يستأنف المفكر والأكاديمي فهمي جدعان في كتابه الصادر مؤخرا "معنى الأشياء.. رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر" ما انشغل به على مدى نصف قرن، من اشتباك مع قضايا الفكر العربي الإسلامي قديمه ومعاصره.

وفي كتابه، يؤكد جدعان ما ذهب إليه في مشروعه من مقولات عن التراث، ويرد على القائلين بالقطيعة معه، ويتوقف عند محطات بارزة في التاريخ العربي الإسلامي ودوله، مصححا مقولات وموضحا رأيه فيها.

رسالة في وجودنا

يستهل صاحب "أسس التقدم عند مفكري الإسلام" بالتعريف بمنهجيته في ما يريد من رسالته، إذ "هي مقالة مرسلة تنطق بما انتهى إليه تفكيره في ما يقدر أنه أكثر الأشياء أهمية في وجودنا، المشخص المباشر".
ورسالته ليست "بحثا" تقليديا يجري مجرى البحوث الأكاديمية التي جرى عليها في أعمال أخرى كما في الدراسات و"الرسائل الجامعية" العلمية أو المصنفات البحثية التقليدية.

وهي إذا كانت كذلك إلا أنه يؤكد التزامه الأخلاقي بدقة وصحة ونسبة كل ما يسوقه من أقوال أو أفكار أو نصوص لهذا المفكر أو الفيلسوف أو الكاتب.

ويعرف بالخطاب الذي يجنح إليه ويتوسل به ويميزه عن خطاب "الدعاة " الدينيين، والخطاب الذي ينتحله المثقفون ومن يلحق بهم ممن ينعتون بـ"مثقفي النخبة".

بين الداعية والمثقف

يميز جدعان بين الداعية والمثقف ووظيفتهما، فالأول لديه يمثل النص الديني الإلهي -أي الوحي قرآنا وسنة- الدليل عنده. وفي وظيفته ينشد هداية الآخرين، ويتوخى تحويل الشاك أو غير المؤمن أو اللاأدري إلى مؤمن، ويتولى الدفاع عن معاني الأخلاق والتقوى.

أما المثقف فهو داعية دنيوي يجمل نفسه بنعت المفكر، مع أنه في الغالب الأعم لا ينتمي إلى مقولة المفكر، وهو في وجهه العملي الرسالي يتوخى قبل كل شيء مطلب التغيير، هو كالداعية يريد تغيير واقع الفرد والمجتمع والدولة وأن يستبدل بهذا كله واقعا أصلح وأفضل.

ويمضي إلى القول بأن المثقف رهين "الشارع الاجتماعي"، إذ إن قضيته الأساسية تظل مقترنة بالتغيير السياسي والاجتماعي، والمثقف في إهابه الذاتي تستبد به النرجسية، لا النرجسية المناضلة المنافحة عن قوة الذات وتعزيزها وجوديا قبالة عوامل الإحباط وقيود الحياة الشخصية والجمعية، بل النرجسية التي تطلب المجد والشهرة وتتجلى في الفردية الأنانية الضاربة في العجب الذاتي وفي الأنا المستعدة للتضخم.

المثقف والمفكر

كذلك يفرق بين المثقف والمفكر، ويرى أن جل المنصرفين إلى الشأن الثقافي لا يتبينون معنى الفرق والتمييز بين "المثقف" و"المفكر"، وبعض هؤلاء مثقفون مرموقون أو ناشطون سياسيون أو كتاب عامون يرفلون في ثياب الشهرة والنجومية، لكنهم يحرصون على تزيين أنفسهم وتجميلها بأن يطلقوا على أنفسهم رسم "المفكر" وهم ليسوا كذلك.

وفي التمييز بين وظيفتي المفكر والمثقف يرى أن "تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية" هي وظيفة المثقف، مثقف غرامشي أي "المثقف العضوي"، لا وظيفة المفكر.

ويحدد أن المثقف "لا يبحث عن حقيقة الأشياء الوجودية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية، وإنما يسعى لتحويل الأفكار المتعلقة بهذه الأماني والرغبات إلى وقائع مشخصة".

أما المفكر فهو فيلسوف بمعنى ما، أو أنه إنسان يتمثل الأشياء تمثلا فلسفيا وعلميا ويعبر عن حقائق الوجود سواء أكان هذا الوجود معرفيا أم اجتماعيا أم سياسيا أم أخلاقيا أم غير ذلك.

ويخلص صاحب كتاب "الماضي في الحاضر" في معرض مناقشته لقضية الدين أن "دين الإسلام في منطوقه الرسالي -أي في الرسالة المعروضة على البشر وبموقفه الجذري المناهض للوثنية العربية- يتصف بميزتين أساسيتين، هما العقلانية والواقعية، وبفضل هاتين الميزتين استطاع هذا الدين عبر العصور والمعطيات التاريخية المتغيرة أن يطور أحكامه الشرعية لتوافق التحولات الموضوعية والمشخصة".

ويقر بأنه "في زمننا الحالي نشهد إسلاما شعبيا موازيا يفت في عضد التمثل والفهم العقلانيين للدين، ويذهب بالاعتقاد الإسلامي إلى كهف التمثلات السحرية الخارقة التي تنتشر بين العامة انتشار النار في الهشيم، وتدمر كل القواعد والأسس التي يقوم عليها الإسلام العقلاني".

ويسجل الكاتب أنه مع نهاية العصر النبوي وما تلاه من عصر أموي وعباسي، ومع تفكك الأخير قد انحسر "الدور الرسالي" القديم لأمة العرب التي تبدلت قسماتها وملامحها وحدود شعوبها وخلفت وراءها تاريخا وتراثا.

في التراث

وإذا كان التاريخ العربي قد انتهى إلى صوان الذاكرة، فإن التراث العربي قد عاند المصير الذي شهده التاريخ، إذ ظل مقيما حيا فاعلا بل "مقدسا"، لكن فاعلا تاريخيا جديدا هو الفاعل الأوروبي ما لبث أن تدخل بقوة ليخلخل قواعد هذا التراث باسم فاعل جديد هو فاعل الحداثة.

ويرى أن هذا التدخل أوغل إيغالا عنيفا حين أعلن سدنته من العرب أن ما ينبغي فعله لتحقيق التحرر والنهضة هو وضع حد لتدخل التراث والتوجه إلى ارتكاسة القطيعة معه.

بدعة القطيعة مع التراث روج لها -حسب جدعان- كتاب ومثقفون ليبراليون وعلمانيون وتغريبيون من كل المشارب.

ومن بين من دعا لهذه البدعة الروائي واسيني الأعرج وعبد الله العروي الذي "فتن بها وروج لها ونافح عنها في غياب كامل للحكمة والتبصر والاعتدال وفي وثنية فاجعة".

ويخلص في محاججته لدعاة القطيعة إلى أن ما يغلب عليهم هو أنهم في الغالب الأعم مظهر من مظاهر ثقافة ما بعد الكولونيالية التي تسعى إلى تعميق الفجوة بين الحاضر العربي وبين الماضي وإلى التهوين من شأن الثقافة والعلوم والفنون العربية وإشاعة معاني الهجر والضحالة قبالتها وامتهان معنى الاستقلال الذاتي والأصالة.

ويعتبر أن جميع القرائن تشير إلى أن قضية التراث ستظل أحد هواجسنا الرئيسية في القابل من أيامنا، وتشير أيضا إلى أنها إن لم توضع وضعا صحيحا ستظل مصدر قلق مقيم وحيرة للأجيال التي ستنحدر من أصلابنا.

في التاريخ

في معرض رؤيته للتاريخ، يتوقف جدعان عند الحكم الأموي ويرى "في النظام الأموي اجتمعت قوى الشهوة والرغبة والمنفعة والمجد لتقود المؤمنين في عملية فتوحات كاسحة"، ولتشير أيضا إلى المنافسة والنزاع والتقاتل والتوزع في 72 أو 73 فرقة.

أما في الحكم العباسي فإنه ربما بفضل العناصر الإثنية غير العربية التي غلبت عليه جعل من قيمتي الحكمة والمتعة القيمتين الرئيستين. ظهر ذلك في نشأة وتطور الفلسفة والعلوم والفنون في الحياة العامة التي يغلب عليها الجنوح على اللذة والمتعة والبهجة.

وعن الدولة العثمانية، رأى أنها كانت دولة سياسية بكل المعاني والمقاييس، لكنها كانت تسوغ مشروعيتها وسيادتها بالانتساب إلى الدين الإسلامي ومن المؤكد أنه لم تكن للعرب منزلة قيادية في هذه الدولة.

وألمح جدعان إلى أن ما حدث من تنكيل بالرموز القومية العربية، إنما هو مجابهة قومية بين النزعة الطورانية والنزعة القومية العربية.

ووجد أن الدولة العثمانية لا تحمل أوزار العقدين اللذين شهدا تلك المجابهة وما ثبت من الوقائع السياسية التي اتبعها آخر سلاطين بني عثمان، وعلى وجه الخصوص عبد الحميد الثاني في موقفه من الإغراءات الكبيرة التي عرضت عليه من أجل التنازل عن الحق الإسلامي ووقوفه في وجه المخططات الاستعمارية التي كانت تحاك في أمر فلسطين، يقطع بذلك.

في فكر النهضة

ويرد المفكر فهمي جدعان على القائلين بأن النهضة مستحيلة ويقول "لا يتحرج كثيرون من إرسال القول إن النهضة مستحيلة، ولهم في ذلك فذلكات كثيرة ولعل الروائي الفرنسي الجزائري واسيني الأعرج أبرزهم، فهو إلى جانب دعوته إلى القطيعة مع التراث، يزعم أن النهضة العربية تظل مشروعا مستحيلا، لماذا؟ لأن هناك من يعطل القطيعة مع الدين ومع التراث، هكذا يتحول الروائي إلى فيلسوف منظر وإلى محلل للأفكار! ومثله كثيرون".

ويرى أن النهضة لم تحقق مقاصدها لكن أن تكون مستحيلة فزعم يضرب في العدمية المذنبة.

وبعد أن يعرض لجهود رموز النهضة كالكواكبي والأفغاني والزهراوي يخلص إلى أن "عصر النهضة وعلى الرغم من إخفاقاته، لم يكن حلما تراءى ثم انطفأ، وإنما كان عصر تنوير حقيقي أحاط فيه مفكروه ومثقفوه بحشد كبير من المعاني والقضايا".

وعن العلاقة مع الغرب وحداثته، يحدد جدعان موقفه إذ يقول: "لست من يطوي للغرب وقيمه جناحه، وأنا أذهب بقوة إلى أن الحضارة الغربية والقيم الديمقراطية الليبرالية بالذات ليست قدرا لنا، وأنه يجب علينا أن نبحث عن طريقنا وعن خلاصنا الذاتي في حدود وجودنا المباشر".

يضيف إذا كان هذا الوجود المباشر يطلب الحداثة، "فإنني لا أجد هذه الحداثة في الحداثة الغربية في أشكالها الأخيرة المعاصرة، وإنما في حداثة خاصة بنا، أي حداثة ناطقة بما يجسد روحنا الذاتية وفرادتنا التاريخية".

يذكر أن فهمي جدعان حاز درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام من جامعة السوربون سنة 1968، وعمل أستاذا في الجامعة الأردنية وجامعة الكويت. وله مؤّلفات عدّة منها "المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام"، و"الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية"، و"أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، و"في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، و"خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، و"تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات"، و"طائر التم-حكايات جنى الخطا والأيام".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات القطیعة مع إلى أن

إقرأ أيضاً:

الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب

الكتاب: الغرب نقيضا للحضارة
المؤلف: روبير جولان
المترجم: مراد دياني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


في العام 1974 وضع عالم الإثنولوجي الفرنسي روبير جولان (1928-1996) هذا الكتاب الذي جمع فيه بعضا من مقالاته، وحوارات صحفية أجريت معه، بالإضافة إلى مقالات باحثين آخرين، تدور كلها حول موضوع "الإبادة العرقية" وممارساتها، بما تعنيه من "إنكار" النظام الغربي وإبادته لأي ثقافة أخرى، لا سيما ثقافات الشعوب الأصلية. هي إبادة، كما يشير مترجم الكتاب مراد دياني في المقدمة، تسعى بحسب جولان "للقضاء كليا على وجود الآخر وهويته وحضارته، كما تسعى لاستلابه وتغريبه تغريبا تاما تمحي معه جميع خصوصياته الذاتية، وهي كذلك لا تتوقف عند حدود الآخر غير الغربي، بل تتعداه إلى كل من يقف في طريق الغرب لتحويل العالم إلى سلعة أو مادة استعمالية، حتى لو كان من داخل الغرب ذاته".

يقول دياني أن الفكرة الرئيسية عند جولان تقوم على أن "روح" الغرب هي روح أحادية ونافية للآخر ومنغلقة على الذات. وبالتالي فإن الغرب أو "الحضارة" الغربية نشأت في عمقها على إنكار الآخر ورفض التعايش معه، وقد تجلى ذلك بوضوح في إبادة السكان الأصليين في الأميركتين. وقد أجرى جولان دراسات على الكثير من السكان الأصليين في إفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية، وأقام لفترات طويلة بين قبائل الهنود الأميركيين الأصليين، حيث تعمّق نضاله ضد ما يسميه "الإبادة العرقية".

حضارة "لا تطيق" الحضارات

يقول جولان إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.

ويضيف أنه "في عامي 1947و1948 بحثت اللجنة السادسة للأمم المتحدة مفهوم الإبادة الجماعية، وتمت حينئذ الإفادة بوقائع الإبادة الثقافية، غير أن اللجنة رفضت في نهاية المطاف فكرة الإبادة الجماعية الثقافية بحجة أن ذلك قد يلحق الأذى بمفهوم الإبادة الجماعية. فقد كان العالم خارجا من الحرب والنفوس مهووسة حقا بذكرى أفران المحرقة." ويرى جولان أن الشعور بالذنب المرتبط بتصفية "عرق يُزعم أنه معبر عن إثنية يحجب مشكلات تصفية الشعوب باعتبارها معبرة عن ثقافات وحضارات".

إن "الإبادة العرقية" تشير إلى فعل تدمير الحضارة، أي فعل "نقيض الحضارة"، ويمكن أن يستخدم هذا الفعل لتوصيف "الفاعل" المدان بالإبادة العرقية. وهو مصطلح عُرف منذ زمن طويل لكن جرى رفضه لانعدام سياق يسمح باستخدامه، لأن المصارحة الرسمية لمشكلة الإبادة العرقية، بحسب جولان، كانت محظورة منذ قرون، وعُدت استحالة أو مزحة في بلاد الغرب.في حوار مع جولان نشرته مجلة أرجنتينية يسأله المحاور عما إذا كانت الإبادة العرقية مسألة خاصة بالغرب والعالم الأبيض المسيحي، فيجيب بأنه يراها كذلك بالفعل. ويقول إن الغرب ينظر إلى نفسه باعتباره نموذجا للبشرية في الحاضر والمستقبل، وبالتالي يميل إلى اختزال ما هو ليس كذلك، ويؤدي هذا الميل إلى  محاولة للتوسع في كل شيء وغزو العالم.

ويضيف إن الإبادة العرقية هي "في المقام الأول تتعلق بإحداث الاختلال في النظام اليومي للآخرين. أي تدمير نمط تنظيم علاقات الإقامة والجوار بقدر ما هو تدمير نمط تنظيم علاقات الاستهلاك والإنتاج. فعندما لا نعود أحرارا في النوم في منزل كبير مشترك كله راحة، مصنوع من أوراق الشجر، وعلينا باسم التقدم أن نعيش في منزل صغير ومعزول ومصنوع من الأسمنت، فمن الواضح أن هناك تدميرا للبنية الاجتماعية المرتبطة بهذا البيت الجماعي بأسرها". ويرى جولان أن الحضارة الغربية "لا تطيق" الحضارات الأخرى، وهو ما يثبت أنها، على حد قوله، نقيض للحضارة، وبينما يمكن ملاحظة أن الحضارات الأخرى تحترم اختلافات الآخرين فإن الحضارة الغربية بذلت قصارى جهدها لتدمير الآخرين تحت عنوان زائف هو "الاندماج".

ويضيف إن الهنود الأمريكيون الأصليون لم يزعجهم أبدا وجود البيض، بل أن البيض هم من يزعجهم وجود الهنود الأصليون الذين يبدون تسامحا وقبولا للآخرين (الغرب) "أكثر من اللازم"، لكن للأسف يجري تدميرهم برغم ذلك.

الغرب المتعطش للغزو

في فصل من الكتاب مخصص للحركة الهندية الأمريكية يقول جولان إنه منذ بضعة قرون عمد الأوروبيون إلى تملك الأرض بطريقة غريبة، يحركها الاعتقاد بأنهم يمتلكون عليها حق الإحياء وحق الإماتة. فتعاملوا معها، بكل ما فيها، ليست باعتبارها كائنا آخر يمكن عقد تحالفات معه، بل عبدا خاضعا. ويضيف أنه مع ما شهدته أوروبا من عمليات تحديث، "وجدت الحضارات الزراعية فيها نفسها معنّفة، ووجد المزارعون أنفسهم مطرودين من ديارهم، فتطورت طبقة اجتماعية من المحبطين وذوي الشره المرضي".

مع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال..هؤلاء، الذين سيصبحون مستوطنين بعد ذلك، كانوا، بحسب جولان، التعبير الأكثر سطوعا لمعنى الغرب المتعطش للغزو والحصول على "الكون" كله، إلى حد الإشباع، بعد أن حرموا من الأرض. المستوطنون البيض الغربيون، الذين ادعوا اكتشاف أمريكا، سينكرون وجود الهندي الأميركي الأصلي، وبالتالي سيكون شاغلهم الأساسي قتله، "لأنهم كانوا حريصين على كسر العلاقة التي يعقدها الهنود الأصليون بالعالم". وعمليات القتل هذه ستتم بآلاف "الحيل والأعمال الخسيسة.. وبالخيانة أكثر من الشجاعة أو أي من أشكال التفوق، وهذه الخيانة تغذت دائما على نبل الهنود الأميركيين وكرمهم".

لذلك اختلطت المذابح بالمعاهدات، بحسب ما يقول جولان، التي لم تحترم يوما، وبموجبها احتفظ الهنود الأصليون بالقليل جدا من الأراضي التي صارت تعرف ب"المحميات". لكن القتل لم يكن سوى مرحلة أولى من "إكراه" يسعى لتدمير الحضارات الهندية الأصلية، وبعد ذلك إدماج من يتبقى من الهنود في عالم الرجل الأبيض. وقد انتهت عمليات الإبادة الجماعية إلى قتل نحو 150 مليون هندي أميركي أصلي في أميركا الجنوبية، ونحو 50 مليون في أميركا الشمالية، بطرق وحشية.

فرنسا التي تأخذ كل شيء

يتضمن الجزء الأخير من الكتاب دراسة عن الأساليب التي تقدم عبرها كتب التاريخ المدرسية في فرنسا صورة ازدرائية للحضارات غير الغربية. ويرى جولان أن ذلك يحقق ثلاث وظائف أساسية؛ "الأولى الإسهام في الاستدامة الأبدية لأنماط التفكير العنصرية، والثانية تطوير التعصب وعدم التسامح إزاء الآخرين، والثالثة "تسليح" مواطني المستقبل من أجل إشراكهم في حركة إنكار الحضارات الأخرى".

ويضيف أن ما وجده في الكتب المدرسية هذه ينسحب على ميادين أخرى مثل الصحف والمجلات والإذاعات، ما يفسر، بحسب ما يقول، حالة اللامبالاة الغربية أمام ما يجري في العالم من قتل ثقافي للكثير من الشعوب. ومن خلال سرد قصة الاستعمار، وعبر محورين أساسيين هما إضفاء القيمة وتبخيس القيمة بالنسبة إلى ثنائية المستعمِرين والمستعمَرين، سعت كتب التاريخ هذه إلى تخليص فرنسا من أي مسؤولية في غزو مناطق أخرى، والحديث عن أن هذا الغزو أو الاستيطان تحول إلى حرب يلقى فيها اللوم على الخصم. ويبدأ ذلك بإضفاء الشرعية على هذا الاستعمار والاستيطان، وتقديم ذرائع واهية له، ثم إضفاء شرعية أخرى على توسع الصراع، وتقديم الفرنسي على أنه المنقذ الذي يحاول إدخال الآخرين في مسار الحضارة. وبينما يمنح العسكري الفرنسي صفاتا نبيلة ينال الآخر(المقاوم وصاحب الأرض) أحط الصفات وأخبثها.

يقول جولان إن مفهوم الحضارة في هذه الكتب يجري ربطه بالتقدم كما هو متعارف عليه في الحضارة الغربية، وبالتالي فإن كل مجتمع أو شعب لا يعيش وفق هذا المعيار متخلف. "ولا يجري أبدا الاعتراف بخصوصية الحضارات الأخرى وأصالتها، بل يجري إرجاع كل شيء إلى المقارنات". أما المستوطنون فيساهمون إلى جانب العسكريين والمستكشفين والمبشرين في جعل البلاد المستعمرة دولا حقيقية، تمتلك مدنا وطرقا ومصانع ومدارس ودساتير. " ومع هذا التراكم للهبات الكاذبة، نجد أنفسنا في مواجهة مفارقة صادمة ومثيرة للسخط، إذ يجري تقديم فرنسا باعتبارها الحضارة التي تمنح كل شيء، في حين أنها تأخذ كل شيء، وإن منحت شيئا فهو البؤس والاستغلال".

مقالات مشابهة

  • اليوم الثاني من الفعالية الثقافية صور من التراث السوري التي تنظمها وزارة الثقافة على مسرح دار الأوبرا بدمشق
  • الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب
  • "أرسم مدينتك".. معرض فني بقصر ثقافة الأنفوشي احتفالا بيوم التراث
  • السوداني: أهمية إسهام الشركات الإيطالية في النهضة الشاملة التي يشهدها العراق
  • معنى اسم رجوة
  • أبوظبي للكتاب يناقش دور الحكاية العربية في السينما العالمية
  • “الأشموني” يناقش الاستعدادات لمهرجان الشرقية للخيول العربية وتطوير حديقة الحيوان
  • ما الثقافة ومن المثقف؟ رحلة في تجلية المفهوم بين العربية والفلسفة
  • فرقة مصطفى كامل للموسيقى العربية تحيي احتفالات تحرير سيناء بوادي النطرون
  • شلقم: رحل الاستعمار عن بلادنا وبقي اللسان العربي راسخاً في أرضه