف التهشّم والضعف والانكسار، حينها تذكرت لماذا لا تعرف النفوس الجليلة والقلوب الكبيرة الرحيمة الكبر والظلم، لأنها كلما ارتفعت واعتلت تجلت في رحمتها وشفقتها وسمت في علياء عفوها وصفحها، لأنها داخل الأجساد العظيمة التي كلما ارتقت في سمو الكمال اتسع صدرها، وامتد حلمها وطلبت للناس الأعذار، والتمست لأغلاطهم المسوغات والتأويلات المشرفة، وأخذتهم بالرفق ولين الجانب والحلم والعفو والصفح؛ لأنها نفوس تحمل داخلها القيم والمبادئ ما يجعلها ألا تنحدر إلى السفح، لأنها تعي جيدًا أن هذه الحياة لن تخلو من الأشخاص غير المحبين للنفس؛ ما دامت أرواحنا في أبداننا تدب فيها الحياة.
لذلك دائمًا كن لطيفًا ولينًا، ولا تُحاول أن تصنع من نفسك إنسانًا فضا غَيْظًا لمجرد أن أحدهم أخطأ في حقك، ولا تُقابل السيئة بالسيئة، وتذكر قوله تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت:34). هُنا تظهر معادن النفوس الطيبة الذين ينتصرون على إساءة الناس إليهم. فهنا لا بد أن تتعلم العطاء حتى في ظروفك الخانقة، وأن تهب لمن حولك ابتسامة وإن كنت تبكي، فإن متعة العطاء ستمسح متاعبك، فإياك ثم إياك أن تكون معول هدم، وقد كنت من ذي قبل معولا لرأب الصدع، ولمّ الشمل وتآلف الأرواح، يجب أن تسمو بروحك، وعليك أن تتعامل مع الناس كما يتعامل الطبيب مع المرضى، قد يكون المرض واحد، والعلاج مختلف.
قالت غلبتُكَ يا هذا، فقلتُ لها // لم تغلبيني ولكنْ زِدتِني كرما
بعضُ المعاركِ في خُسرانِها شرفٌ // من عادَ مُنتَصرًا من مثلها انهزما!
ما كنت أتركُ ثأري قطُّ قبلَهمْ // لكنّهم دخلُوا من حُسنِهِم حَرَما
يقسو الحبيبانِ قدْرَ الحبِّ بينهما // حتى لَتَحْسَبُ بينَ العاشِقَيْنِ دما
ويرجعانِ إلى خمرٍ مُعَتقةٍ // من المحبةِ تَنفي الشكَّ والتُهَما
(تميم البرغوثي)
وقد يحب بعض البشر الانعزال والانكفاء بعيد عن الأهل والأقارب والأصدقاء والجوار؟ اعتقادًا منهم أن في ذلك راحة نفسية وسوف يكونون بعيدين عن الطاقة السلبية والمجاملة والنفاق والصراع الصدام، ولكن ليس كل البشر سواسية فهناك من نحبهم ونعزهم، وطبيعة الحياة توكد أن الصراعات لا تنتهي، ولا يمكن أن تنتهي، ما دام في الدنيا مصالح متضاربة وأولويات متعددة وأطراف متباينة. فسيرة تطور المجتمعات غالبا ما تخضع لقانون الشد والجذب، أو ما يسمى بالتدافع بين البشر بعضهم لبعض، بيد أنه أكبر خطأ يصدر منّا حينما نكون كالكتاب المفتوح، فيقرأنا كل من اقترب من قلوبنا الرحيمة ونفوسنا الضعيفة، فالبعض قد يستهين بالسطور، والبعض الآخر قد يسيء الفهم، والبعض قد لا يفهم بتاتًا، فتبدأ تدور المعارك الطاحنة والتي حرَّكت ما سكنته القوافي ففاض تبياني فيا أبعد الله قلبًا قُدّ من حجر يؤذي الأنام ويهنا مثل الشيطانِ.
فما أروع الحياة عندما تعلمك دروسا قاسية وتكشف لك أسرار الوجود، وحقيقة الأشياء من حولك، حينما يسقط القناع وتنكشف الحقيقة، ترى وجوها عليها غبرة، ترهقها قترة، تحاول أن تتغلغل وتتسلل بين أفراد المجتمع بصورتها غير الشريفة، فالمتلونون يصعب العيش معهم، وكيف يمكن أن يكون التآلف والوداد مع من كنت تظن أنه الدواء الشافي والبلسم الكافي لجرحك، وصرحك العالي في بنيانك، وحلمك الوردي لأملك، وإذا به يهوى أمامك وتنكشف حقيقته عند سقوط قناعه المختبئ خلفه. تسقط الأقنعة حينما تصفعك اليد التي كنت تنتظر أن تُمدّ لك يد المساعدة والعون، وقد كنت تظن أنها سندك وظلك الذي تاؤي إليه وقت الشدة والانكسار، يقول جبران خليل جبران عن الوجوه: "رأيت وجها يظهر بألف مظهر.. ووجها مظهره واحد أبدا كأنما قد سبك في قالب"، وتسقط الأقنعة حينما يتنكر لك من كانت له منزلة في قلبك، قد تتجاوز منزلة من تعزهم من أقربك، فلا تسلم من لسانه، وتركلك قدمه التي كنت تظن أنها معينك وسندك على نوائب الدهر وتحديات الحياة. فهم ليسوا بالرموز البارزة التي يمرّر الحالم عليها أصابعه كلّ ليلة، هم فقط كيانات وحشائش ضارة لا تظهر في الحلم لأنهم لا يتسلّلون إلى اللاوعي، هم أناس قال فيهم الوعي كلمته، هم أناس اعتقدوا أنهم أحرزوا حبّا فافتقدوا قلبا، وهم أناس تكالب عليهم القهر المدقع وضرّسهم الزمان وطحنتهم الأيام، وأظهرت حقيقتهم السنون، واليوم يبدون أشبه بالأطلال، فالمواقف والأحداث هي وحدها من تكشف لك الأقنعة، والمعاملة هي من تكشف لك الحقيقة، فمن رام معرفة صدق الوجوه فليتأمل في المواقف والوقائع، وليتأمل أصحابها، فشكرا للأيام التي أظهرت المعادن الحقيقية وكسرت الأصنام والتي تهوات صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية ، وقديما قيل:
جزى الله الشدائد كل خير // عرفت بها عدوي من صديقي [الإمام الشافعي]
فمهما حاولنا جاهدين أن نجعل حياتنا كاملة، لا بد وأن يكون هناك جزء مفقود، لذلك كانت تلك ثرثرة أرواح متوجعة، وقد حانت لحظة كشف الستار عن مسرحية المخادعين، وقد اقتربنا من الفصل الأخير في سطور تلك الرواية.. لذلك يصعب بعدها الاستمرار في التمثيل! ف" وَرَاءَ الأَكَمَةِ مَا وَرَاءَهَا". وللهِ سر التوقيت.. وسر الدهشة، فجأة تمر بنا قافلة الأيام على تجربة لم نكن نقصد الذهاب نحوها، فتظل تهزمنا لواعج الأحزان وتكسرنا كوامن الأشجان حتى تنتزع منا كل معاني المقاومة ... ورويدا رويدا وشيئا فشيئا، تتلاشى وتساقط كل تلك الأحلام الوردية ويصبح حلمنا الوحيد وهدفنا الأسمى أن نعيش الاطمئنان فقط لا أكثر! ولكن أتدري ما العجب؟ أن يُلقى أحدهم في جب لكي تنجو أنت فقط! من غياهبه وظلمته وأن يُكتب التاريخ كله ويسخر من أجلك، لتسجل مناقبك الزكية وسيرتك الملهمة أنت. وأن يكون أقسى ما مر عليك، هو أسعد ما دبر لك ..."فلا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله". (محمد متولي الشعراوي)
ولله سر التوقيت، وسر الدهشة فقد تكون الأقنعة المتساقطة في فصول الحياة كلها خيرًا عظيمًا، حينما تتلاشى الأكتاف وتنسل من حولك تدريجيًّا، كُلما ازدادت حاجتك للاستناد عليها، لأنَّ الله يُريد تذكيرك بأنه وحده لن يخذُلك متَّى ما احتجته، وأنه قادر على أن يبعد عنك من لا يليق بك فقط وبروحك النقية الصافية، فثق بالله واطمئن.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل يكون ملف التهجير إلى سيناء المسمار الأخير في نعش النظام المصري؟
تسببت تصريحات ترامب حول التهجير القسري لـ1.5 مليون فلسطيني من غزة إلى سيناء أو الأردن بحجة تدمير القطاع خلال الحرب التي استمرت أكثر من 15 شهرا؛ في زوبعة سياسية كبيرة خلال الفترة الماضية.
لم يكتف ترامب بهذا الطلب، بل وصف ترامب اقتراحه بـ"تطهير غزة"، وبالتالي هو لا يستحي من الحديث عن تطهير عرقي في سياق دعمه للإبادة الجماعية، وكلها جرائم أخلاقية وإنسانية ومجرمة دوليا، ولكنه يضرب عرض الحائط بكل شيء.
ترامب لم يكتف بالتصريحات والمطالبات، بل بدأ في اتخاذ إجراءات عملية توضح كم هو جاد في الدعم المطلق للكيان الصهيوني، وأنّ حديثه عن التهجير في الأسبوع الأول من رئاسته لن تكون زوبعة إعلامية سرعان ما تهدئ أو تتوقف.
فترامب ألغى قرار الرئيس السابق جو بايدن بتعليق إمداد إسرائيل بقنابل "إم كيه 84" الفتاكة والتي تزن طن على الأقل، والتي استخدمت في اجتياح رفح بغزة في أيار/ مايو 2023.
كما رفع العقوبات عن المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية وهدد بمهاجمة المحكمة الجنائية الدولية لإصدارها أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت.
هذه التصريحات والمواقف ليست جديدة تماما، بل تمثل جزءا من استراتيجية طويلة لإعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية
في الحقيقة هذه التصريحات والمواقف ليست جديدة تماما، بل تمثل جزءا من استراتيجية طويلة لإعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية، فترامب في فترته الأولى اعترف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية لها واعترف بالسيادة الصهيونية على الجولان، وأخيرا سعى لتنفيذ صفقة القرن في فترة رئاسته الأولى وتجاوب معها السيسي وقتها إعلاميا على الأقل. وكانت تقضي في جزء منها بتبادل أراضٍ بين مصر والكيان الصهيوني، والجزء الذي ستحصل عليه إسرائيل من سيناء يتم توطين فلسطينيي قطاع غزة به.
ثم تحدث ترامب عن الموضوع ثانية أثناء حملته الانتخابية الأخيرة، عندما قال إن مساحة إسرائيل على الخريطة تبدو صغيرة وتحتاج إلى زيادتها، ولا تحتاج إلى أن تكون ذكيا لتفهم أنَّه يقصد التهجير إلى سيناء والأردن، ثم أخيرا هذه التصريحات بعد توليه الرئاسة.
هذه المقدمة كانت ضرورية لفهم أنّ ترامب جاد في تنفيذ مخطط التهجير، وأنّه سيكون أهم ملف له في الشرق الأوسط خلال فترة رئاسته الثانية والأخيرة.
وهذا الملف يضع السيسي فعليا في مأزق حقيقي بين ثلاثة أطراف رئيسية:
غضب الشعب المصري المعروف بدعمه التاريخي للقضية الفلسطينية، ورفض أي محاولات لتفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها، فالحديث عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعيد للأذهان مخططات إسرائيلية قديمة مثل "مشروع ألون" الذي ظهر بعد احتلال سيناء عام 1967.
أي موافقة ضمنية على هذا المخطط ستعتبر خيانة كبرى للضمير الوطني المصري والإسلامي، وسوف تزيد حجم الغضب الشعبي على السيسي مما يهدد باستقرار حكمه.
من ناحية المؤسسة العسكرية فهي تعتبر ملف التهجير خطا أحمر حقيقيا بالنسبة إليها، وليس دافع الأمن القومي هو سبب ذلك؛ وإلا لكنا رأينا شيئا مختلفا من المؤسسة العسكرية في ملف التنازل عن تيران وصنافير أو سد النهضة أو غيرها من ملفات الأمن القومي الحيوية.
المشكلة لدى الجيش الذي يعمل كشركة قابضة كبيرة حاليا أن التهجير لا يعني فقط انتقال مواطني غزة لسيناء، ولكن انتقال المقاومة الفلسطينية كذلك معها إلى سيناء، مما يعني أن تتحول سيناء إلى نقطة انطلاق للمقاومة ضد الصهاينة مع احتمالية كبيرة لتشكل حاضنة شعبية مصرية كبيرة لها. وبالتالي يفقد الجيش سيطرته على سيناء وربما يكون ذلك إيذانا بثورة شعبية ضده لن يستطيع صدها أو استيعابها هذه المرة، فضلا عن خسائره الاقتصادية المتوقعة.
كما أن المقاومة التي أعجزت وأفشلت واحدا من أقوى الجيوش في العالم ويحظى بدعم أقوى جيوش العالم؛ بكل تأكيد لن يستطيع الجيش المصري السيطرة عليها وستكون معركة خاسرة له بكل المقاييس.
لذلك القبول بفكرة التهجير يعد تهديدا مباشرا لاستقرار نظام السيسي أمام المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل إزاحة قيادات بارزة مثل الفريق أسامة عسكر، وهو ما قد يُضعف ولاء الجيش له وقد ينقلب عليه.
ضغوط ترامب وإسرائيل ستزداد على السيسي كثيرا في الفترة القادمة، فالأوضاع من وجهة نظر صهيونية مثالية للخلاص من صداع غزة والضفة ولن يجدوا فرصة كهذه مرة أخرى. هكذا يفكرون، لذلك سيستمر الضغط الاقتصادي والسياسي على مصر، وهو ما سيجعل السيسي أمام خيارات كلها كارثية بالنسبة له
لذلك أعتقد أن ضغوط ترامب وإسرائيل ستزداد على السيسي كثيرا في الفترة القادمة، فالأوضاع من وجهة نظر صهيونية مثالية للخلاص من صداع غزة والضفة ولن يجدوا فرصة كهذه مرة أخرى. هكذا يفكرون، لذلك سيستمر الضغط الاقتصادي والسياسي على مصر، وهو ما سيجعل السيسي أمام خيارات كلها كارثية بالنسبة له.
فالموافقة على التهجير تعني صداما مع الجيش، وقد تكون فرصة للجيش لخلعه وتحميله لأخطاء وكوارث الفترة الماضية.
وإذا افترضنا أنه استطاع تطويع الجيش وتقليم أظافره للقبول بالصفقة بضغوط أمريكية صهيونية فستنتقل المقاومة إلى سيناء، وسيحصل تواصل طبيعي بينها وبين الشعب المصري ويلتحمان معا، وتلتهب سيناء فضلا عما إذا قام الجيش بقمع الشعب الفلسطيني أو مقاومته فسيكون سببا إضافيا لغليان الشعب المصري وانفجار الأوضاع داخليا، وهي تحتاج إشارة فقط لاشتعالها بسبب الضغوط الاقتصادية المتزايدة والقمع السياسي المتصاعد.
وإذا رفض السيسي التهجير فقد يتم الضغط اقتصاديا عليه لأقصى درجة، مما قد يؤدي إلى انهيار الأوضاع واشتعال ثورة ضده، كذلك ويمكن كذلك -وهذا سيناريو وارد- أن تقوم واشنطن وتل أبيب بالبحث عن بديل من داخل الجيش يمكنه تمرير التهجير واستخدامه لعزل السيسي وتحميله كل أخطاء الماضي، مع ثمن جيد في صورة مساعدات اقتصادية لتهدئة الشارع وتمرير التهجير في نفس الوقت.
بعض السيناريوهات المطروحة تقول إن التهجير قد لا يتم إلى سيناء، لعدم مهاجمة الكيان عبرها، وأنه سيكون من خلال دمجهم في الشعب المصري في المحافظات الداخلية، ولكن ذلك ستكون له مخاطر أمنية لا تنتهي كذلك، وقد تتحول مصر إلى حاضنة كبيرة للمقاومة ويعيش النظام نفس الورطة وربما أسوأ.
بكل تأكيد مثّل المشهد المهيب والتاريخي لعودة النازحين الفلسطينيين من جنوب غزة إلى شمالها إفشالا عمليا لمخطط التهجير، وهذا ما نتمناه، لكن ما يهمنا هو أنه لا ترامب ولا نتنياهو وحكومته سيتوقفون عن ممارسة الضغوط على مصر لتمرير المخطط بشكل كلي وجزئي.
هذه الضغوط هي التي ستجعل وعد السنوار الكبير بأنّ الطوفان سيغير الشرق الأوسط سيتحقق، فهذه الضغوط المتوقعة على النظام المصري والأردني ستجعل تأثير معركة طوفان الأقصى لا تتوقف عند غزة ولبنان وسوريا فحسب، ولكنه سيمتد قريبا إلى مصر وربما الأردن كذلك، وعلى الشعوب العربية ونخبها أن تتهيأ لاقتناص الفرص، فالفرص لا تتكرر كثيرا والتاريخ يحترم فقط من يدرك فقه زمانه ومكانه.