الاستثمار في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT
طريق عُمان لتعزيز الإنتاجية
د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
كنَّا قد تناولنا في مقالنا السابق تشخيص الوضع الراهن للإنتاجية في الدول العربية والخليجية؛ بما في ذلك سلطنة عُمان؛ إذ يتضح أنَّ مؤشر الإنتاجية سجل تراجعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي. وفي سياق التعامل مع معضلة تدني المستويات العامة للإنتاجية، نُقدِّم اليوم بعض الحلول القائمة على توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، استنادًا إلى التقرير المُتميز لمنتدى الاستراتيجيات الأردني ودراسة صندوق النقد الدولي حول مستقبل الوظائف وتقرير جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي.
ففي خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، تبرز أهمية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كأدوات إستراتيجية لتعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات الاقتصادية والمجالات. وقد تطور الذكاء الاصطناعي بسرعة هائلة في الآونة الأخيرة، وأصبح يمتلك إمكانات هائلة قادرة على إحداث ثورة في جميع الأنشطة الاقتصادية تقريبًا. فهو يستخدم الآن، على نطاق واسع، في الرعاية الصحية، والتمويل، والتعليم، والتصنيع، والنقل واللوجستيات، وجذب الاستثمارات، وغيرها من القطاعات. لذلك، يُساعد الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء الأعمال، ورفع إنتاجياتها من خلال أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتم يدويًا. ومن الأمثلة على الذكاء الاصطناعي، الروبوتات التي تقدم المساعدة، والسيارات ذاتية القيادة، والتصحيح التلقائي، وبرامج تحرير النصوص، وتحليل وفحص البيانات، والروبوتات الجراحية وغيرها.
وتسعى سلطنة عُمان، من خلال خططها ورؤيتها المستقبلية، إلى تعظيم الاستفادة من هذه التقنيات الحديثة لخلق فرص عمل نوعية وتعزيز كفاءة العمل وتحقيق التنمية المستدامة؛ حيث أطلقت أجهزة حكومية مؤخرًا العديد من المبادرات، وعلى رأسها وزارة الاقتصاد التي دشنت "المبادرة الوطنية لتمكين الاقتصاد الوطني المعزز بالذكاء الاصطناعي" لإدماج تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في المشروعات والبرامج الإنمائية في قطاعات التنويع المحددة بخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021- 2025). وتهدف هذه المبادرة إلى تسريع وتيرة تحقيق مستهدفات قطاعات التنويع الاقتصادي بخطة التنمية الخمسية العاشرة، وتمكين الجهات والمؤسسات الحكومية من استخدام تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في المشروعات الإنمائية، إلى جانب دعم الفرص الاستثمارية القائمة على التقانة والابتكار، كما ستُسهم المبادرة في تعزيز كفاءة الإنفاق الإنمائي من خلال زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف، إضافة إلى تطوير الخدمات الحكومية الذكية وضمان جودتها.
أيضًا أطلقت وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات برنامج "مستقبل الذكاء الاصطناعي وتأثيره على مجتمعنا" وبرنامج "دعم التميز في مجال الذكاء الاصطناعي (صُناع الذكاء الاصطناعي)".
وفي هذا السياق، لا يكتمل الحديث عن تعزيز الإنتاجية دون التطرق إلى مفهومين مُهمين: التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، واللذان يتكاملان بشكل كبير، فيشير مفهوم التحول الرقمي إلى توظيف التكنولوجيا لتطوير طريقة عمل المؤسسات وتحسينها، من خلال تنفيذ تقنيات وعمليات ونماذج أعمال جديدة لزيادة الكفاءة ورفع الإنتاجية وتحسين مستوى رضا العملاء.
أما مفهوم الذكاء الاصطناعي؛ فهو مجال فرعي من التحول الرقمي يتضمن استخدام الآلات الذكية التي يمكنها التعلم والتفكير وأداء المهام التي تتطلب بالعادة ذكاءً بشريًا. وتشمل تقنيات الذكاء الاصطناعي التعلم الآلي، ومعالجة اللغات الطبيعية، والروبوتات. وبناءً على هذين التعريفين، يُعد الذكاء الاصطناعي مُكوِّنًا مُهمًا للتحول الرقمي؛ إذ يستطيع أتمتة المهام المتكررة وتحليل كميات هائلة من البيانات وتقديم خلاصات وأفكار جيدة، يمكن أن تؤدي إلى قرارات مُستنيرة تُساعد في عملية التحول الرقمي على مستوى الفرد والمؤسسة والدولة.
وتشير ورقة صندوق النقد الدولي الصادرة خلال العام الجاري إلى عدد من النتائج المثيرة للاهتمام، من بينها: أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر في نحو 40% من الوظائف حول العالم؛ حيث سيحل محل بعض الوظائف؛ مما يتطلب الموازنة بين سياسات التوظيف وسياسات تبني التكنولوجيا لتحقيق المنفعة العامة. كذلك تبلغ نسبة الوظائف التي قد تتأثر بالذكاء الاصطناعي في الاقتصادات المتقدمة حوالي 60%. وسيتأثر النصف منها نتيجة إدماج الذكاء الاصطناعي في العمل؛ مما يُعزز من إنتاجية العاملين فيها، ويرفع من كفاءة عملهم. أما النصف الآخر من الوظائف، فقد تتولى التطبيقات الذكية تنفيذ المهام الرئيسية التي يقوم بها؛ مما قد يؤدي إلى تقليل الطلب على الأيدي العاملة وتخفيض أجورهم والحد من فرص العمل المستقبلية في هذه الوظائف.
أما في الأسواق الصاعدة من المتوقع أن تتأثر الوظائف بحوالي 40% نتيجة تبني الذكاء الاصطناعي، بينما ستتأثر وظائف البلدان ذات الدخل المنخفض بحوالي 26% فقط. وتشير النتائج إلى أن الأثر المباشر على العديد من هذه الاقتصادات سيكون أقل، نتيجة ضعف قدرتها على تبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ فهي لا تمتلك البنية التحتية الكافية والقوى العاملة الماهرة التي تتطلبها تلك التكنولوجيا. وفي المقابل، فإنَّ ضعف تبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد يُفاقم من مخاطر عدم المساواة بين الدول.
ويتحتم على الدول في هذا المجال، أن تقوم بتأسيس شبكات أمان اجتماعي شاملة، تُقدِّم برامج إعادة تأهيل وتدريب العاملين المُعرّضين إلى خطر الإحلال نتيجة ضعف قدراتهم على مواكبة الذكاء الاصطناعي. كما لا بُد من أن تكون قاعدة التحول نحو الذكاء الاصطناعي أكثر شمولًا للجميع من أجل حماية مصادر الدخل والحد من عدم المساواة. وينبغي لاقتصادات الأسواق الصاعدة والمتقدمة أن تستثمر في الابتكار والتكامل مع الذكاء الاصطناعي. أما الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية الأقل استعدادًا، فإن تطوير البنية التحتية الأساسية لبناء قوى عاملة ماهرة رقميًا يمثل الأولوية الأكثر إلحاحًا.
وتُشير نتائج مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي 2023، الصادر عن "أكسفورد إنسايتس" إلى أنه على المستوى الدولي تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المشاركة في تقرير عام 2023 بعد أن حققت ما مجموعه 84.8 نقطة من أصل 100. تلتها كل من سنغافورة والمملكة المتحدة، وفنلندا، وكندا، على التوالي، علما بأن المتوسط العام للبلدان المشاركة كان 45.35 نقطة. أما على المستوى الإقليمي، فقد جاءت دول مجلس التعاون الخليجي في المراتب الأربعة الأولى ضمن قائمة الدول العربية المشاركة في التقرير؛ حيث جاءت الإمارات في المرتبة الأولى عربيًا، محتلة بذلك المرتبة 18 ضمن الترتيب العام للمؤشر. تلتها كل من السعودية وقطر وسلطنة عُمان على الترتيب؛ حيث جاءت سلطنة عُمان في المرتبة 55 من أصل 193 دولة.
وهناك العديد من التوصيات والتي يُمكن الاستفادة منها في هذا الموضوع، نذكر منها: البدء في إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي في المراحل التعليمية الأساسية والثانوية والجامعية؛ بهدف إيجاد مُخرجات تتمتع بمهارات جيدة الذكاء الاصطناعي. وهناك ضرورة مُلِحَّة لزيادة وتشجيع الاستثمار في مجال البنية التحتية للقطاع التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة والسعي لاستقطاب كبرى الشركات العالمية العاملة في هذا المجال. ولضمان النجاح في هذا المسار لا بُد من زيادة حجم الانفاق على البحث والتطوير في الموازنة العامة للدولة خلال السنوات المقبلة؛ لتعزيز جهودها في تسريع التحول الرقمي. وكذلك ضمان وصول خدمات الانترنت السريع الى مختلف المناطق بتكلفة مالية مناسبة.
وتتسابق الدول والأجهزة والكيانات العامة والخاصة في مجال توطين الذكاء الاصطناعي وادواته وتطبيقاته المختلفة، ومن الأهمية بمكان التنويه بأهمية الدخول في هذا السابق ليس لمجرد الدخول وانما لتعظيم الاستفادة من هذا التحول "البراديمي" (التحوُّل في النموذج) بشكل إيجابي لتعزيز مستويات الإنتاجية في كافة القطاعات الاقتصادية، وبما ينعكس على تحسين الأداء، ويؤدي الى تحقيق نقلات نوعية على مختلف الأصعدة. وهناك أهمية لتوظيف العديد من أدوات من الذكاء الاصطناعي، في عمليات البحث والتطوير والابتكار وغيرها لدعم العمليات المختلفة، وتوفير الوقت والجهد مما يعزز من مستويات الكفاءة والإنتاجية. ومما لا شك فيه أن تبنِّي مفهوم الذكاء الاصطناعي لتطوير بيئة الأعمال، سيُسرِّع من تنفيذ مبادرات الخدمات المستقبلية ضمن رؤية "عُمان 2040"، وكذلك تنفيذ مبادرات مكون الخدمات الحكومية والرقمنة ضمن خارطة طريق تحديث القطاع العام.
ونختم بالقول.. إنَّ تعزيز القدرات الوطنية في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على مستوى الحكومة والشركات والأفراد أمرٌ لا مناص منه لمواكبة التطور العالمي؛ ففي ظل مسارعة الدول خليجيًا وإقليميًا وعالميًا لبناء قدراتها الاستيعابية لهذه التكنولوجيا المُهمة، لا يُمكننا التخلُّف عن الركب. لذلك.. يجب علينا بذل كل الجهود وتسخير الإمكانيات لتعزيز قدراتنا في هذا المجال، لكي نضمن مستقبلًا مُزدهرًا لأجيالنا القادمة في كافة المجالات؛ بدءًا من الاقتصاد والتعليم، وصولًا إلى الرعاية الصحية والاجتماعية والاستدامة البيئة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بين الابتكار والسيطرة.. هيمنة الذكاء الاصطناعي الصيني
ترجمة: نهى مصطفى -
خلال شهرين من إصدار شركة صينية غير معروفة تدعى DeepSeek نموذجًا جديدًا قويًا للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بدأ هذا الاختراق بالفعل في تحويل سوق الذكاء الاصطناعي العالمي.
يتميز DeepSeek-V3، كما يُطلق على نموذج اللغة الكبير المفتوح (LLM) الخاص بالشركة، بأداء ينافس أداء النماذج من أفضل المختبرات الأمريكية، مثل ChatGPT من OpenAI و Claude من Anthropic و Llama من Meta ، ولكن بجزء صغير من التكلفة. وقد أتاح هذا للمطورين والمستخدمين في جميع أنحاء العالم الوصول إلى الذكاء الاصطناعي المتطور بأقل تكلفة.
في يناير، أصدرت الشركة نموذجًا ثانيًا، DeepSeek-R1، يُظهر قدرات مماثلة لنموذج o1 المتقدم من OpenAI مقابل خمسة بالمائة فقط من السعر. ونتيجة لذلك، يشكلDeepSeek تهديدًا لقيادة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يمهد الطريق للصين للحصول على مكانة عالمية مهيمنة على الرغم من جهود واشنطن للحد من وصول بكين إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
يُبرز الصعود السريع لشركةDeepSeek حجم التحديات والمخاطر في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فإلى جانب الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية الهائلة لهذه التقنية، ستتمتع الدولة التي تطوّر نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية، التي تشكّل العمود الفقري لتطبيقات وخدمات المستقبل، بنفوذ واسع النطاق. ولا يقتصر هذا النفوذ على المعايير والقيم المضمّنة في هذه النماذج فحسب، بل يمتد أيضًا إلى منظومة أشباه الموصلات، التي تعد الركيزة الأساسية والبنية التحتية التقنية والمعالجة الحسابية اللازمة لتشغيل وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وتشمل الأجهزة والبرمجيات التي تمكّن الذكاء الاصطناعي من تنفيذ العمليات المعقدة بكفاءة. وتعكس القناعة الراسخة لدى كل من الصين والولايات المتحدة بأن هذه التقنيات قادرة على تحقيق تفوّق عسكري، الأهمية الاستراتيجية للريادة في هذا المجال وضرورة الحفاظ عليها على المدى الطويل.
ومع ذلك، فإن التركيز على أداء نموذج DeepSeek-V3 وتكاليف تشغيله المنخفضة قد يُغفل نقطة أكثر أهمية. فإحدى العوامل الرئيسة التي ساهمت في سرعة انتشار نماذج DeepSeek هي أنها مفتوحة المصدر، مما يتيح لأي شخص تنزيلها وتشغيلها ودراستها وتعديلها والبناء عليها، مع تحمّل تكلفة الطاقة الحاسوبية فقط. في المقابل، تكاد جميع نماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية المماثلة أن تكون ملكية خاصة، مما يحدّ من استخدامها ويزيد من تكاليف تبنيها من قِبل المستخدمين.
بدأت شخصيات بارزة في مجتمع الذكاء الاصطناعي الأمريكي يدركون بشكل متزايد المشكلات الناجمة عن التركيز على النماذج المغلقة المصدر. ففي أواخر يناير، أقرّ سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، بأن الشركة ربما «أخطأت في قراءة التاريخ» بعدم تبنيها نهج الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر. وفي فبراير، توقّع إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google، مستقبلًا يُهيمن فيه مزيج من النماذج المفتوحة والمغلقة على التطبيقات اليومية. من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاعتماد كليًا على نماذج الذكاء الاصطناعي المغلقة التي تطورها الشركات الكبرى لمنافسة الصين، مما يستدعي من الحكومة الأمريكية تكثيف دعمها للنماذج مفتوحة المصدر، حتى مع استمرار جهودها في تقييد وصول الصين إلى التقنيات المتقدمة، مثل أشباه الموصلات وبيانات التدريب.
للحفاظ على هيمنتها، تحتاج الولايات المتحدة إلى وضع برنامج شامل لتطوير ونشر أفضل النماذج مفتوحة المصدر. لكن في الوقت ذاته، يجب عليها ضمان أن تظل الشركات الأمريكية الرائدة هي التي تبني أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر كفاءة، والتي يُشار إليها أحيانًا باسم «أنظمة الحدود»، والتي غالبًا ما يتم تطويرها ضمن شركات خاصة ذات تمويل ضخم.
إلى جانب ذلك، ينبغي على واشنطن تبنّي أجندة سياسية أوسع تعزز مكانة الذكاء الاصطناعي الأمريكي مفتوح المصدر على الساحة الدولية، وتدعم بناء البنية التحتية الأساسية اللازمة للحفاظ على ريادتها في هذا المجال. ولا يقتصر ذلك على تحفيز تطوير النماذج مفتوحة المصدر داخل الولايات المتحدة، بل يشمل أيضًا تسهيل وصولها إلى المساهمين والمستخدمين في المجال الصناعي والأكاديمي والقطاع العام في الدول المتحالفة معها.
بدون هذه الخطوات الاستراتيجية، يُشير مشروع DeepSeek إلى مستقبل محتمل قد تستخدم فيه الصين نماذج مفتوحة المصدر قوية ومنخفضة التكلفة لتجاوز الولايات المتحدة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية.
لطالما كان الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر عاملًا رئيسيًا في التقدم التقني، رغم قلة الاهتمام السياسي به مقارنة بالأنظمة المغلقة. منذ ظهور ChatGPT عام 2022، بدأ يُنظر إلى نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية على أنها بمثابة «نظام تشغيل» جديد، حيث تعمل كجسر بين اللغة البشرية والبيانات التي تعالجها الآلات. وكما استمر نظام Linux مفتوح المصدر بجانب أنظمة احتكارية مثل Windows، برزت نماذج مفتوحة مثل Llama إلى جانب ChatGPT، مما يمهّد لانتشار أوسع للذكاء الاصطناعي. هذا التطور دفع بعض الباحثين لوصف المرحلة الحالية بأنها «لحظة لينكس» في مجال الذكاء الاصطناعي.
على مرّ العقود، ازدهرت مشاريع البرمجيات مفتوحة المصدر، مثل لينكس، بفضل مساهمات المطورين حول العالم، وهو ما أدى إلى تطويرها بسرعة وتحسين أمنها، حيث يمكن لأفضل المهندسين اختبارها وتحسينها بشكل متواصل. كما أن كونها خاضعة لإدارة أمريكية وأوروبية جعلها أحد عوامل تفوّق الغرب في مجالات عدة، مثل: أنظمة التشغيل، متصفحات الويب، قواعد البيانات، التشفير، وحتى لغات البرمجة.
تُهيمن Nvidia على صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي بفضل وحدات معالجة الرسومات (GPUs) وبرنامجها الحصري CUDA، مما يمنحها موقعًا متقدمًا في هذا المجال. ورغم القيود الأمريكية، استخدمت الصين رقائق Nvidia في تدريب نماذج DeepSeek، لكنها تسعى حاليًا للاعتماد على رقائق Ascend من هواوي، مما قد يُقلص الحاجة إلى الرقائق الأمريكية. إذا حققت النماذج الصينية انتشارًا واسعًا بدعم حكومي، فقد يُجبر المستخدمون عالميًا على التحول إلى شرائح هواوي، مما سيُضعف شركات مثل Nvidia و TSMC ويمنح الصين نفوذًا أكبر في صناعة الرقائق. هذا السيناريو يُشبه استحواذ الصين على سوق بطاريات الليثيوم، حيث قد تؤدي استراتيجيتها إلى إعادة تشكيل سلسلة التوريد العالمية، مُهددة الهيمنة الغربية في هذا القطاع. كيفية مواجهة هذا التهديد
لمواجهة النفوذ الصيني في الذكاء الاصطناعي، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز تطوير ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، مع التركيز على دعم الجامعات والشركات والمختبرات الوطنية. رغم ارتفاع الاستثمارات في هذا المجال، لا تزال متواضعةً مقارنةً بالتمويل الإجمالي للذكاء الاصطناعي. لذا، يجب تقديم حوافز حكومية لدعم المشاريع المتوافقة مع الشرائح الغربية، وتوسيع البرامج البحثية الوطنية، والاستفادة من موارد وزارتي الطاقة والدفاع. كما ينبغي تعزيز التعاون مع مبادرات كبرى مثل Stargate، التي تخطط لاستثمار 500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي الأمريكي خلال السنوات القادمة.
يجب على واشنطن تعزيز النظام البيئي التكنولوجي الأمريكي لدعم الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر عبر تطوير نظام حوسبة متكامل يتيح للمطورين الاستفادة من أفضل الشرائح الغربية، مما يعزز الطلب عليها ويحد من المنافسة الصينية. وينبغي ترسيخ تفوق التقنيات الغربية، إلى جانب قيادة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. ورغم هيمنة بنية Transformer، فإن مناهج جديدة مثل Structured State Space Models ونماذج Inception diffusion تُظهر إمكانات مستقبلية واعدة، مما يستدعي دعمها لضمان الريادة الأمريكية في هذا المجال.
ينبغي على واشنطن تجنب فرض قيود واسعة على تصدير نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، وبدلًا من ذلك، تقديم حوافز لضمان توافقها مع الشرائح الغربية. كما يجب على لجنة التجارة الفيدرالية مراعاة دور شركات التكنولوجيا الكبرى في تعزيز الريادة الأمريكية عند النظر في قضايا مكافحة الاحتكار. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التصدي لمحاولات الشركات الصينية خفض أسعار نماذج الذكاء الاصطناعي لإضعاف المنافسة، عبر دراسة فرض تدابير مكافحة الإغراق إذا تبيّن أن هذه الممارسات تهدف إلى إقصاء الشركات الأمريكية.
يجب على الولايات المتحدة تعزيز تنافسها مع الصين في الأسواق العالمية، حيث قد تستخدم بكين نماذج الذكاء الاصطناعي كأداة للنفوذ الاقتصادي. كما ينبغي لواشنطن التحقيق في إمكانية استخدام DeepSeek بيانات من GPT-4 دون تصريح، ودراسة تطبيق قاعدة «المنتج الأجنبي المباشر» على مخرجات الذكاء الاصطناعي، لمنع الشركات الصينية من الاستفادة من النماذج الأمريكية الرائدة، كما فعلت مع معدات تصنيع أشباه الموصلات.
ستكون هذه الإجراءات أكثر فاعلية إذا تبنتها دول أخرى. لذا، تحتاج واشنطن إلى تنسيق سياساتها مع شركائها في آسيا وأوروبا ومناطق أخرى لإنشاء كتلة دولية قادرة على إبطاء انتشار النماذج الصينية. ورغم ضخامة السوق الصينية، فإنها تظل صغيرة مقارنة بالسوق العالمية، وهو المجال الأكثر أهمية الذي يجب أن تركز عليه الولايات المتحدة لضمان هيمنة النظام البيئي الغربي للحوسبة والذكاء الاصطناعي في المستقبل.
ورغم أن القيود الأمريكية على تصدير الشرائح المتقدمة حدّت من قدرة الصين على الوصول إليها، فإن بكين ترى في الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، المبني على تقنيات أقل تقدمًا، مسارًا استراتيجيًا لاكتساب حصة سوقية أكبر. ومن المرجح أن تستمر النماذج الصينية في التحسن عبر الابتكار الخوارزمي، والتحسينات الهندسية، والتصنيع المحلي للرقائق، بالإضافة إلى أساليب غير مشروعة، مثل التدريب غير المصرح به على مخرجات النماذج الأمريكية، والتحايل على ضوابط التصدير. ومع استمرار الصين في تحسين أداء نماذجها وأسعارها، فإن الحاجة إلى استراتيجية أمريكية متماسكة تصبح أكثر إلحاحًا.
يجب على واشنطن أن تتبنى استراتيجية استباقية تضمن توفير بدائل أمريكية متفوقة فور إصدار الصين لنماذجها الجديدة، ما يعزز الريادة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي. يتطلب ذلك تحسين الإطار التنظيمي، مثل ذلك الذي وضعته إدارة بايدن لضبط انتشار التكنولوجيا، إلى جانب تسخير الموارد الحكومية لدعم النماذج المتقدمة قبل إتاحتها للعامة. تقف إدارة ترامب المقبلة أمام «لحظة لينكس» حاسمة، حيث يمكنها إما ترسيخ الهيمنة الأمريكية على الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر، أو المخاطرة بفقدان النفوذ لصالح الصين، التي قد تعيد توجيه السوق نحو تقنياتها الخاصة.
جاريد دانمون هو المستشار الأول للمبادرات الاستراتيجية في وحدة الابتكار الدفاعي (DIU)
نشر المقال في Foreign Affairs