ترسيخ ثقافة الحريات، وبالتالي الحريات النقابية، والتوجيه بإصدار القرارات، وتوقيع الاتفاقيات والبرامج التي من شأنها تعزيز مبدأ الحوار الاجتماعي، خاصة في مجال العمل، ضمن أهم الملفات التي شهدت اهتماما من الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال السنوات الماضية بداية من 2014 حتى 2024.

وانعكس ذلك على تحقيق الاستقرار والتوازن في علاقات العمل داخل مواقع الإنتاج، وصناعة بيئة عمل لائقة على المستوى المحلى، وعلى المستوى الدولي عدم إدراج مصر على قائمة الملاحظات القصيرة بمنظمة العمل الدولية في مؤتمر العمل الدولي بجنيف يونيه الماضي، إذ كانت تلك التوجيهات الرئاسية بمثابة خارطة طريق لوزارة العمل في كافة الملفات.

 

ويوم أكتوبر 2022، أعلن حسن شحاتة وزير العمل، أمام وفد من منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، عن قراره الوزاري رقم 227 لسنة 2022 باعتماد دليل الاجراءات الموحد لتأسيس المنظمات النقابية العمالية، كدليل من أدوات الاستدامة التي أحرزها "مشروع تعزيز علاقات العمل ومؤسساتها في مصر"، مؤكداً على حرص الدولة المصرية على إطلاق هذا المشروع التنموي الهام الذي يعكس اهتمام المكونات الثلاثة لأطراف العمل "حكومة وأصحاب اعمل وعمال" على حد سواء بـ " الحرية النقابية – والحوار الاجتماعي – والعمل الأفضل " وأثر تنميتها على الاقتصاد المصري بشكل عام.

كما أعلن عن تفعيل دور اللجنة المشكلة لدراسة شكاوى المنظمات النقابية العمالية، موجهاً الشكر والتقدير لمنظمة العمل الدولية على دورها في دعم المشاريع التنموية، وعلاقات العمل.

وأوضح شحاتة، أن الجميع في الجمهورية الجديدة أمامهم فرص حقيقية يجب استثمارها، فمن أبرز ملامحها اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسي بالحق في العمل كأحد أبرز حقوق الانسان، واهتمام فخامته بالحوار كأداة فاعلة في بناء الأمة، واهتمامه بالقطاع الخاص باعتباره قاطرة النمو في مصر.

كما أن مشروع "تعزيز علاقات العمل ومؤسساتها في مصر"، من أبرز المشاريع في مجال العمل في عهد الرئيس، حيث تم إطلاقه في مارس 2020، برعاية وحضور رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ويشمل 3 محاور:-

الأول: يهدف إلي تعزيز الحرية النقابية والمفاوضة الجماعية وتنفيذها بشكل فعال في إطار القوانين والممارسات عن طريق انفاذ قانون المنظمات النقابية العمالية وحماية حق التنظيم النقابي رقم 213 لسنة 2017 وتعديلاته الصادرة بالقانون رقم 142 لسنة 2019.

الثاني: خاص بتهيئة بيئة مواتية لعلاقات عمل سليمة، من خلال تعزيز الحوار المجتمعي في مصر عن طريق دعم المجلس الأعلى للحوار المجتمعي في مجال العمل المنشأ بقرار رئيس مجلس الوزراء.

الثالث: خاص ببرنامج العمل الأفضل في مصر، وهو البرنامج المعني بتمكين المنشآت العاملة في قطاع الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، والاستفادة بشكل أفضل من فرص توسع الأعمال التجارية بفضل تحسن علاقات العمل ومستويات الامتثال الأفضل لمعايير العمل الدولية وقوانين العمل الوطنية.

وكان تأسيس "المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي" من أبرز القرارات التي صدرت في عهد الرئيس السيسي أيضًا، ليجسد اهتمام "الجمهورية الجديدة" بترسيخ ثقافة الحوار بين أطراف العمل، فقد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 799 لسنة 2018 بتشكيل "المجلس"، ليختص بالمشاركة في رسم السياسات القومية للحوار بين الشركاء الاجتماعيين، وخلق بيئة محفزة على التشاور والتعاون وتبادل المعلومات، وإبداء الرأي في مشروعات القوانين المتعلقة بالعمل، والمنظمات النقابية، والقوانين ذات الصلة.

ويقوم المجلس باقتراح الحلول المناسبة لمواجهة منازعات العمل الجماعية على المستوى القومي، وعلى الأخص في الأزمات الاقتصادية التى تؤدى إلى توقف بعض المشروعات عن العمل كليا أو جزئيا، و "المجلس" عقد عدد من الاجتماعات منذ تأسيسه ناقش خلالها ملفات كالعلاوات الخاصة، ومشروعات القوانين ذات الصلة، والقرارات الوزارية التي تصدر بالتشاور مع ممثلي منظمات العمال وأصحاب الأعمال، وآلية تعامل القطاع الخاص مع جائحة كورونا وغيرها من قضايا العمل.

ويعتبر المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي في مجال العمل، واحدًا من أبرز أشكال التعاون مع منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة التي تعتبره بمثابة نموذج حي على أرض الواقع يؤكد ايمان الدولة المصرية وعقيدتها الراسخة بالحوار بين كافة الوطنيين من أجل تشريعات تحقق المزيد من التعزيز، والعدالة والتوازن في علاقات العمل لصالح طرفي العملية الإنتاجية «صاحب عمل وعامل».

ويتشكل المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي في مجال العمل برئاسة وزير العمل، وعضوية كل من أعضاء ممثلين عن الوزارات التالية بحيث لا يقل المستوى الوظيفي لكل منهم عن الدرجة العالية وهي وزارات: التضامن الاجتماعي، والاستثمار والتعاون الدولي، والتجارة والصناعة، والعدل، والعمل، وشؤون مجلس النواب، والتربية والتعليم والتعليم الفني، والزراعة واستصلاح الأراضي، والتنمية المحلية، والسياحة، وقطاع الأعمال العام، بالإضافة إلى أعضاء يمثلون أصحاب الأعمال والعمال و 6 أعضاء من رؤساء أو أعضاء مجالس إدارة منظمات أصحاب الأعمال المعنية، و6 أعضاء من رؤساء أو أعضاء مجالس إدارة اتحادات العمال المعنية.

وكان الرئيس السيسي قد وجه وزارة العمل  في عيد العمال الماضي 2023، بسرعة انعقاد المجلس الأعلى للحوار الاجتماعي لمناقشة مشروع قانون العمل، وهو التكليف الذي جرى تنفيذه على الفور، وينتظر المجلس خلال هذه الأيام صياغة اللجنة القانونية التي شكلها وزير العمل، بشأن ملاحظات كافة الأطراف على مشروع قانون العمل "264 مادة "، والذي سيُطبق على كل من يعمل بأجر في مصر"ما يقرب من 30 مليون عامل"، بحثاً عن قانون جديد يُعالج القصور الوارد بقانون العمل الحالي الصـادر بالقانون رقم "12" لسـنة 2003، ويحقق المزيد من الاستثمار، والأمان الوظيفي للعمال، تنفيذا لتكليفات الرئيس السيسي.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الحريات النقابية ملف العمل ثقافة الحريات الرئيس عبد الفتاح السيسي مجال العمل المجلس الأعلى للحوار الاجتماعی العمل الدولیة فی مجال العمل علاقات العمل من أبرز فی مصر

إقرأ أيضاً:

تاريخ العلاقات العُمانية - الهندية وأثر التعددية وثقافة الاختلاف في التفاهم الحضاري

تحاول هذه الورقة الاقتراب من العلاقات التاريخية بين عُمان والهند عبر ثلاثة مكونات: أولها الطبيعة الجغرافية وطبيعة المياه المشتركة التي تؤهل لتلك العلاقات؛ بينما يتمثل المكون الثاني في التباين الإنساني والإقليمي الذي كان علة تحريك الاقتصادات القديمة والحديثة؛ وأخيرا طبيعة الثقافة والعقيدة السياسية لسلطة الدولة وسمات المجتمع العماني؛ مما أتاح المزيد من الانفتاح على الآخر والبحث عن فرض التبادل للفائض من الإنتاج. تقترن السياسة أبدا بالمصلحة؛ وإدارة المصلحة تتكئ على التباين بين المكونات الإنسانية وتشتغل اشتغال «العقيدة السياسية» في المجتمعات المدنية؛ وبحسب ما يرى عبدالإله بلقزيز لا شيء في السياسة غير تحقيق مصلحة أو الدفاع عن مصلحة متحققة؛ كالمحافظة على الإنجازات أو الرغبة في الحصول على منافع مختلفة خلقتها التباينات في الكيانات السياسية المختلفة وفق التنوع الثقافي والجغرافي على مساحة الكرة الأرضية؛ ويشير القرآن إلى مسألة الاختلاف في الثقافات ومن بينها اللغات، والقدرات والمهارات؛ وما يرتبط بها من إنتاج زراعي أو صناعي يبحث عن أسواق التبادل؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿أَهُم یَقسِمُونَ رَحمَتَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَینَهُم مَّعِیشَتَهُم فِی ٱلحَیَوٰةِ ٱلدُّنیَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعض دَرَجَـٰت لِّیَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضا سُخرِیّا وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَیر مِّمَّا یَجمَعُونَ﴾؛ فهذا التباين علة التبادل والعلاقات بين المجتمعات الإنسانية - كما يراه المفسرون - هي قِسْمَة تَقْتَضِيها مَشِيئة الله المَبْنِيَّةُ عَلى اَلْحِكَمِ والمَصالِحِ ولَمْ يفَوِّض الله أمْرَها إلى البشر عِلْمًا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَدْبِيرِها بِالكُلِّيَّةِ.

ويرتبط هذا الاختلاف الطبيعي في الأرض بالاختلاف الأيديولوجي أو الثقافي؛ إذ الاقتصاد وحركته علة التباين والمصالح وهما محركا العلاقات الإنسانية بين الحضارات على مر التاريخ؛ كما أنها تفسح المجال إلى فهم الهُويات لتتحول من انغلاقها إلى ديناميتها عبر حالة التثاقف والتبادل؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿وَمِن ءَایَـٰتِهِ خَلقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفُ أَلسِنَتِكُم وَأَلوَ ٰنِكُم إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰت لِّلعَـٰلِمِینَ﴾، وما تزال الثقافة هي المحرك نحو النمو والرغبة بين المجتمعات وهي سبيل التباين والاختلاف ليكون المدخل الإنساني نحو بناء علاقات تجارية وثقافية مدخلا للاكتشاف والفهم أو التعارف بعيدا عن الانغلاق والتشنج. ولا يمكن للثقافة أن تتحرك أو تنفتح في عزلتها فهي بنية فوقية وفق نظرية كارل ماركس تتأثر بالبنى المادية (= حركة الاقتصاد)؛ وهذا ما جعل القارة الهندية في مجملها تمثل الظهير الاقتصادي والتنموي والحضاري لمنطقة الخليج والجزيرة العربية.

إن هذا الفهم للطبيعة الإنسانية والأقاليم، والاختلاف الثقافي وما بينهما وبين التواصل الحضاري من وشائج ومحفّزات جعلت من الدولة البوسعيدية تدرك أهمية الآخر في بناء الاقتصاد ومتانة الهوية ومرونتها؛ لا سيما في مجال التعددية الدينية؛ واستوعب السلطان قابوس - رحمه الله تعالى وطيب ثراه - هذا البعد الحضاري في بناء عُمان الحديثة باعتبارها دولة المواطنة والمؤسسات، ونجده يشير في مناسبات شتى إلى أهمية اكتشاف الآخر وصداقته، وإلى خطورة الانغلاق والتطرف الفكري أو الديني؛ فقد جعل ذلك من الثوابت السياسية تعزيزا لقيم الحق والعدل ووشائج الأخوة، والصداقة وتوطيد الأمن والسلام لخير الإنسانية. وقد ترجمت هذه العقيدة السياسية في الدستور العماني (= النظام الأساسي للدولة) وهو حالة تعبيرية عن نظام الدولة للحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ ويعبر عن ثقافة النظام نفسه بكل مؤسساته، ويستدعي هويته الوطنية والثقافية؛ كما يعبر الدستور عن تلكم العلاقات بين الناس أنفسهم في المجتمعات الدستورية أو المدنية؛ فهو يختزل مبادئ الثقافة السياسية التي تشتغل عليها كل المؤسسات والمنظومات في المجتمع لتطوير نظام قائم على الوعي السياسي، وسلطة القانون، والحريات؛ لذا يوفر النظام الأساسي موانع للمجتمع من أي انزلاق طائفي أو عصبوي عاطب للمنظومة السياسية. إن النهج القائم على حقوق الإنسان نهجٌ يعبر عن الحالة الدستورية والعقد الاجتماعي في دولة ما؛ فالاستدخالات الدستورية النابعة من شرعة الحقوق تتضمن الاعتراف المبدئي بالانتماء إلى الإنسانية باعتبارها هوية كونية وثقافة أساسية لبناء كل اجتماع سياسي، وتبدأ هذه الثقافة الحقوقية في النظام الأساسي من الديباجة التي تمثل أهم الدعائم الحقوقية: العدالة؛ دعائم الحق والأمن؛ مشاركة أبناء الوطن، وتمكينهم من صنع مستقبلهم (= المشاركة السياسية)؛ والحقوق الواجبات، والحريات العامة.

نلاحظ أن العقيدة السياسية العُمانية تقتضي أن تكون الدولة مبنية على منطق المشتركات المدنية أو السياسية؛ فالدولة تجعل العلاقة السياسية مبنية في طرفيها (= السلطة والمواطن) على الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الانتماءات الإثنية أو الثقافية أو الدينية؛ بحيث تكون الدولة صاحب السيادة في توفير الأجواء التي تحمي الاختلاف الديني وحق الاعتقاد؛ الأمر الذي دفع السلطان قابوس -طيب الله ثراه- إلى إنشاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عوض «الشؤون الإسلامية»؛ ليكون من حق الإنسان المواطن والمقيم أن يُحترَمَ في معتقداته ودينه، ومن واجبات الدولة حماية دور العبادة والاختلاف، وهو ما نلاحظه في المرسوم السلطاني رقم (84/ 1997م) بإجراء تعديل في مسميات بعض الوزارات.

إن أجواء التعددية الدينية في تاريخ عمان الحديث سمة للدولة الوطنية الحديثة التي بدأت تباشيرها مع نشأة الدولة البوسعيدية، على الرغم من وجودها في تاريخ عمان الطويل؛ سواء أكانت في سياق الدين الإسلامي من حيث تعددُ مذاهبه؛ أم كانت بين الانتماءات الدينية المختلفة؛ إذ تلفت فاليري هوفمان إلى السمة الحضارية الفارقة وهي العيش المشترك والسلم الاجتماعي، وتشير إلى هذه الظاهرة الحضارية في زنجبار إبان حكم السلطان ماجد بن سعيد بن سلطان (1856- 1870م) الذي كان يشجع الأجواء النقدية بين النزعات الدينية بطرق علمية دون وجود نزعات طائفية حتى لو تعلق النقد بمذهبه، والأمر نفسه حدث بشأن رعايا الدولة من التجار الهنود في ولاية المصنعة الذين تأثروا بالحروب الداخلية أو حركات التمرد على الدولة إذ أشار صاحب الجلالة السلطان تيمور بن فيصل (1886- 1965م) إلى واجبه في حفظ مصالح التجار وأمنهم لتحقيق المصالح المشتركة.

(2)

إن الارتباط الحضاري بين المكونات الإنسانية لا يخضع لمجرد التبادل التجاري ولغة المصالح وإن كان ذلك من أسبابه الطبيعية؛ لعلل التباين في الإنتاج والعرض والطلب والتباينات الجغرافية؛ وإنما تخضع العلاقات لمنطق الثقافة؛ لذلك نشأت الدراسات الهندية في التراث الإسلامي على يد أبي الريحان البيروني في «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»؛ إذ رأى أن التباين الحضاري بين التراث الإسلامي والهندي لا بد أن يتكئ على منطق الموضوعية والوصف دونما ميل أو انحياز، وقد تتحول منتجات طبيعية تأتي من خارج الحدود الجغرافية إلى جزء من ثقافة المنطقة العربية كالقهوة والأرز ناهيك عن الأزياء وقطع النسيج والأخشاب؛ مما يزيد من حجم التواصل والارتباط بين المنطقة العربية والقارة الهندية، وهذا ما يفسّر العلاقة بين البنى الفوقية والتحتية في الحركة الاجتماعية والحضارية.

يصف ابن بطوطة مدينة قلهات العمانية التي زارها في فترة سابقة بأنها على الساحل، وهي حسنة الأسواق ولها مسجد من أحسن المساجد حيطانه بالقاشاني. وأنه أكل بهذه المدينة سمكا لم يأكل مثله في إقليم من الأقاليم، وهم «يشوونه على ورق الشجر ويجعلونه على الأرز ويأكلونه، والأرز يجلب إليهم من أرض الهند وهم أهل تجارة ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي»؛ مما يجعلنا نضع هذه العادات الثقافية المرتبطة بالتجارة والمصالح وفنون الطعام مدخلا لفهم الهُوية من حيث هي خصوصية شعب من الشعوب؛ لفهم وحدة الإقليم وفق تعبير ولكنسون عبر سمتين هما التناسق، والتكامل؛ إذ يساعد التشابه الثقافي والاجتماعي المرتبط بالخصوصية الطبيعية والتجانس الاقتصادي على تفسير منطقة ما بصفات تختلف عن الأخرى، ويأتي جزء من هذه الوحدة نتيجة التنوع في القاعدة العريضة للمصدر؛ بحيث تعتمد بعض المدن على بعض بسبب دورة المنتجات الزراعية؛ مما يساعد على صياغة الهوية السياسية. ويضيف ولكنسون أنه لا يمكن لأي إقليم أن يبقى منعزلا تماما؛ مما يفتح المجال للمقايضات مع العالم الخارجي؛ بما أن المنطقة (= عُمان) على درجة عالية من الإنتاج الزراعي؛ ليأتي دور الوسطاء (= التجار الهنود) في عمان لممارسة دورين في تبادل السلع والمنتجات؛ كان الدور الأول يتمثل في استلام المنتجات الزراعية وإعادة تصديرها؛ وتمثل الثاني في استجلاب منتجات أصبحت جزءا من الثقافة العربية وإعادة توزيعها؛ وهو ما جعل هذا الدور جزءا أصيلا من سمات الإقليم ووحدته؛ وهذا ما يجعل الباحثين يعتقدون بعراقة الصلات الحضارية بين الهند والمنطقة العربية عموما وبينها وبين عمان على وجه خاص؛ إذ يصفها رضوان الرحمن بأنها صلات استمرت منذ قرون، ولم تكن مبنية على الاقتصاد فحسب؛ بل كانت مبنية على ارتباطات حضارية بسبب سيادة الأمن والاستقرار في المنطقتين؛ مما أسهم في بناء ما يسمّيه بـ«الثقافة الساحلية»؛ إذ كان العمانيون يمثلون دور «الوسيط التجاري بين موانئ الخليج والجزيرة العربية، وموانئ المحيط الهندي، وموانئ البحر الأحمر»، وهي علاقات امتدت زمنا ووردت في مصادر كلاسيكية قديمة كالنصوص السومرية. ويضيف أن الهند من أكثر المناطق التي ارتادها العمانيون بسبب الرياح الموسمية في تسيير الرحلات الحرية؛ فالهند بالنسبة إلى العمانيين هي «السوق المفتوحة» يصدرون إليها «اللؤلؤ، والخيول العربية، واللبان، والتمور، والليمون» ويستوردون «الأخشاب، والصندل، والعود، والمسك، والعنبر، والعاج، والتوابل، والأحجار الكريمة»، وتحولت هذه السلع التي قد لا تنتجها المناطق العربية إلى جزء من ثقافة المنطقة وهويتها بفعل هؤلاء التجار البحارة العمانيين الذين فهموا طبيعة البحر والمناخ وأحوال الطقس، ولم يقتصر دورهم على التبادل التجاري وإنما تجاوز إلى الأدوار الثقافية والحضارية بسبب الاستيطان والهجرات القديمة إلى الهند؛ مما يجعل التواصل الحضاري بين عمان وجهورية الهند تواصلا حضاريا عريقا يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني. ويؤكد ولكنسون نظام التبادل الاقتصادي الحضاري في عمان الذي نشأ من الألفية الخامسة إلى الرابعة قبل الميلاد بفضل نظام التقايض الذي ربط بين الشعوب؛ لا سيما ما يسميه الإغريق بحضارة «آكلي الأسماك» التي سبقت حضارة الهند، وهو مجتمع تنوعَ ليصبح مجتمعا زراعيا يسجل حضوره القوي في التجارة البحرية.

(3)

يشير مقدام الفياض إلى التداخل بين المياه العربية والمحيط الهندي الذي مكَّن الانفتاح مندفعا بحركة المصالح التجارية؛ لا سيما وأن الهند تتسم بموارد طبيعية وفيرة، ومصادر غنية، وإمكانات عالية قادرة على تصدير الفائض من منتجاتها ورؤوس أموالها، ونقل خبرة أبنائها ومهرتها من العمال إلى مختلف الأقطار، وكانت عُمان من أبرز هذه المحطات لأسباب إقليمية وسياسية أو ثقافية جاذبة؛ حتى أطلقت بعض المصادر اللاتينية على هذه المناطق «تخوم الهند» بسبب الامتزاج البشري والثقافي، وهذا ما يجعلنا نحاول الاقتراب من ظاهرة هجرة الشعوب الهندية إلى هذه التخوم. على أننا سنشتبك مع دراسة عُمانية أخرى كانت أطروحة دكتوراه مهمة في جامعة السلطان قابوس للباحث إسماعيل بن أحمد وإذا كان الفياض يجد صعوبة بالغة في تحديد أول تاجر هندي قرر الاستقرار في عمان؛ ليكون نواة في تشكيل الجاليات الهندية التجارية على السواحل العمانية؛ فإن الزدجالي حاول تقديم قوائم تتسم بالدقة إلى درجة كبيرة لحصر الأسر الهندية التي امتهنت التجارة في المنطقة في فترة الدراسة؛ بيد أن العودة إلى ابن بطوطة تجعلنا نعتقد بوجاهة إشارة الفياض بوجود مستوطنة هندية في قلهات تشير إليها بعض اللقى الأثرية كوجود بقايا معبد هندوسي في قلهات يجعل التعددية الدينية في عمان حالة ثقافية تتسم بالثبات في تاريخها، وكانت قلهات هي الميناء العماني الرئيس في حقبة الاحتلال البرتغالي (1507م- 1650م). وتعزو بعض الدراسات استقرار التجار الهنود في عمان إلى ميزة التسامح التي عرف بها سلاطين الدولة البوسعيدية، ومعاملاتهم الحسنة لهم؛ مما شكل حافزا قويا للهجرة إليها منذ نهاية القرن الثامن عشر؛ ليكونوا الفئة التجارية الأولى، ووصلت سلطتهم إلى زنجبار وجوادر، وعاش هؤلاء التجار وبجميع أعراقهم وانتماءاتهم الدينية حياة مستقرة في ظل حكم غير متعصب دينيا أو عرقيا، يعاملهم باحترام، ويمنحهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية والمكانة الاجتماعية اللائقة، ويوفر المناخ الاجتماعي المشجع على التعايش بين شتى المذاهب والأعراق؛ مما أدى إلى حالة اقتصادية مستقرة ما تزال تتسم بالاستمرار.

على أن الهجرات من القارة الهندية لم تقتصر على مجرد ممارسة التجارة وامتهانها، وإنما للبحث عن حيوات هادئة لممارسة التدين، والحفاظ على الهويات الدينية التي سرعان ما وجدت طريقها إلى هوية دينامية تأخذ من ثقافة المنطقة والاندماج في معطياتها التاريخية الخاصة؛ فكانت الهجرات الهندية من المسلمين ومن غيرهم قرارا نابعا من إرادة هذه الجاليات ورغبتها في البحث عن ملاذات آمنة؛ «واشتهر عن البانيان أنهم كانوا يحيون حياة الثراء والبحبوحة، وامتلاكهم قاعدة اقتصادية متينة في وطنهم الأم (= الهند) بسبب نجاحهم في مجال التجارة، وما لاقوه من روح التسامح والمعاملة الإنسانية العربية المعهودة مع الجاليات الأجنبية (= المسلمة وغيرها)، بما في ذلك السماح لهم بإنشاء دور عبادتهم وإيداع الأبقار فيها، وحرق موتاهم، وإقامة المدارس الخاصة بهم، وحرية عملهم في مختلف المجالات، والتصرف بالفائض المالي بإرساله كله أو بعضه إلى مواطنيهم، وظلوا محتفظين بلغتهم الأم، وعاداتهم ولباسهم، ولم يشهدوا في تاريخهم أية محاولة لإجبارهم على الاندماج مع غيرهم».

يؤصّل الباحث العماني الحصيف بدر العبري مسألة التسامح أو التعددية الدينية في عمان الماضي والحاضر؛ لتكون جزءا من الثقافة الدينية في مدونات الفقهاء العمانيين من الإباضية وغيرهم، ويرى بأنها حالة اجتماعية راسخة في نصوص الفقه والممارسات اليومية سواء أكانت بين المذاهب الإسلامية وأتباعها أم كانت بين المسلمين وبقية الناس من أتباع الديانات الأخرى، ولا يعني ذلك خلو الأوضاع الاجتماعية أحيانا من بعض الممارسات التي لا تنتمي إلى الثقافة الدينية الأصيلة، ولكنها تخالف القاعدة التي أصبحت جزءا من ثقافة المجتمع وممارساته؛ فـ«التسامح الفقهي مع اليهود والنصارى والمجوس والبانيان، والذين شاركوا العمانيين ردحا من الزمن في وطنهم، وشاركوهم في معاملاتهم» هو السمة البارزة لهذا المجتمع وسلطاته المتعاقبة، والشأن نفسه في الفقه السني، والشيعي.

(4)

تقتضي إدارة التبادل التجاري النابع من التباين الإنساني والطبيعي بين الأقاليم وجود ثقافة قادرة على توفير الأجواء الكفيلة بتوفير مناخات لهذه الجاليات الراغبة في استيطان المنطقة وإدارة تجارتها؛ وهذا ما يبرز أهمية «العقيدة السياسية» بوصفها أيديولوجيا الدولة البوسعيدية المؤمنة بالبعد الإنساني وأهميته في إدارة الحضارة والتنمية؛ مما شجع هجرة التجار الهنود إلى عمان في فترات تاريخية طويلة ولكننا نلاحظ وجود قوائم لأسر هندية في الفترة (1744- 1970م) استقرت في سلطنة عمان بسبب البعد الإنساني وإيمان السلطة به؛ إذ يقدم إسماعيل الزدجالي أسماء هذه الأسرة ويمهد نظريا للعوامل والدوافع الداخلية والخارجية التي جعلت من التجار الهنود يرون عُمان الإقليم المناسب لاستيعاب الحركة التجارية ودور الوساطة فيها. وعندما نعود إلى ظروف الاستقرار في المنطقة؛ فإننا نلاحظ أنها عوامل مبنية وفق الرؤية السياسية التي أصبحت عقيدة الدولة، وثقافة بنيوية للسلاطين منذ المؤسس الإمام أحمد بن سعيد (1744- 1783م) فقد أعطى للتجار البانيان تصريحا لإقامة ثلاثة معابد في مسقط؛ فالاهتمام بالبنى الاقتصادية أهم السمات البنيوية التي ميزت الدولة البوسعيدية، وهو أمر لا يعود إلى إدارة المصلحة الاقتصادية والسياسية فحسب، وإنما يرجع إلى طبيعة السمة الثقافية لسلاطين الدولة، كما يحدد العبري العامل الاجتماعي الدافع إلى توفير الظروف الحماية للتجارة؛ ومردُّ هذا العامل إلى طبيعة الثقافة السائدة في الأوساط الاجتماعية؛ مما دفع الهندوس (= البانيان) عدم الاكتفاء بالاستقرار وإنما الاندفاع إلى التعايش والاندماج الثقافي أحيانا مع المحيط. وسجّل الإنجليز في يومياتهم هذه السمات في عمان، ومن بين هؤلاء المبشّر المسيحي الإنجليزي وليام بالجريف بأنهم يتسمون بالتسامح مع كل الأجناس والديانات والعادات بغض النظر عن الانتماء الديني، وهذا قلّما يوجد في بقاع الأرض؛ مما جعل التجار الهنود يجدون أنفسهم يعيشون بحرية في عمان بوصفها «الموطن الثاني» لهم؛ ليمارسوا عباداتهم، ويقيموا شعائرهم الجنائزية، وهي سماتٌ تجعل من عمان منطقة إنسانية واسعة الإطار والبعد الحضاري، وتجعل من الهوية الوطنية حالة دينامية على درجة عالية من المتانة.

لم يكن التاجر الهندي مجرد «بائع» في البيئة العمانية أو وسيط تجاري كما يشير الزدجالي وإنما ولد فيه انتماء عميق لعمان نلاحظه في شخصية رام شاندرا رادجي R. C. Raadji فقد اقترح على الإمام سعيد بن أحمد الانتقال إلى مسقط؛ ولعل ذلك كان وراء انتقال ابنه حمد بن سعيد عام (1789م) وكان ذلك سببا لازدهار النشاط التجاري البحري وحقق الأرباح إلى خزينة الدولة؛ ولم يكتف التجار الهنود على تشجيع الحكام على إدارة التجارة؛ وإنما يسهم التاجر الهندي في إدارة الموارد المالية فقد استحدث موجي بهيماني M. Bahimani وابنه غوبالجي Gjobalgi نظام الجمارك في عهد السيد سلطان بن أحمد (1792- 1804م). وتكشف عراقة الأسر الهندية في سلطنة عمان عن طبيعة الثقافة السياسية والاجتماعية، وإيمان «السلطان العماني» دائما بعمق الإنسانية والتعددية، وحضور الاقتصاد بوصفه محركا للعلاقات بين الشعوب بكل أطيافها؛ إذ نلاحظ تأسيس شركات تجارية عائلية مطلع القرن السابع الميلادي واستمرارها في عهد الدولة البوسعيدية وبقائها إلى هذا التاريخ مثل شركة أسرة دانجي موراجي شبيكة D. M. Shabika في (1600م) وشركة نارينداس براجي فلابداس N. P. Vallaphdas في (1650م)؛ مما شجع المزيد من العلاقات الهندية العمانية التجارية بموجب الاتفاقيات وأسلوب إدارة الدولة لها. وحصر الزدجالي مجموعة من الأسر الهندية التي استقرت في عمان خلال الفترة التي حددها في دراسته (1744- 1970م) وإن كانت بعض هذه الأسر وصلت عمان قبل هذا التاريخ المحدد مثل أسرة شبيكة، والتي بلغت (12) أسرة كان لها الدور الكبير في تأسيس مؤسسات تجارية ودفع الحركة التنموية في البلاد وتشجيع الهجرات التجارية، كما كان لها الدور الكبير تصدير السلع العمانية مثل التمور والليمون الجاف إلى الهند؛ لتعود السفن إلى عمان بالمواد الغذائية والبهارات والحبوب والأخشاب والأقمشة.

سعود بن عبدالله الزدجالي كاتب وباحث عماني

ألقيت هذه الورقة في العاصمة الهندية نيودلهي في ذكرى الـ(70) عاما على العلاقات التاريخية بين سلطنة عمان.

مقالات مشابهة

  • الرئيس اللبناني: لن نسمح بتكرار الحرب التي دمرت كل شيء في بلادنا
  • محافظة القاهرة ووزارة التضامن الاجتماعي تبحثان التوسع في منظومة الحضانات وتنمية الطفولة المبكرة
  • التضامن الاجتماعي ومحافظة القاهرة تبحثان التوسع في منظومة الحضانات وتنمية الطفولة المبكرة
  • بعد 3 سنوات من تشكيله.. العليمي يصدر قرارا بشأن القواعد المنظمة لأعمال المجلس الرئاسي
  • مجلس جامعة مطروح يؤكد استمرار تطوير المنظومة الأكاديمية والبحثية
  • بمناسبة عيد الفطر.. عفو عام عن أعضاء جهاز حرس الحدود ضمن شروط!
  • تاريخ العلاقات العُمانية - الهندية وأثر التعددية وثقافة الاختلاف في التفاهم الحضاري
  • «الدبيبة» يناقش تنظيم «سوق العمل» والصعوبات التي تواجهه
  • تنفيذي الشرقية يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عيد الفطر المبارك
  • الرعيش: تباين وتضارب مبادرات أعضاء الرئاسي يعكس حجم الانقسامات داخله