منذ عرفنا فى مصر فنون التمثيل على خشبة المسرح قبل أكثر من قرن ونصف القرن، ونحن نعشق هذا الفن بشكل يزداد من يوم إلى آخر، فلما انتقل التمثيل إلى السينما قبل مائة عام، هفت قلوبنا إلى الممثلين وحكاياتهم وصراعاتهم على الشاشة البيضاء.
وهكذا كان طبيعيًا أن يحرص المسئولون عن التليفزيون على تزيينه بمسلسل واحد على الأقل منذ انطلاق البث التليفزيونى فى 1960، ومع التطور الطبيعى لصناعة الدراما صار المسلسل اثنين وثلاثة وعشرة وخمسين، خاصة فى شهر رمضان الكريم.
ولأننا شعب يعانق الحياة وجمالها بشغف وسرور، حتى لو ازدادت المنغصات عن الحد، وكوت الناس الأسعار المرتفعة، إذ لنا فى المرح نصيب، ولنا فى التسالى حصة، فإن المسلسل التليفزيونى أمسى ضرورة وجدانية لغالبية الناس، يلبى أشواقهم إلى المتعة والفائدة وتأمل الحياة وتقلباتها.
من هنا أتذكر بكل شجن مسلسلات لها تاريخ فى عقول الملايين وقلوبهم. مسلسلات جذبت الناس جذبًا إلى انتظار حلقاتها ومتابعتها بتركيز واهتمام وفرح. لماذا؟ لأنها مصنوعة بإتقان، رغم الإمكانيات (التكنولوجية) المحدودة فى الأيام الخوالى. وكما تعلم، فالفن الذى يؤثر ويمتع ويبقى هو الذى صنعه أصحابه بصبر ودأب وذكاء ليبلغ الكمال أو يكاد.
فى طفولتى أتذكر جيدًا كيف كان المصريون يلتفون كل مساء بلهفة لمشاهدة مسلسل (الضحية) للمخرج الرائد نور الدمرداش، وهى الجزء الأول من خماسية (الساقية) التى كتبها عبدالمنعم الصاوى. وقد لعب بطول المسلسل كوكبة من كبار نجوم التمثيل فى مصر أمثال عبدالغنى قمر وسميحة أيوب ونجمة إبراهيم وحمدى غيث ومحمود السباع وعبدالوارث عسر وسعيد أبوبكر وعزيزة حلمى وملك الجمل وصلاح السعدنى وغيرهم.
(القاهرة والناس) هو المسلسل الثانى الذى صار حديث الملايين فى نهاية الستينيات نظرًا لإيقاعه السريع وتجواله برشاقة فى تفاصيل الحياة اليومية لأهل القاهرة بطبقاتهم المختلفة. المسلسل أخرجه المخرج الكبير محمد فاضل، ولعب أدوار البطولة كل من أشرف عبدالغفور ونور الشريف وتهانى راشد وفاطمة مظهر ومحمد توفيق وعزيزة حلمى وكريمة مختار وغيرهم كثير.
أما مسلسل (الدوامة/1973) فقد سطا على عقول الناس ووجدانهم، حيث باتوا مشدودين كل مساء إلى حلقاته الثالثة عشرة، وأتذكر جيدًا أن الكهرباء انقطعت عن ربع سكان القاهرة فى إحدى الليالى، فلم يشاهد هؤلاء السكان الحلقة، فانزعجوا وكانوا ليلتها من المتوترين، الأمر الذى دفع المسئولين إلى إعادتها مرة أخرى فى اليوم التالى، عندما عاد التيار الكهربائى، فى سابقة لم تحدث من قبل.
المسلسل كتبه إبراهيم الوردانى وأخرجه نور الدمرداش، ولعب أدوار البطولة النجم المتألق آنذاك محمود ياسين ونيللى ويوسف فخر الدين والوجه الجديد محمود عبدالعزيز.
وبالطبع كلنا يتذكر مسلسلات (أبنائى الأعزاء شكرًا)، و(دموع فى عيون وقحة) وإبداعات الكاتب الفذ أسامة أنور عكاشة مثل (رحلة السيد أبوالعلا البشري) للعظيم محمود مرسى، و(الراية البيضا) و(ليالى الحملية) و(زيزينيا)، ثم (رأفت الهجان)، وهو أشهر مسلسل تليفزيونى، والذى كتبه صالح مرسى وأخرجه يحيى العلمى.
حقا... المسلسل الجميل يبهج ويبقى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق مصر فنون التمثيل خشبة المسرح التليفزيون
إقرأ أيضاً:
«السفاحون» يلهمون صناع الدراما عبر العصور.. «ساعته وتاريخه» آخر «مسلسلات الجريمة» في 2024
تنويه: "الأحداث الواردة في هذا العمل من وحي خيال المؤلف، وأي تشابه بينها، وبين الواقع فهو من قبيل الصدفة"، تنويه آخر: "الأحداث تستند إلى وقائع حقيقية، مع إضافة شخصيات، وأحداث خيالية اقتضتها الضرورة الدرامية"، عبارات نطالعها في بدايات تترات أعمال فنية سواء أفلامًا، أو مسلسلات، يكتبها صناع العمل، لتحقيق أهداف مختلفة، سواء الحماية من المسؤوليات القانونية، أو الهرب من ملاحقة الورثة، أو حتى "كف الأذى" عن أصحاب القصص الحقيقيين، وبمجرد كتابة "أكلاشيه التبرئة"، لا يمكن أن يرجع أحد على مؤلفي الدراما، ليظل مصطلح "حرية الإبداع" ثوبًا فضفاضًا يرتديه كل ممسك بقلم، وسط بعثرة النوايا، وإن كان النجاح الجماهيري قد تحقق من قبل في عدة أعمال، أشهرها مسلسل "الراية البيضا" الذي يعرف الجمهور شخصياته الحقيقية، بينما كانت العبارة التي كتبها المؤلف أسامة أنور عكاشة كفيلة بـ"إخراس ألسنة المغرضين"، حين قال: "تم تغيير أسماء الشخصيات ولكن أحداث المسلسل حقيقية حدثت، ولا زالت تحدث"!
ويتابع الجمهور هذه الأيام، عرض مسلسل جديد (من واقع ملفات المحاكم)، بعنوان "ساعته وتاريخه"، مستوحى من كتابَي "يوميات قاضٍ"، و"حكايات قضائية" للمستشار الأديب بهاء المري، رئيس محكمة الجنايات (صاحب مجموعة من الروايات والقصص)، بينما كتب السيناريو والحوار للمسلسل مجموعة من مؤلفي الدراما، في حلقات منفصلة، تدور كل حلقة حول جريمة وقعت بالفعل، وتنتهي كل حلقة بـ"منطوق الحكم على المتهم كما ورد في ملف قضيته"، وبدأ المسلسل بعرض حلقة مثيرة تشابهت أحداثها (إلى حد التطابق) مع قضية فتاة المنصورة "نيرة أشرف" التي ذبحها زميلها في الشارع (يونيو 2022)، وتم الحكم عليه بالإعدام، وتنفيذ الحكم (يونيو 2023)، في حادثة ضجت بها السوشيال ميديا، وبرغم تغيير اسم البطلة، وإضافة شخصيات خيالية (كان بعضها أثرى دراميًّا من شخصية البطلة نفسها)، وبرغم التسطيح الدرامي لشخصية القاتل، على غير العادة، إلا أن الجمهور فهم المغزى، أو على الأقل أدرك الفروق الواضحة بين الواقع ومحاكاته.
وبالتزامن مع عرض "ساعته وتاريخه"، تواترت أخبار تحضير اثنين من المسلسلات المستوحاة من جرائم حقيقية، أولها بعنوان "سفاح التجمع"، يقوم ببطولته الفنان أحمد الفيشاوي، استلهم أحداثه من قضية معروفة إعلاميًا بنفس الاسم، بطلها الحقيقي "كريم" مدرس اللغات المتهم بقتل مجموعة من السيدات، وإلقاء جثثهن في الصحراء، وهي نفس القصة التي تصارع عليها من قبل مجموعة أخرى من صناع الدراما، أما المسلسل الثاني فيحمل اسم "القصة الكاملة"، تم اقتباسه من حكايات اليوتيوبر سامح سند، وهو صانع محتوى على السوشيال ميديا، له قرابة "2.5" مليون متابع لصفحاته عبر "يوتيوب"، و"فيسبوك"، و"تيك توك"، نشر خلالها فيديوهات عن جرائم وقعت في شتى ربوع مصر، بين حوادث قتل، وأحداث غامضة، ومرعبة ارتبطت بالجن والعفاريت، استهوت تلك الحكايات المنتج مجدي الهواري، ليعلن تدشين مشروع ضخم لتنفيذ أكثر من "150" حلقة درامية تدور حول القصص التي سردها "سند" عبر السوشيال ميديا، مع إسناد كتابتها درامياً لنخبة من مؤلفي الدراما المحترفين، قام بعضهم بـ"تشويق الجمهور" باقتراب عرض الحلقات عبر منصات إلكترونية كبرى.
وكان آخر مسلسل مستوحى من قصة حقيقية، عُرض العام الماضي، سفاح الجيزة، فيه أبدع الفنان أحمد فهمي بتجسيد شخصية السفاح "قذافي فراج" الذي قتل صديقه وثلاث سيدات في غضون أعوام (2015ـ2017)، وصدر بحقه حكم الإعدام، في 2021، والطريف أن المسلسل (الذي قام بتغيير أسماء الشخصيات)، بدأ عرضه في أغسطس 2023، بينما كان السفاح الحقيقي يترنح بين أحكام الإعدام، التي رفضت محكمة النقض الطعن عليها في فبراير العام الجاري، ليصبح حكم القصاص نافذاً ونهائياً، وتزامن مع عرض "سفاح الجيزة"، مسلسل "حدث بالفعل"، لمجموعة من النجوم، منهم غادة عبد الرازق، ودينا الشربيني، وشيرين رضا، وآية سماحة، وكان مستوحى من جرائم حقيقية ارتكبها "مرضى نفسيون".
السفاح، أو القاتل المتسلسل، ظلت شخصية ملهمة لصناع الدراما في أحيان كثيرة، حيث سبقت "الجيزة"، و"التجمع" منطقة أخرى هي "المهندسين"، ظهر فيها شاب ثري يدعى أحمد حلمي المسيري، هزت جرائمه الرأي العام في 1991، عقب قتله رجل أعمال وزوجته وخادمته، وصدر بحقه حكم بالإعدام في 1994، واستفزت قصته الفنان خالد الصاوي، ليكتب سيناريو وحوار فيلم "السفاح"، قام ببطولته الفنان هاني سلامة، 2009، وقبلها بنصف قرن، وبالتحديد 1962، استوحى أديب نوبل نجيب محفوظ، قضية سفاح يدعى "محمود أمين سليمان" ارتكب "8" جرائم قتل في خمسينيات القرن الماضي، وانتهت أسطورته بمصرعه في مغارة بجبل حلوان، على أيدي رجال الشرطة، فقام "محفوظ" بتحويلها إلى قصة فيلم "اللص والكلاب" المصنف رقم "15" في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وجسد خلاله النجم شكري سرحان شخصية المجرم الذي تم تغيير اسمه إلى "سعيد مهران"، والغريب أن نفس النجم، شكري سرحان جسد شخصية شاب تورط في تنفيذ جريمة قتل صاحب "بار"، ضمن أحداث فيلم "إحنا التلامذة"، 1959، وهي قصة حقيقية لأحد الشباب قضى عقوبة السجن "10" سنوات، وخرج ليعمل بالتمثيل وأصبح "كوميدياناً شهيراً"، وعلى مدار جزأين، ظهرت في عامي (2007، و2014) ملحمة فيلم "الجزيرة" للمخرج شريف عرفة، وجسّد خلالها الفنان أحمد السقا شخصية "منصور الحفني" تاجر المخدرات في الصعيد، وللهرب من الربط بينها وبين "امبراطور النخيلة" الذي تم إعدامه في 2006، جاءت جملة "تمويه" حوارية على لسان أحد القيادات الأمنية بالفيلم: "مش عايزين نشوف عزت حنفي تاني"، مثلما أصرّ صناع مسلسل "ابن حلال" للفنان محمد رمضان، لدى عرضه في 2014، أن أحداثه تشابهت بـ"الصدفة"، مع جريمة قتل ابنة المطربة المغربية ليلى غفران، التي هزت الرأي العام في 2008.
أما السفاحة "المرأة"، فكان لها نصيب من استلهام الدراما، بدأت بأشهر سفاحتين في تاريخ مصر، ريا وسكينة، اللتين قتلتا عشرات النساء بالإسكندرية مطلع القرن الماضي، وتم تنفيذ حكم إعدامهما في ديسمبر 1921، هذه القصة ألهمت "بديعة مصابني" لتجسيدها على خشبة المسرح في العام التالي لإعدامهما، ثم عالجتها عشرات الأعمال الفنية بين المسرح والسينما والتليفزيون، وجسدتها العديد من النجمات، آخرهن عبلة كامل وسمية الخشاب، في مسلسل عرض عام 2005، وفي السينما تقمصت نبيلة عبيد (تحت اسم مستعار)، شخصية "ناهد القفاص" التي قتلت زوجها وقطعت جثته بالساطور، في 1989، والتي صدر بحقها حكم بالسجن المؤبد، وعُرض فيلم "المرأة والساطور" في 1997، لينهي المخرج سعيد مرزوق الأحداث بعبارة: "ليس كل قاتل مذنباً، وليس كل قتيل بريئاً".
وعلى مدار سنوات، ألهمت عشرات الجرائم صناع الدراما، لتبقى دعاوى النقاد بـ"الترفق" بالجمهور، وعدم الضغط عليهم سواء بتكرار مشاهد الدم، أو الاستغراق في "التخطيط المتقن للجريمة"، أو تقديم مشاهد "مبتكرة" للقتل، حتى لا تلهب خيال المراهقين، مع تحليل شخصيات المجرمين نفسياً، وتعظيم القيم الإيجابية، وضرورة التركيز على "التطهير" كـ"مصير حتمي لكل من تسول له نفسه ارتكاب الجريمة"، وتبقى الحقوق الإنسانية" مصطلحاً "مائعاً" وسط تساؤلات الجمهور، حول مدى الاقتراب أو الابتعاد عن شخصيات حقيقية من لحم ودم، عاشت بيننا، بل واهتز لضجيجها الرأي العام، وربما اعتلت "قمة التريند" في وقت ما.
اقرأ أيضاًمن ملفات المحاكم المصرية.. مواعيد عرض مسلسل ساعته وتاريخه والقنوات الناقلة
«الدكتور» يسرق بأساليب مبتكرة.. تفاصيل الحلقة 4 من مسلسل «ساعته وتاريخه»