الاجتماع والعمارة في كتاب المساجد
تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT
يمكن اعتبار العالم أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت:1237هـ) من بين المُكثِرين من التأليف أو ممن تركوا آثارا كثيرة من الأعلام المتأخرين، وقد قدم لها دراسة ببليوجرافية الباحث فهد بن علي السعدي ضمن كتابه (قاموس التراث).
ومن بين كتبه التي لم تستوفِ حقها حتى اليوم من الدراسة والتحقيق كتاب (المساجد)، ولعل عنوانه يحيل إلى الفقه أكثر من أي شيء آخر، لكن الحقيقة أن في الكتاب من المسائل في الشأن الاجتماعي ومن الألفاظ الحضارية ومما يتصل بالعمارة وفنونها الكثير.
جاءت مادة الكتاب بين مسائل نُقِلت عن الفقهاء السابقين، وأكثرهم ممن كانوا في القرن التاسع حتى الثاني عشر الهجري، وبين مسائل عن المؤلف نفسه تبدأ عادة بعبارة تدل عليه، وهي تتميز بأسلوبه الذي سار عليه في عدد من كتبه، وهو أن يجعل المسائل في صورة حوار بين اثنين بعبارة: «قلت له»، و«قال».
وموضوع مسائل الباب الأول في فضل المساجد وبنائها وعمارها والقول في عُمّارِها وما جاء في ذلك من آيات وأحاديث نبوية وآثار. وفي فصل ما يجوز في المساجد من أعمال أو لا يجوز وردت سؤالات عديدة منها مسألة رفع الصوت وإنشاد الشعر والتفريق بين موضوعات الشعر وصلتها بحكم ذلك.
وفي الباب كذلك مسائل في بناء المساجد وصيانتها، ومن يلزمه ذلك، وفي الزيادة فيها لبئر أو برّادة أو قربة ماء، والبرّادة هي غرفة صغيرة للجلوس والانتظار اتقاء الشمس والحر، ومسائل في توسعة المساجد وزيادة الصرح (الفناء الخارجي) أو تغيير المسجد مكان الصرح ومسائل في كسح (تنظيف) المسجد ونضحه بالماء، وما يتعلق بحصره ومائه، وأحكام السراج في المسجد والمراوح. وفي الكتاب أيضًا ناقش أبو نبهان مسألة مواد البناء في تشييد المساجد مثل الحجر مع الجص أو الصاروج أو المدر، وجواز أن تجعل للمسجد أعمدة من الرخام وسقف من الألواح على جرد من الخشب الوثيق بدل جذوع النخل إن أُريدَ بذلك قوة البناء. وفي الباب مسائل كثيرة في موضوعات شتى منها أساسات البناء ومقدار الفسح للمسجد وحكم النقوش والزخارف في المحراب وغيرها.
في الباب الثالث جاء المؤلف بمسائل المدارس، ولعل أغلبها كانت مدارس تعليم القرآن، لكن جاءت إحدى المسائل في الوصية لمدرسة في بلدة ثم تبين أن في تلك البلدة أكثر من مدرسة وجاء السؤال: «إن كان يُدَرّسُ فيُعَلّم في كل واحدة من مدارسها نوع من العلم...»، وقد يفيد ذلك أن بعض المدارس كانت لتعليم علوم أخرى. وبعض تلك المسائل في أموال المدارس وأحكامها، وهي تتشابه مع أحكام أموال المساجد من قبيل أحكام الأموال الموقوفة، وفي الباب أيضا مسائل في وكيل المدرسة وما يلزمه وكيف يتصرف في أموالها، وفيه أيضا جواب طويل لأبي نبهان وفيه تفاصيل كثيرة كدأبه في بعض مؤلفاته، ومسائل عن بعض الفقهاء في معلم القرآن وما يجوز له أو لا يجوز فيمن يُعَلِّمه من الصبيان، وفصّلت تلك المسائل في طبيعة العلاقة بين المعلم والتلاميذ، ثم جواب طويل للمؤلف في تعليم القرآن وحكمه، وما يلزم الوالدان وأهل البلد والحاكم في شأن تعليم القرآن ومدارسه، وفي العلاقة بين المعلم والتلميذ وحدود ما يقوم به المعلم.
أما مسائل الباب الرابع فموضوعها التحصينات في قرى وحارات عُمان، إذ جاءت في أوله مسائل في بناء الحصون وهل يلزم بناؤها إذا انهدمت، ومن الذي يلزمه البناء، ودور مؤسسة الحكم في البناء سواء من قِبَل الوالي أو الإمام، ومسائل في سور البلد من الذي يلزمه بناؤه أو صيانته، وكذللك الزيادة فيه، والأخذ بالسنن والأعراف التي جرى عليها أهل البلد من قبل بشأنه. وتتخلل الباب نوازل واقعة سُئِل عنها الفقهاء السابقون مثل الجواب الذي نقله صالح بن وضاح المنحي (ت:875هـ) عن مشايخه في سور حصن منح وما يجب من بنيانه على من؟ وكذلك ثمة تفاصيل في بعض المسائل عن إصلاح أبواب السور إذا تلفت، وحفر الخندق بحذائه، وأحكام البيوت الملاصقة للسور. كما ورد مثال آخر في شأن سور نزوى وحكم شراء الأبواب والأقفال من ماله، والحكم إن كان ماله غير كافٍ لذلك واجتمع جباة البلد للنظر في مداخل أخرى لتوفير المال اللازم لذلك، وكذلك حكم أجرة البوّاب هل تكون من مال السور أم لا.
وللمؤلف في هذا الباب جواب طويل في بناء الحصن أو الحارة المحصنة فيه تفاصيل كثيرة في البناء وطريقته والمواد المستعملة ومصادر التمويل واتفاق أهل البلد على اختلاف مستوياتهم المعيشية، وهل يعذر من ذلك غير القادرين، وفي أحكام أموال السور وغير ذلك. ولعل هذا الباب قد ذهب موضوعه بعيدًا عن عنوان الكتاب، لكن الحقيقة أن التحصينات في العمارة العمانية تحيط بالبلد إحاطة السوار بالمعصم، وهكذا تشتمل الحارة أو المحلة المحصنة على بيوت ومدارس ومساجد محاطة بالسور والأبراج وتتخللها البوابات.
محمد بن عامر العيسري: باحث في التراث العماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المسائل فی مسائل فی فی الباب
إقرأ أيضاً:
قرن على كتاب هز العقول !
(1)
في السابع من أبريل القادم يكون قد مر قرن كامل على صدور كتاب أثار وما زال يثير نقاشا حيويا وخصبا، يمكن اعتباره الكتاب المؤسس في الثقافة العربية الحديثة؛ وأول كتاب يثير من المعارك والجدال ما زال قائما حتى وقتنا هذا، رغم ما شهده هذا القرن من أحداث مهولة بل أحداث جسام!
عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، للشيخ الجليل المستنير علي عبد الرازق (1888-1966) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها منذ ذلك الحين بكتابه هذا (لم يتجاوز عدد صفحاته الـ136 صفحة من القطع الأقل من المتوسط)، وهو كتاب دشّن (معركة القدامى والمحدثين) أو (صراع المحافظين والمجددين)؛ مرحلة الإعلان عن بنية الثقافة والدولة الحديثة، في مواجهة تصورات وأنظمة بشرية وتجارب تاريخية انتهت ومضت، ولن يعيد التاريخ دورتها لأن التاريخ لا يعيد نفسه مهما جرى!
هذا بالضبط ما حدا بالبعض إلى النظر للكتاب، وقيمته وأهميته، كما يقول المؤرخ القدير الدكتور محمد عفيفي، من ناحية هذا المضمون الفكري "التجديدي" في بيان تاريخية نظام الخلافة وبشريته، في مقابل مَن روَّج إلى قداسة نظام الخلافة؛ إذ أوضح أن الخلافة نظام سياسي ابتدعه المسلمون، وليس نظامًا مقدسًا لا يستقيم الإسلام بدونه.
في نشرته الأولى من الكتاب يقول الدكتور محمد عمارة في تصديره لهذه الطبعة (1971): "منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الجدل واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق الذي نشر قبل ما يقرب من نصف قرن" (كتب هذه السطور سنة 1971).
(2)
وها نحن الآن، بدورنا، نؤكد صحة هذه الأسطر بعد مرور مائة عام على صدور الكتاب؛ لأسبابٍ كثيرة جدا منها أن الشيخ المستنير قد قدم وللمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية نقدا منهجيا لتجربة الحكم في ظلال ما سمي بالخلافة الإسلامية؛ وهي نظام للحكم أقيم على أسس حدّدتها سياقات الحكم والسياسة والعمران في وقتها؛ ولم يكن لها أدنى صلة بالعقيدة كعقيدة؛ إنما أريد لها ذلك في أزمنة تالية على نزول الوحي، ومن ثم تم تكريس هذا النظام باعتباره نظاما دينيا.
تاريخيا، وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما جرى للدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، ونجاح أتباع تركيا الفتاة، قرر المجلس الوطني الكبير في أنقرة في نوفمبر من سنة اثنتين وعشرين (1922)، إعلان تركيا "جمهورية" وفصلها عن الخلافة، وكان قرار الفصل بين منصب رئيس الجمهورية ومنصب الخليفة، يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي الكامل والتام عن الأتراك.
وتصدى بعض الكتاب الأتراك -آنذاك- لتأليف الكتب والدراسات التي تعضد هذا الموقف، فخرج كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» لعبد الغني السني بك الذي أعيد نشره، كدراسة فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطة، وفي المقابل (خاصة في مصر) كتب آخرون يرفضون هذا الإجراء مثل الشيخ الأصولي محمد رشيد رضا في المنار، وكتاب لمصطفى صبري أحد المعارضين لحزب تركيا الفتاة.
وفي مارس من سنة 1924، أُلغي منصب الخلافة ذاته في تركيا، فسَعَت أطراف عديدة إلى حيازة اللقب وفي القلب منهم ملك مصر آنذاك الملك فؤاد الأول، وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءا من هذه الجهود.
(3)
وفي وسط هذه الموجة المحمومة من التطلع إلى وراثة نظام الخلافة ولقب الخليفة، خرج الشيخ علي عبد الرازق في أبريل من عام 1925 بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليعلن من خلاله أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين، أبدا، بل هي اجتهاد بشري للمسلمين،
واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعلي بين الخلافة وغيرها منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائما فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد، وبين التحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. وتلك هي الإشكالية التي يتعرض لها الكتاب. فمشكلة الخلافة ما زال البعض يناقشها من زاوية الدين، لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة، لا من باب السياسة.
(4)
إجمالًا -وإذن- يمكن القول إن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» قد ظهر في أعقاب إلغاء نظام الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 حين انقسم الناس فريقين؛ فريق يطالب بإعادتها مرة ثانية (وستكون هذه الفكرة هي النواة التي التف حولها كل دعاة الإسلام السياسي وتسييس الإسلام من الشيخ رشيد رضا ومن بعد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان).. وتيار آخر يعيد النظر تماما ونقديا في نظام الخلافة، ويدعو إلى الحيلولة دون قيامها، ويتزعمه حزب (الأحرار الدستوريين)، الذي ينتمي إليه الشيخ علي عبد الرازق وعائلته، ويرأس تحرير صحيفته الدكتور محمد حسين هيكل (صاحب كتاب «حياة محمد») الذي احتفى بالكتاب احتفاءً كبيرًا في جريدة «السياسة»، لسان حال الحزب.
وقد عالج الكتاب قضية الخلافة من حيث نشأتها، وتاريخها وتطورها، وعلاقتها بالإسلام، كما يعرض لتفاصيل ذلك النظام السياسي الذي أوجده الإسلام منذ قيامه إلى زمن أو عصر المؤلف. وينتهي إلى أن الإسلام لا صلة له بالحكم، ولا بالمجتمع وشؤونه الدنيوية، وأنه يجب إنهاء الخلافة في العالم الإسلامي، بما أنها نظام غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة من كتاب وسنة وإجماع.
والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ"
ومنذ صدوره، أثار الكتاب جدلًا طويلًا في الأوساط الفكرية، وانقسم المثقفون إلى تيار "ليبرالي" مؤيد يمثله مفكرون ينتمون إلى حزبي (الوفد)، و(الأحرار الدستوريين)، وتيار سلفي معارض يأتي في طليعتهم الشيخ محمد رشيد رضا على صفحات مجلة «المنار»، والشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»؛ فضلًا عن هيئة كبار علماء الأزهر.
وقد نشرت دراسات كثيرة حول الكتاب، باللغة العربية واللغات الأجنبية، ومن بينها كتابا «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» لمحمد ضياء الدين الريس، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق «دراسة ووثائق» لمحمد عمارة، وهو الذي نعتمد عليه هنا في هذه الحلقة من مرفأ قراءة والحلقات التالية التي سنفصل فيها القول عن الكتاب وحوله بمشيئة الله.
(5)
لقد أراد الشيخ علي عبد الرازق من كتابه، وبما أعلنه من أفكار حرة جريئة، تحرير العقول الإسلامية؛ لكي يتمكن المسلمون من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
وتلك ببساطة -مع ضرورات الاختزال والتكثيف لحدود المساحة- هي أهم الأفكار التي يقوم عليها كتاب الشيخ المستنير علي عبد الرازق الذي كان ثائرًا بحق على الأوتوقراطية والثيوقراطية معا، والذي التقط أسلحته من الإنجاز العقلاني التراثي الإسلامي الأصيل، ومن الإنجاز الموازي لدعاة الدولة المدنية في الغرب الأوروبي الذي كان يعرفه، ولا يتردد في الإفادة منه عملًا بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «اطلبوا العلم ولو في الصين»، وكان هدفه إعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها، وهو أمر لا يقل عن إيمانه بالدولة المدنية ودفاعه عنها.