«عباقرة الظل»، حلقات نشرتها «البوابة»، منذ سنوات، للكاتب المبدع مصطفى بيومي، وصدرت فى كتاب بالعنوان نفسه، ويتناول الحديث عن عدد من الممثلين الأقل شهرة عن نجوم الصف الأول، وقدموا أدوارًا معقدة ظلت باقية فى أذهان الناس، ويطلق عليهم أعمدة الطبقة الوسطى فى السينما المصرية، ويرى «بيومي» أن كثيرًا من هؤلاء العباقرة لعبوا أدوارًا لا تقل أهمية عن أدوار البطولة، حملت مقولات معبأة بالفلسفة الشعبية الخالصة.

. تحيةً لروح كل نجم من هؤلاء النجوم، تعيد البوابة نشر بعض هذه الحلقات.

يطغى حضورها على الآخرين ويفرض السطوة لتصبح نقطة الارتكاز بلا مزاحمة

تاريخ حافل بالإبداع، ونجاح استثنائى بلا شبيه في تجسيد أدوار الشر بتجلياته المتباينة، لها بصمتها التى لا تُنسى في تاريخ السينما المصرية، والأدلة على تفردها تفوق الحصر.

تعذب الأطفال بلا رحمة، وتقسو مثل شيطان على نزيلات الملجأ، وتحترف الإقراض بالربا كأنها المهنة التى تهب لها عمرها، ثم تراها داية جشعة أو امرأة سادية مولعة بالأذى، وهى قبل ذلك وبعده «ريا» المخيفة المرعبة قاتلة النساء وسارقة حليهن.

ويوافق يوم ٢٥ فبراير ٢٠٢٤ الذكرى الـ١١٠ لميلاد الفنانة القديرة نجمة إبراهيم التي ولدت في مثل هذا اليوم من العام ١٩١٤، وخلال مسيرتها الفنية تميزت ببصمة لا يمكن تجاهلها في تجسيد أدوار الشر.

نجمة إبراهيم نسيج منفرد وموهبة فذة، وأدوارها المنفرة تصنع مجدها الذى لا يتبخر أثره أو يتلاشى.

امرأة شرسة بلا قلب

فضة في «اليتيمتين»، ١٩٤٨، امرأة شرسة بلا قلب، يطول أذاها ابنها حسونة «أبو رجل ونص»، فاخر فاخر، وتستغل التائهة العمياء نعمة، فاتن حمامة، في أعمال التسول وبيع اليانصيب. سكيرة تتلذذ بالعنف الذى يبدو عندها هدفًا في ذاته، ويتحول النشاط الإجرامى الفردى المحدود إلى عمل احترافى منظم متسع في «جعلونى مجرما»، ١٩٥٤.

شخصية «دواهي» دور لا يُنسى في السجل الإبداعى الثرى لنجمة إبراهيم، ودليل ساطع على تفوقها في تقديم الشر الذى لا يعرف خباياه سواها. زعيمة تقود رجالًا أشداء يذعنون لأوامرها، وتسخّر عددا هائلا من الأطفال لأعمال النشل والتسول. إدارتها صارمة، وقاموسها يخلو من مفردات الحس الإنسانى كافة. تعذب الصغار كأنها تؤدى عملا روتينيا، وتتفنن في أساليب التهديد والابتزاز. وجهها المخيف حاد القسمات يسعفها على الصعيد الشكلي، وصوتها ترجمة متقنة للقسوة التى تسكنها.

مديرة الإصلاحية

ليس مستغربًا أن تتألق نجمة في تجسيد شخصية مديرة الإصلاحية في «أربع بنات وضابط»، ١٩٥٤. الصرامة التى تلازمها أداتها الرئيسة في الإدارة والتعامل مع النزيلات اللاتى لا تعترف باحتياجهن إلى العطف والحنان، بل إن قسوتها تمتد إلى الحيوان فتقذف بالقطة من نافذة العنبر بلا تردد. تشتم وتضرب، وتواجه الضابط الحنون، أنور وجدى، بفلسفتها التربوية المتشددة المغايرة لما يتبناه من أفكار: «دول وش إجرام.. ما ينصاعوش إلا بالقسوة.. بالشدة.. بالضرب».

الإصلاحية، في ظل قيادتها، أشبه بالسجن الذى يعتمد سياسة «العقاب» دون تفكير في «الإصلاح»، وكالعهد بها دائما لا تقنع نجمة بالإطار الشكلى وأدواته التقليدية المتاحة لغيرها، ذلك أنها تغوص في أعماق الشخصية وتمسك بمفاتيح السلوك ودوافعه.

تجسيد شخصية المرابية

احتراف الإقراض بالربا مهنة مرذولة جديرة بالازدراء والتقزز لمزيج من الأسباب الدينية والاجتماعية، وقد يختلف المرابون في الجنس والعمر وحجم النشاط الذى يقومون به، لكن ملامح تكوينهم النفسى تتشابه وتتقارب إلى حد كبير، ذلك أن الولع بالاستغلال والنهم في ابتزاز الزبائن المقهورين بالفقر والحاجة ينعكس بالضرورة على نمط التفكير ولغة الحوار وإيقاع الحركة. ليس من متسع للخلاف عند القول إن نجمة إبراهيم هى الأعظم في تجسيد شخصية المرابية، وهو ما نجده عند أم جابر في «حب في الظلام»، ١٩٥٣، وأم هلال في «الجريمة والعقاب»، ١٩٥٧.

لا تكمن عبقرية نجمة في المحاكاة الشكلية السطحية، ويتمثل تفردها الجدير بالإعجاب غير المحدود في الوعى بالأبعاد النفسية التى تترك آثارها في الفكر ونبرة الصوت وبريق العينين وطريقة المشى التى توحى بالإرهاق العمدى المصنوع المحسوب. تدافع أم جابر عن مهنتها الكريهة وتضفى عليها مشروعية زائفة تعى أنها مجرد كلمات لا تقنع أحدا:«ما بأخلص من قرّ الناس.. وأنا تاعبة روحى عشانهم.. عاملالهم شمعة.. أنور عليهم وأحرق روحى».

في الفيلمين، تصل نجمة إلى القمة التى تمثل تحديا مستحيل التجاوز لمن بعدها، ومن علامات النجاح أن تحظى بكراهية أصيلة تحول دون التعاطف معها والإشفاق عليها عند الوصول إلى محطة القتل، فمثل هذا المصير مستحق مبرر.

الداية الشريرة

قبل شيوع الاستعانة بالأطباء في عمليات توليد النساء الشعبيات وعلاجهن، كان الاعتماد كاملًا على الداية. المهنة تعبير عن تحالف الفقر والجهل، والعاملات في ساحتها خليط من الطيبات حسنات النية والشريرات الأقرب إلى المجرمات المحترفات.

يتكرر تجسيد الفنانة الكبيرة لشخصية الداية، فهى أم بدوى في «رنة الخلخال»، ١٩٥٥، وأم هلال في «صراع الأبطال»، ١٩٦٢. لا تتورع الداية الأولى عن استغلال مهنتها في تحقيق مكاسب فاحشة من خلال سرقة وتبديل المواليد، في عملية احتيال ونصب ترقى إلى مستوى الجرائم الكبرى.

تتجاوز أم هلال النشاط المحدود لأم بدوى، فهى تلعب دور الطبيب في القرية التى يسيطر عليها الإقطاع في أربعينيات القرن العشرين. تعى أم هلال أن الطبيب الشاب، شكرى سرحان، يهدد قواعدها الاقتصادية الراسخة، ومن هنا تشن حربًا عاتية شعواء ضده، ولا تتورع عن التهديد السافر الذى ينم عن إحساسها بالقوة:«وحق مين رماك في سكتى يا دكتور الغبرا.. لأوحل السكك تحت رجليك».

مع انتشار الوباء وخطورته، لا تملك إلا أن تقر بعلم الطبيب وتستنجد به عند إصابة ابنها الوحيد بالعدوى. بهذا التحول ينتصر الفيلم للعلم ويؤكد حتمية اندحار الدجل والشعوذة، لكن توبة الداية قرب النهاية لا تمحو هيمنة الشريرة نجمة إبراهيم وغياب الحضور المؤثر لطيبتها الاضطرارية.

أرستقراطية متعجرفة

في «أنا الماضي»، ١٩٥١، و«المرأة المجهولة»، ١٩٥٩، تبدو القسوة منطقية مبررة، فهى أقرب إلى رد الفعل في مواجهة الظلم الفادح الذى تتعرض له أمينة بسيونى وشقيقها في الفيلم الأول، ومعطيات الظاهر الذى يؤكد خيانة زوجة الابن في الفيلم الثانى.

التشبث العنيد بالتقاليد العائلية والقيم الأرستقراطية المتعنتة المتعجرفة، يدفع أم الدكتور أحمد، عماد حمدى، وشقيقته سعاد، زهرة العلا، في «الليالى الدافئة» ١٩٦١، إلى قسوة متطرفة تحطم حيوات الابن والابنة والحفيدة الطفلة. تنطع بلا ضفاف ينتهى بتحول مباغت لا يبدو مقنعا، والمشهد الأخير حيث الاعتذار والتراجع باهت هش، مقارنة بالمشاهد السابقة الحافلة بالغطرسة والتعالي، كأن نجمة إبراهيم نفسها لا تجد ما يقنعها بتغيير سلوكها المعهود.

بهية، زوجة سائقة القطار جابر، محمود لطفي، في «الحرمان»، ١٩٥١، أم بديلة مفرطة في القسوة على الطفلة منى، نيللي. تسخّرها في الأعمال المنزلية الشاقة، وتقص شعرها، وتجبرها على ارتداء الملابس القديمة المهلهلة لابنها، ما يدفع الفتاة إلى الهرب من فرط العذاب. زوجة متسلطة متغطرسة، ونزعة عدوانية سادية غير مبررة، وبلا دوافع مقنعة.

قرب نهاية رحلة نجمة مع السينما، تظهر شخصية العمة القاسية توحيدة في القصة الثالثة والأخيرة من «٣ لصوص»، ١٩٦٦. تلعب الممثلة الكبيرة خارج ساحتها المعتادة، والإطار الكوميدى لا يتوافق مع المدرسة التى تنتمى إليها وتتحقق من خلالها.

صوت عميق مخيف

«ريا وسكينة»، ١٩٥٣، العلامة الأبرز والأشهر في مسيرة نجمة إبراهيم، والبراعة في تجسيد شخصية ريا تصنع صورتها النمطية الشائعة التى تقترن بها وتجعلها الملكة المتوجة فوق عرش الشر.

زعيمة إجرامية محترفة بكل ما تعنيه كلمات الزعامة والإجرام والاحتراف، وتخطيط وتنفيذ جرائم القتل والسرقة ينم عن الذكاء المفرط. الحضور الطاغى للممثلة المتمكنة يفرض السطوة التى تزيح الآخرين وتجعلها المحور ونقطة الارتكاز بلا مزاحمة. صوتها العميق المخيف يبث الرعب، ومن العينين ينطلق بريق يشبه الشرر ويضفى على الوجه الحاد مزيدا من التجهم.

في عفوية صادقة على الرغم من الغرائبية، بالنظر إلى ما في كلماتها من مفارقة، تقول ريا كأنها تشكو من متاعب المهنة وهمومها: «قطيعة.. ما حدش بياكلها بالساهل.. الولية وأنا بنخنقها عضتنى في إيدي.. تقولش عدوتها».

الضحك وارد بطبيعة الحال، لكن الأداء بالغ الجدية، ذلك أن الزعيمة لا تعرف الهزل، والجانب الأكبر من نجاح نجمة مردود إلى يقينها بأن ريا تؤدى عملا، ومهنتها لا تختلف عن غيرها من المهن.

لأنه إبداع صادق متوهج مؤثر، تقتحم القلوب بلا عناء، ومن المنطقى عندئذ أن يطالع الكثيرون وجهها فيستدعون اسم ريا، وقد يغيب اسم نجمة إبراهيم.

ليست المسألة أن تكون الموهوبة المتمكنة نجمة إبراهيم يهودية تشهر إسلامها قبل سنوات طوال من تأسيس دولة إسرائيل، أو أنها عاشت وماتت على دينها القديم، فهى مصرية خالصة قبل أن تكون مسلمة أو يهودية. ما تاريح الفن المصرى إلا حصيلة جهد المصريين والمتمصرين والوافدين، دون نظر إلى هوياتهم الدينية وأصولهم العرقية، ومن هنا تتشكل خصوصية مصر وتفردها قبل أن يضربها الضعف والوهن، لكنها لا تموت.

لا تكمن عبقرية نجمة في المحاكاة الشكلية السطحية، ويتمثل تفردها الجدير بالإعجاب غير المحدود في الوعى بالأبعاد النفسية التى تترك آثارها في الفكر ونبرة الصوت وبريق العينين وطريقة المشى التى توحى بالإرهاق العمدى المصنوع المحسوب. تدافع أم جابر عن مهنتها الكريهة وتضفى عليها مشروعية زائفة تعى أنها مجرد كلمات لا تقنع أحدا:«ما بأخلص من قرّ الناس.. وأنا تاعبة روحى عشانهم.. عاملالهم شمعة.. أنور عليهم وأحرق روحى».

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: تجسید شخصیة فی تجسید أدوار ا أم هلال

إقرأ أيضاً:

«فتاة وبحيرتان».. رواية تُبحر فى أعماق النفس والقدر

فى عالم الأدب، هناك أعمال تأسر القارئ منذ الصفحة الأولى، تأخذه فى رحلة فريدة داخل عوالم الشخصيات، تضعه أمام مرآة ذاته، وتدفعه للتأمل فى حياته وخياراته..ومن بين هذه الأعمال البارزة تأتى الرواية الجديدة للكاتبة أمانى القصاص، «فتاة وبحيرتان»، التى لا تروى فقط قصة فتاة مصرية سافرت بين البحيرات والشعوب، بل تبحر فى أغوار النفس البشرية، وتكشف عن صراعاتها العميقة التى تحدد مصيرها.

رحلة نداء: من الدلتا إلى جنيف

تدور الرواية حول نداء، الفتاة المصرية التى نشأت فى إحدى القرى الساحلية شمال الدلتا، حيث البحيرات المتصلة بالبحر المتوسط كانت تشكل عالمها الأول، تفوقها الدراسى فتح لها أبواب الإسكندرية، ثم حملها طموحها العلمى إلى جنيف بسويسرا، حيث عاشت وسط أرقى المجتمعات وأكثرها حضارة ورفاهية، ورغم هذا الثراء الثقافى والمادي، ظلت روحها تبحث عن شيء ما، عن اكتمال مفقود لم تحققه المدن الراقية ولا النجاحات الأكاديمية.

قصة حب ليست كأى قصة

تبدأ رحلة نداء نحو السعادة حين تلتقى حسين، الرجل الذى تراه فارس أحلامها، والذى يجعلها تشعر لأول مرة بجمال الحياة. ورغم الفارق الكبير فى السن والثقافة والتجربة الحياتية، وجدت فى حبها له مرسى وأمانًا. لكن سرعان ما تتحطم سفينتها على صخرة الواقع، حينما يتحول الأمان الذى شعرت به معه إلى وهم، ويدخل زواجهما فى منعطف غامض يجعلها تتساءل: هل كانت مخدوعة فى حبها؟ أم أنها كانت تهرب من شيء أعمق بداخلها؟

صراع الذات.. والهروب إلى العلاج

تجد نداء نفسها عالقة فى دوامة من الاكتئاب، تلجأ إلى الطعام العاطفى كمهرب، وتعانى من نوبات هلع تدفعها للانسحاب من حياتها بالكامل، وعندما تقرر أخيرًا البحث عن حل، تتجه إلى طبيبة نفسية لمساعدتها فى فهم ما حدث لها، معتقدة أن مشكلتها الوحيدة تكمن فى زواج خذلها..لكن المفاجأة تأتى حينما تقرر الطبيبة أن تعود بها إلى طفولتها، إلى ذكرياتها الأولى، إلى علاقة والديها بها، إلى الجروح القديمة التى ظلت حية رغم مرور السنين.

رحلة التعافي.. واكتشاف الذات

تدرك نداء، من خلال العلاج، أن المشكلة لم تكن فى زواجها فقط، بل فى ماضيها الذى ظل يطاردها دون أن تدرك. تكتب خطابات لكل من آلمها، تواجه مخاوفها وكوابيسها، وتبدأ فى فهم نفسها من جديد. تدرك أن الألم ليس مجرد حدث يمر، بل هو درس يجب أن يُفهم، وأن السعادة الحقيقية لا تأتى من الخارج، بل من السلام الداخلى والوعى بالذات.

رواية للروح.. وليست فقط للقلب

ما يميز «فتاة وبحيرتان» ليس فقط حبكتها القوية وأسلوبها السلس، بل العمق النفسى الذى تطرحه الكاتبة أمانى القصاص. إنها رواية تمزج بين السرد الروائى والتحليل النفسي، تأخذ القارئ فى رحلة تأملية تجعله يعيد التفكير فى اختياراته وعلاقاته، وتطرح تساؤلات جوهرية حول الحب، القدر، والذات.

إنها ليست مجرد قصة حب، بل حكاية تعافٍ ونضج، حكاية فتاة لم تكن تبحث فقط عن فارس أحلامها، بل عن ذاتها الضائعة بين البحيرات. إنها دعوة لكل قارئ ليغوص فى أعماق نفسه، ويعيد اكتشاف ماضيه، ويفهم كيف تشكلت اختياراته، وكيف يمكنه أن يصنع سلامه الداخلى ليعيش الحياة التى يستحقها.

مقالات مشابهة

  • «فتاة وبحيرتان».. رواية تُبحر فى أعماق النفس والقدر
  • عادل عزام يكتب: «يا كولر ارفع إيدك.. شعب مصر هو سيدك»
  • إبراهيم عثمان يكتب: غزوة مروي كدليل براءة للميليشيا!
  • فى الحركة بركة
  • ترامب المظلوم.. وكلوديا الثائرة!
  • اختيار رومانيا ضيف شرف دورة معرض الكتاب 2026.. وسفير سلطنة عُمان: مشاركتنا أتاحت تجسيد روح التواصل الحضاري
  • عادل حمودة يكتب: أسوأ ما كتب «بوب وود ورد»
  • ذكرى ميلاد فاروق الفيشاوي.. تمنى تجسيد شخصية المطران السوري هيلاريون كابوتشي
  • د.حماد عبدالله يكتب: قراءة فى صفحات تاريخ الوطن !!
  • محمد عبدالقادر يكتب عن رحلة المخاطر والبشريات