لا تُفارق الذكرى رأسى أبدا. كُنت فى السابعة، أو الثامنة من عمرى، وذهبت لأصلى فى المسجد. دخلت إلى الميضأة، وهممت بعفوية بطرطشة الماء على وجهى، ثم شمّرت ذراعى، لكن صوتا أجش صاح بى من الخلف» بس يا ولد. امشى من هنا»، ورأيت خادم المسجد يُحمّر عينيه، ثم طردنى، وهو يقول «اتعلم الأول تتوضأ، بعدين ابقى تعال صلي».
من يومها وأنا أنفّر من كل واعظ يرفع صوته، ويُرهب الناس من عذاب الله، ولا يرى فى الدين سوى جهنم، وغضب الله، وانتقامه ممن عصاه.
وكنت كلما رأيت أو قرأت أو تابعت عالم دين، أفتش فيه عن السماحة، فإن لم أرها، كُنت أعتبره رجل تدين لا رجل دين.
ذلك لأن رجل الدين الحقيقى، لين، طيب، وغير متكلف، ويترك ما بينه وبين الله، بينه وبين الله، فيكاد يُخفى عبادته، وصلاحه، ولا يتتبع خطايا الناس، ويحمل كافة الأمور على حُسن الظن.
من هنا، فإن نماذج الدعاة السلفيين من أمثال الحوينى، ويعقوب، وحسان، ومن بعدهم عبدالله رشدى لم تثر فى نفسى أى قبول. ورأيت وقد أكون مُخطئا أنهم لا ينفعون الدين بل قد يضرونه لأنهم يُنفّرون الناس بخطابهم الزاعق المناقض للعقل المُخوف بالعذاب، والذى يدعى امتلاك الحق. وفى كل خطبة أو درس أو تسجيل لأى من هؤلاء كان عقلى الباطن يستدعى على الفور صوت وصورة خادم المسجد الذى نهرنى وطردنى من بيت الله وأنا طفل لأنى لا أحسن الوضوء.
أكتب ذلك وأنا أتابع برنامج «نور الدين» لفضيلة العالم المجتهد على جمعه، والذى تعرض لهجوم حاد، ولغط وتقولات وسوء ظن من جانب أوصياء على الدين يحملون كل أمر على سوء الظن. كانت سماحة العالم الجليل وعقلانيته حرقا لبضاعة تُجار الدين التقليديين الذين أرهبونا وخدعونا بدعوى امتلاكهم طريق الصلاح ومعرفة الرشاد. وربما أوجعتهم إجابات الرجل المنطقية لتساؤلات تبدو أساسية من نوعية «لماذا نحن مسلمون؟» و»هل الجنة قاصرة على المسلمين؟» وهل الحب حرام»، و»هل الاختلاط ممنوع شرعا؟».
لقد أعاد الرجل بابتسامته الرائقة، ووجهه البشوش، وردوده الهادئة العقلانية تأكيد الفكرة الأساسية التى عشت فى كنفها بأن الدين رحمة، ومعاملة حسنة، ونفع للناس، وتعايش، وحوار، وإنصاف، لا قسوة، وتخويف، وبطش، وعقاب.
الدين جسر بين حوضى ورد، مصعد نحو الرضا وحب الناس، وكف تُطبطب، وأصابع تمسح الدمع، ودرج صاعد إلى التحضر.
نموذج الدكتور على جمعة، هو نموذج رائع لعالم دين لا ينحضر علمه فى التفسير والحديث والفقه فقط، وإنما هو مُطلع ومُلم بكافة صنوف المعرفة من فلسفة وتاريخ وسياسة وعلوم تجريبية. وهو يعى بأزمة التطور الحضارى، ومفارقة كثير من الخطابات الدينية التقليدية لمفسرين وفقهاء قدامى لظروف العصر. وهو يُفعّل العقل والبحث والسببية فى توصيل المعانى، وتبصير النفوس، مفضلا البساطة والسماحة دون تكلف. وهو يبارز خطاب مختطفى الدين من الإخوان وجماعات الإسلام السياسى بُحجة وعمق، قاطعا الطريق على أولئك الذين يتاجرون بالإسلام لتحقيق مآرب أخرى.
ولأنه لا تربطنى بالرجل أى علاقة، لكنه رجل يستحق التحية والتقدير على علمه ووعيه وتحضره، فقد كتبت هذا المقال.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد المسجد السماحة
إقرأ أيضاً:
عيدكُم ،،، جيش
الأعياد في الإسلام هي مواقيت فرح وسرور، يُغالب فيها الناس أحزانهم ويواسوا جراحاتهم، ويعيدوا تطبيع الحياة بالرضى والتسليم لله رب العالمين، ويندرجوا في مسارات المجتمع المسلم، بأداء الفرائض والواجبات، وهي مواسم يجتمع فيها الناس، وتلتئم الأسر، ويتجدّد عهد الإخاء والمودة، وهي ( *حرم* ) يتنازل فيه المتشاحنون عن حظ أنفسهم، ويتعافون دون الشعور بإنتقاص الكرامة، وهي محاولة لطيّ صحاف ما مضى، وبداية جديدة ولبس جديد، كأنّه تعبير تجريدي عن خلع الماضي والتهيؤ بالجديد، لمواسم حياة بإحساس متجدّد.
ولكن كان قدر السودان وبعض الشعوب المبتلاة بالحروب والصراعات أن يكون فتقه أكبر بكثير من أن ترتقه مشاهد العيد وتقمّص روح الفرح؛ لأن إجرام الجنجويد خلال سنتين عجفاوتين قد أكلتا كل أخضرٍ في شعور الإنسان السوداني المفطور على الطيبة، وإخترقت بنصال الغدر أفئدة الألم ومكامن الشعور، وقطّعت الأكباد بالوجع، وأرغمت الناس على الخروج من ديارهم في أكبر تهجير قسريّ في تاريخ حياة السودانيين.
الخوف الذي حمله الناس وهم يخرجون من مُدنهم وقُراهم ألا يتمكنوا من العودة مجددًا، بل زاد الخوف بإرهاصات توطين الغرباء في مساكنهم وسدّ أبواب العودة في وجوههم، وهم يرون ويسمعون الجنجويد يُرسلون هذه النذر بإستمرار، أيّام نشوتهم، وتدفّقهم من كل حدبٍ وصوب وإنتشارهم في غالب أرض السودان، الأمر الذي زرع الإحباط واليأس في القلوب وهم يعلمون أنّ الجيش صامد أمام هذا التمدّد الأسطوري المترّس بأحدث الأسلحة، والمسنود بأدوات السياسة والمصالح الصهيونية ورعاتها الإقليميين، وإنتظم أهل السودان قاسم الهم المشترك، هل ضاع الوطن الذي نعرفه ويعرفنا ؟؟
هل نطبّع أحوالنا على إغتراب وهجرات طويلة الأمد بعيدة الشقاق ؟؟
هل نهيئ شعورنا على صدمات الألم ومعاناة الخسارة ؟؟
وبين فرث هذه المعاناة، ودماء شهداء الجيش، قدّر الله النصر العزيز بقوله تعالى ( *كُنْ* ) فكان بقوة الله وفضله، ثم بلاء الجيش، ومن مع الجيش كافةً من المقاتلين المجاهدين، فحدث ما لم يكُن في الحسبان ( *في التوقيتات* ) برغم موفور الثقة في الجيش لكن المفاجأة غير المنتظرة ( *للجنجويد واعوانهم القحاطة* ) قد حدثت، وبدأ التداعي والإنهيار المدوي، ليس فقط لمقاتلي عصابة الإجرام، ولكن للمشروع الكبير، للمؤامرة الدولية، لسرقة وطن بأكمله، لتهجير شعب وإستبداله بشتات قبائل للسيطرة على كنوزٍ من التاريخ، والجغرافيا، والموارد، والإنسان والذكريات.
وقد شهد الناس هزيمة الجنجويد ومقدار الفرح الذي يُنسي صاحبة الألم ولو كان فقد عزيز، وهدم دار، وكلوم عزة وإحساس بالإذلال المُر.
عمّ الفرح العميق أنفُس أهل السودان ( *عدا القحاطة طبعًا* ) وتجدّد الإحساس بالعيد، وفرحته، ولبس جديده وتبادل تهانيه، والتعافي ( *إلا مع الجنجويد وداعميهم* )
وكُل ذلك الفضل من الله الكريم الحليم العظيم سبحانه وتعالى، ثُمّ من جيشنا صاحب البلاء الحسن، الذي لم يخيّب رجاء شعبه، ولا أمل أمتّه في أن يعيشوا على أرضهم أعزاء، آمنين.
تقبّل الله شهداء معركة الكرامة، وصالح الأعمال.
بارك الله في جيشنا وقيادته، وضبّاطه، وصفه وجنوده، وكُل من سانده في هذه المعركة، وكُل من قدّم دعمه ودُعاءه.
*وعيدكٌم* ،،، *جيش*
لـواء رُكن (م) د. يـونس محمود محمد