الجزيرة:
2025-04-29@21:51:19 GMT

ما بعد الحرب في السودان.. اليابان نموذجًا

تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT

ما بعد الحرب في السودان.. اليابان نموذجًا

بعد نهاية هذه الحرب سوف يتفاجأ كثير من السودانيين بأن بلادهم دُمّرت بصورة شبه كاملة، وتعرضت المصانع والمتاحف والجامعات والمعالم الأثرية للنهب والتجريف، وأن الاقتصاد – تحديدًا – يعاني في غمرات الموت، وكل شيء، تقريبًا، على حافة الهاوية، ما يعني – وذاك هو الطوق الوحيد للنجاة – العمل بهمّة؛ لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة ومتينة، واستلهام تجارب مشابهة خرجت من تحت ركام المآسي.

خسائر وأرقام صادمة

وفقًا لإحصائية وزارة المالية، فقد بلغت الخسائر الاقتصادية جراء الحرب 26 مليار دولار، وهي إحصائية أولية غير دقيقة، أضاف إليها عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر أرقامًا صادمة، عندما ذكر أنّ المؤسسات العامة والحكومية تعرضت لدمار قد تفوق إعادة إعماره 150 مليار دولار- يا للهول- فتلك الخسائر قابلة للزيادة، وهي فاتورة مبدئية لنحو عام واحد فقط من القتال!

هذه الأرقام، لم تشمل – بطبيعة الحال – الأضرار التي لحقت بالقطاع الخاص، وبالسواد الأعظم من الناس العاديين، ضحايا الحرب، الذين فقدوا بيوتهم ومقتنياتهم وأهلهم ومصادر رزقهم، لكن الفاجعة الكبرى – مما يصعب رتقه – هي النسيج الاجتماعي الممزق، الذي سيعاني منه جيل آخر، على الأقل، ومأزق الهويات القاتلة، مما تولد عن جدلية صراع المركز والهامش، التي عبَرَت موائد النخبة السياسية والعسكرية، إلى الجنود البسطاء الذين باتوا يلوحون بمطالب اقتسام السلطة والثروة فوق أفواه البنادق، ويتحدثون عن المظالم التاريخية.

الإوزّ الطائر

ولعل من المؤسف القول؛ إن الحرب نقلت السودان نقلة خطيرة، من رصيف الدول النامية إلى غرفة الإنعاش، وأصبح اليوم كما لو أنه رجل أفريقيا المريض، دون مبالغة في الوصف، بعد أن كان مرشحًا ليكون سلّة غذاء العالم، وهي ردة لا نظير لها في التجارب المعاصرة، مما يتطلب كضرورة حاسمة، ثورة إصلاحيّة عميقة الجذور، أسوة بالتي حدثت في اليابان، إذ إن العالم كله يمضي للأمام، بخطى وئيدة، أو على طريقة نظرية الإوزّ الطائر، وهي التي تقوم بتصوير عملية النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا، وتأتي اليابان في مقدمة ذلك السرب.

ولعلّ الاقتصادي الياباني «أكاماتسو كانامي» عندما وضع تلك النظرية في العام 1937م اعتمد على طريقة أسراب الإوزّ، التي تشير إلى أن الدول الناهضة – وتمثل السرب اللاحق – تميل إلى الصناعات الأقل تقدمًا، مقارنة بالدول التي تفوقها في التطور الاقتصادي، وعرض تجربة بلاده التاريخية في التحول المذهل من استيراد النسيج من بريطانيا إلى إنتاجه وتصديره بعد ذلك، وصولًا إلى تركيز رأس المال والانعطافة "الحداثوية"، حدّ أن العالم اليوم، شديد الإعجاب بالتجربة اليابانية، كما لو أنها دولة في كوكب مغاير.

قد يكون من المفيد للسودانيين النظر في تجربة اليابان، ليس لما انتهت إليه من ثورة صناعية، ولكن من البداية المُدهشة والخروج السريع مِن عُنق الزجاجة، وذلك بالضرورة يتطلب تحطيم ما تبقى من جهاز الدولة البيروقراطي، والأفكار السياسية البالية للنظام القديم.

التجربة اليابانية

بالعودة للعام الأخير من الحرب العالمية الثانية، وبينما الأنفاس مُتصاعدة، نفّذ الحلفاء هجومًا جويًا بقنابل حارقة، قضت والتهمت نحو 67 مدينة يابانية، ثم تلا ذلك إلقاء أميركا قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي لتستسلم طوكيو أخيرًا، وتنتهي الحرب بدمار هائل في كل أجزاء اليابان تقريبًا، ونتج عن ذلك نهاية القبضة الإمبراطورية، ودمار الاقتصاد والحياة القديمة كلها، حتى ظنّ الجميع أن اليابان لن تقوم لها قائمة بعد ذلك اليوم الأسود.

لكن العقل الياباني لم ينهزم، وقد أخذ رئيس الوزراء حينذاك يوشيدا المهمة على عاتقه بقدر من الجدية، وحول النقمة إلى نعمة؛ تحقيقًا لما عرف بعد ذلك بالمعجزة اليابانية، والتي حدثت في أقل من عشرين عامًا، تحت شعار: (فوكوكو كيوهيي)، والتي تعني تنمية القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد، في محاولة جادّة للحاق بالركب الغربي الصناعي، والسير فوق جُملة مشروعات إصلاحية، استهدفت القوانين أولًا، ومن ثم التعليم والإنتاج الزراعي، وقبل كل شيء بناء شخصية الفرد على نموذج "غامان"، الذي يعتنقه الياباني منذ الصغر، وهو مجموعة إستراتيجيات تهدف للتعامل مع الأحداث الخارجة عن السيطرة، حد أن الأفراد يطورون في أنفسهم قدرةً خارقة على تحمل أشياء غير متوقعة أو سيئة، ومن العسير اجتيازها بنجاح، مثل: الزلازل والمصاعب الأخرى الحياتية.

تفكيك القبضة المركزية

بالمقابل يحتاج أهل السودان بعد أن تضع الحرب أوزارها، إلى مرحلة مهمة، وهي مرحلة التعافي الاجتماعي والسياسي، ومن بعد ذلك التوافق على دستور جديد، يتضمن حلًا ناجعًا للإشكالية الأهم المنحصرة في الصراع على السُلطة، وهي قضية تتطلب تفكيك قبضة المركز لصالح الأقاليم، باعتماد النموذج الفدرالي بدرجة أكبر، مع أحقية كل إقليم بالتمتع بثرواته وحقوقه السياسية، والتنسيق مع المركز في بعض القضايا السيادية فقط، دون أن تكون ثمة حاجة للهجرات نحو العاصمة.

والمشكلة الأخرى، تتعلق بوضع حد للأيادي الخارجية التي تعبث بموارد السودانيين، إذ إن أكثرَ ما أضرّ بالاستقرار خلال العقود السابقة، القابليةُ السودانيّة للتدخلات الأجنبية، وازدهار أسواق العمالة السياسية للخارج، وهو ما أملته الوضعية الجغرافية للسودان تقريبًا، وضعف الوازع الوطني، لا سيما أنه، كما أشار الدكتور عزمي بشارة في كتابه: "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، "كلما زاد الوزن الجيوستراتيجي للدولة، زاد تأثير العوامل الخارجية السلبية"، وهو مأزقنا الراهن بالضبط، ويمكن للقوى الوطنية تدارك استقلالية القرار، في خضم مكابدتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ربما ليس بالضرورة تقفّي أثر المعجزة اليابانية وقع الحافر بالحافر، فللسودان خصوصيته وتفرده حتى في الفجائع، بينما اليابان دولة استثنائية في هذا العالم، لكنها أيضًا أقرب تجربة لما يمكن للمرء أن يفعله بُعيد الهزيمة والدمار، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها، فهو أحق أن يأخذ بها، وأمام الشعب السوداني فرصة أخيرة، تنشد التسامي فوق الجراح، ثم التوجّه إلى العمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات بعد ذلک

إقرأ أيضاً:

جريمة مطلوقة

مازلت اذكر الجدل الذي أثارته قضية القضار ف ونحن صبيان عندما تزوج رجل من رجل إذ كان الرأى العام يطالب بالإعدام والرجم والتردي من جبل ولكن القاضي قال إن قانون العقوبات السوداني (وقتها) ليس فيه جريمة بهذا المعنى وبالتالي ليس لها عقوبة محددة. فيما بعد علمنا أن هذا هو خط الدفاع الذي تبناه محامي الشواذ فحكم عليهما القاضي حكما مخففا ربما كان أسس حكمه على الخروج عن الذوق العام أو أصول الاحكام القضائية أو سابقة قضائية.. الشغلانة البعرفوها ناس القانون ديل

ثم كبرنا وكبرت أحزاننا ودرسنا القانون وان لم نعمل به فعلمنا أن قاعدة ( لا جريمة بدون نص) قاعدة مقدسة في كل قوانين الدنيا … من المؤكد أن باب الجريمة فاتح (نحن في السودان نقول باب الجرح فاتح) فابن آدم اب كراعين دا لن يتوقف عن الإنتاج في كل شي بما في ذلك الجرائم ثم يأتي القانون لاحقا فيكيف الجريمة اي يحددها نصا ثم يضع لها العقوبة (أن شاء الله بعد خراب سوبا) لأنه إذا ترك للقضاء أن يحكم في أي قضية بدون نص فسوف يتحول القاضي إلى مشرع وساعتها سوف يختلط الحابل بالنابل..

الرمية أعلاه قصدنا التوسل بها لأمر يجري في حرب السودان الحالية وهو الأعداد المهولة التى رمي بها الدعم السريع في محرقة الحرب من مرتزقة ومن رعايا.ففي منطقتنا مثلا جاءت كتيبة من أبناء النوير تابعة للدعم السريع وبدأت في ممارسة الابتزاز فاشتبكت القوة الجنوبية بقوة من الرزيقات كانت سابقة لهم في احتلال المنطقة مات نفر قليل من الأخيرين ولكن ماهي إلا ساعات الا جاءت فزعة من جهة الخرطوم فابادت تلك الكتيبة الجنوبية لامن شاف ولا من درى… ولعل ذات الابادات حصلت عند أسوار المدرعات والان يحدث عند أبواب الفاشر… تحشيد الدعم السريع أثناء الحرب اخذ يقوم على التعاقد وذلك بالدفع المقدم أو المؤجل مع أي صاحب عدد من المقاتلين وبالتالي لم تعد للدعم اي مسؤلية تجاه الهلكي أن شاء الله يستخدموا في تفجير الألغام.. لاشك أن كثرة وجود الفاقد البشري في المنطقة عامة وكثرة الفلوس في يد الممولين ساعد في تفاقم هذة الظاهرة وبالتالي سوف يساعد في إطالة أمد هذة الحرب ولو أودت بهلاك الملايين لأن داعميها يدهم في الماء فلا الأرض أرضهم ولا الناس ناسهم

بحثنا وسالنا أهل الشأن أليس في القانون الدولي ما يحاسب على هذة الجريمة مكتملة الأركان؟ قيل لنا الجرائم في القانون الدولي مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لا تدخل فيها مثل هذة الجريمة اي لا يوجد نص يحددها وبالتالي ليس لها عقوبة محددة.. اها يا جماعة الخير هذة إشكالية تجعل من حرب السودان الحالية تفردا غير مسبوق فكيف الدبارة؟

عبد اللطيف البوني

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مدير الشؤون السياسية بحلب والمشرف على عمل مديريتي الصحة بحلب وإدلب يبحثان مع عدد من الصيادلة التحديات التي تواجه القطاع الدوائي
  • الحرب في السودان .. خسائر بمليارات الدولارات
  • البرهان في القاهرة… دلالة الزيارة ومآلاتها والرسائل التي تعكسها
  • جريمة مطلوقة
  • الطالبي العلمي: “الأحرار” الحزب واعٍ بالضغوط السياسية والهجمات التي تستهدفه ويقود الحكومة بثقة
  • احذروا القوي السياسية التي تعبث بالأمن
  • السودان: المُسيّرات التي استهدفت عطبرة حديثة وفّرتها للمليشيا راعيتها الإقليمية
  • بينما يعلن ترامب الحرب على تيك توك.. اليابان “تفتح الباب”
  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟
  • بينما يعلن ترامب الحرب على تيك توك.. اليابان "تفتح الباب"