أحد أقاليم جمهورية تشاد، يقع في الجزء الشرقي للبلاد وعاصمته مدينة أبيشي، يعيش فيه حوالي 997 ألف نسمة، وكان معقلا لمملكة وداي التي تأسست عام 1611م على يد عبد الكريم بن جامع، وتقول المصادر التاريخية إنه ينحدر من العباسيين الذي فروا من العراق إثر غزو المغول.

أنشأ عبد الكريم والسلاطين من بعده واحدة من أقوى الممالك الإسلامية في السودان الأوسط خلال العصر الوسيط، إذ اهتموا بنشر الإسلام بين القبائل الأفريقية وتشجيع بناء المساجد، حتى أصبحت المملكة مركزا رئيسيا للثقافة الإسلامية واللغة العربية، وانتشرت منها إلى بلدان وسط أفريقيا.

قاومت المملكة الاستعمار الفرنسي بشراسة في القرن العشرين، وخاض سلطانها دود مرة عدة معارك مدعوما بسلطان دارفور وقوات الحركة السنوسية وسلطان المساليت، إلا أن المجازر التي ارتكبها الفرنسيون ضد السكان المدنيين أجبرته على الاستسلام، فتم تنصيب ابن عمه سلطانا بدون صلاحيات تنفيذية، وبعد خروج الاستعمار الفرنسي من المنطقة أصبحت مملكة وداي واحدة من الممالك الإسلامية الثلاث التي شكّلت دولة تشاد الحديثة، إضافة إلى مملكتي كانم وباقرمي.

الموقع والتقسيم الإداري

يقع إقليم دار وداي في الجزء الشرقي لجمهورية تشاد، يحده من الشرق جمهورية السودان، ومن الشمال إقليم وادي فرا، ومن الغرب إقليم البطحاء، ومن الجنوب إقليم سيلا.

يمتد على مساحة تقدر بحوالي 30 ألف كيلومتر مربع، وهو أحد أقاليم جمهورية تشاد الـ23، عاصمته الإدارية مدينة أبيشي، وينقسم إلى 3 وحدات إدارية هي: وارا، وأسونغا، وعبدي، ويضم 16 مقاطعة و16 بلدية، إضافة إلى المئات من القرى.

كان قبل عام 2002 يُعرف باسم محافظة وداي، ثم تم اعتماد تقسيم إداري جديد واقتطاع منطقتين منها، هما سيلا والجرف الأحمر، وتشكيل إقليم جديد هو إقليم سيلا.

صورة جوية لوادي مورا بين أبيشي وفرشانا بالقرب من حجر حديد في دار وداي شرق تشاد (الفرنسية) المناخ

يتميّز الإقليم بمناخ صحراوي جاف وحار، ويشهد تساقط أمطار غزيرة، إذ يبلغ متوسط هطول الأمطار 803.8 مليمترات.

السكان

يبلغ عدد سكان الإقليم 997 ألف نسمة حسب إحصائيات رسمية عام 2018، منهم 482 ألف رجل و515 ألف امرأة.

يُوزع السكان على مجموعات عرقية رئيسية، هي: الودايين، والزغاوة، والمساليت، والهوسا، والفور، والعرب، والتاما.

التسميات

اشتهرت دار وداي بالعديد من الأسماء، منها: دار مبك (مبا)، ودار وداي، ودار برقو، ودار صليح. ويشار إليها أحيانا بالسلطنة وأحيانا مملكة أو إمبراطورية.

وطُرحت عدة روايات لتفسير مصدر هذا الاسم، تزعم بعضها أن المملكة كانت تدفع جزية سنوية لسلطان دارفور منذ تأسيسها على يد عبد الكريم جامع إلى عهد السلطان يعقوب عروس الذي حكم عام 1681م.

وتقول إحدى هذه الروايات إن اسم وداي مشتق من لفظ ودائع، أي المال الذي كان يرسله سلاطين المملكة لدارفور، في حين تزعم روايات أخرى أن جد المؤسس كان يدعى وودا أو صليح، لذلك أطلق على المملكة اسم دار وداي ودار صليح، وكان هذا الاسم تطلقه عليها الممالك المجاورة، أما السكان فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم مبا أو دار مبك.

بذور نبتة الدخن الشهيرة في ولاية دار وداي (غيتي) عاصمة الإقليم

كانت وارا عاصمة مملكة وداي مند تأسيسها حتى منتصف القرن التاسع عشر، وكانت لأكثر من قرنين مدينة مزدهرة اقتصاديا وثقافيا، ثم انتقلت العاصمة إلى مدينة أبيشي.

ومن الأسباب لتي تذكرها المصادر لتفسير تغيير العاصمة الانخفاض الحاد في منسوب المياه بمدينة وارا، إلى جانب الاضطرابات السياسية التي شهدتها، ما جعل السلطان محمد شريف يتخذ قرار نقل المقر الملكي إلى أبيشي عام 1848م.

وتقع المدينة في مفترق طرق التجارة الصحراوية، وكانت أيضا محطة مهمة في طريق الحج، إذ كان المسلمون من غرب أفريقيا يمرون عبرها في طريقهم لأداء مناسك الحج، وفي عام 1858م افتتح فيها نزل لاستقبال الحجاج، وكان يمر منها حسب المصادر حوالي 80 ألف حاج سنويا.

وظهرت المدينة في بؤرة الأحداث عام 2007 بعد محاولة أعضاء منظمة خيرية فرنسية اختطاف أكثر من مائة طفل تشادي، ونقلهم من مدينة أبيشي إلى فرنسا من أجل عرضهم للتبني على أسر فرنسية.

وأوقف المسؤولون التشاديون عملية تهريب الأطفال عندما كانوا متوجهين إلى طائرة تنتظرهم في مطار أبيشي، وبينما قال أعضاء المنظمة إن الأطفال أيتام وينحدرون من إقليم دارفور السوداني، وكانوا يريدون نقلهم إلى فرنسا بعيدا عن الحرب، أعلنت تشاد أن هؤلاء الأطفال تشاديون، وأن العديد منهم اختطفوا من آبائهم وليسوا أيتاما.

من أبشع الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي بالمنطقة مذبحة الكبكب عام 1917 (غيتي) التاريخ

ظل تاريخ المنطقة مجهولا قبل وصول الإسلام إليها، وتذكر المصادر التاريخية أن أول من حكم البلاد هم الأحباش عام 733م، والهلاليون في القرن التاسع والعاشر الميلادي، فالعمالقة الكنعانيون في القرن العاشر والحادي عشر، ثم الزغاوة والسنارة الذين أسسوا أول سلطنة إسلامية واسعة النفوذ في المنطقة حسب المقريزي، وبعدهم بنو هلبة ثم التنجر.

واختلفت المصادر حول أصل التنجر، فمنهم من يقول إنهم من البربر، ومنهم من نسبهم إلى النوبة، ومنهم من نسبهم إلى التبو، الذين كانوا يعيشون في هضبة تبستي شمال تشاد، ومنهم من قال إن نسبهم يرجع إلى العرب الهلاليين الذين قدموا من تونس واستقروا في دارفور ووداي، وفي هذه الأخيرة أسسوا مملكة وعاصمتها كدمة.

حكم التنجر قرابة قرنين من الزمان (القرنين السادس عشر والسابع عشر)، إلى حين تأسيس مملكة وداي الإسلامية عام 1611م على يد عبد الكريم جامع الملقب بمجدد الإسلام.

نقل محمد بن عمر التونسي -مؤرخ ورحالة انطلق في رحلة من مصر إلى السودان فدارفور ثم وداي، حيث قضى فيها 18 شهرا قبل أن يعود إلى تونس عام 1813م- عن فقهاء المنطقة قولهم إن نسب سلاطين هذه المملكة يرجع إلى العباسيين الذين غادروا العراق فرارا من المغول ولجؤوا إلى مصر.

وانتقل بعضهم من مصر إلى الحجاز ثم سافروا إلى شندي، ومن ثم إلى دارفور ثم استمروا في السير غربا حتى استقروا في جبال كدي، ومن بينهم شخص اسمه جامع عُرف بصلاحه وتدينه ومعرفته الكبيرة بالدين الإسلامي، فصاهر ملك الكدي وتزوج ابنته التي أنجبت له عبد الكريم جامع مؤسس سلطنة وداي.

ويتفق عدد من المصادر مع رواية التونسي حول أصل الوداي، إذ تؤكد انتسابهم إلى العباسيين، وتشير إلى أنهم على الرغم من اختلاطهم وانصهارهم مع القبائل الزنجية لم يؤثر ذلك على ألسنتهم، إذ ظلوا ينطقون العربية بسهولة ويسر ومن غير تحريف ولا عجمية، لكن ذلك أثر على لون بشرتهم مما جعلهم متعددي الألوان، فمنهم السمر والقمحيون.

وإذا كان عدد من الدراسات والروايات اتفقت على أن حكام دار وداي ينتسبون إلى العباسيين، فقد ذهبت إلى أن السكان الأصليين ينتسبون إلى القبائل الأفريقية وبعض القبائل العربية من غير العباسيين.

بعد أن سيطر عبد الكريم بن جامع على مملكة وداي وكان متفقها في الدين، شرع في توطيد دعائم ملكه حتى صارت من أقوى الممالك الإسلامية التي قامت بالسودان الأوسط في العصر الوسيط، إذ عمل على نشر الدعوة الإسلامية ومحاربة الظلم والفساد، وتشجيع بناء المساجد في القرى المجاورة، وإرسال الدعاة من أصحابه إليها.

وامتدت حدود المملكة في ذلك الوقت إلى أم شعلوبة شمالا وغربا حتى بحر الغزال ومشارف بحيرة تشاد، وإلى الجنوب امتدت لمنطقة سلامات وشرقا حتى حدود مملكة دارفور.

وذكر التونسي في كتابه "رحلة إلى وداي" أن مساحتها تساوي مسيرة ثلاثين يوما طولا و24 يوما عرضا، تحدها من الشرق مملكة دارفور، ومن الغرب مملكة باقرمي، ومن الجنوب أراضي عباد الأصنام.

تحولت المملكة إلى مركز رئيسي لنشر الإسلام واللغة العربية في وسط أفريقيا لعدة عوامل، من بينها موقعها المتاخم للسودان وليبيا ومصر، واستخدامها اللغة العربية في دواوينها الرسمية، والشريعة الإسلامية في محاكمها المحلية، كما كان لها اتصال بالباب العالي في إسطنبول عن طريق القاهرة، إذ كانت للعثمانيين سفارة في العاصمة أبيشي، وظلت المملكة مركزا حضاريا مهما في أفريقيا إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين.

الاستعمار الفرنسي

قاومت مملكة وداي الاستعمار الفرنسي بشراسة، إذ أعلن سلطانها "دود مرة" الجهاد ضد الفرنسيين، وتحالف مع قوات الحركة السنوسية في ليبيا وسلطان دارفور وسلطان المساليت، وخاضوا معا معارك ضارية ضد المستعمر انتهت باضطرار سلطان وداي للاستسلام بعد المجازر التي ارتكبت ضد المدنيين.

استولى الفرنسيون على العاصمة أبيشي عام 1909، وتم دمج وداي في الأراضي العسكرية لتشاد عام 1912، وعينت السلطات الاستعمارية ابن عم السلطان دود مرة واسمه محمد أصيل سلطانا على وداي، لكنها نزعت منهم السلطات التنفيذية بموجب معاهدة وقعها مع الحاكم الفرنسي.

وعمل الاستعمار الفرنسي على محاربة اللغة العربية والثقافة الإسلامية وفرض ثقافته ولغته، وهو ما واجهه السكان والعلماء بالرفض والتحدي، إذ رفضوا التعليم الفرنسي وتمسكوا بموروثهم الثقافي، وبسبب ذلك تعرض عدد من العلماء للنفي والقتل.

ومن أبشع الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في المملكة مذبحة الكبكب التي وقعت عام 1917، وراح ضحيتها المئات من العلماء والمحدثين والمفسرين وعلماء اللغة.

وكلمة كبكب هي ترجمة من اللغة الفرنسية لكلمة (coupe) وتعني قطع، وكانت السلطات الاستعمارية قد أمرت بقطع رؤوس العلماء والمسؤولين المحليين بالساطور، واستمرت هذه المجزرة ثلاثة أيام، وشملت العاصمة أبيشي ونواحيها.

وأدت هذه المجزرة إلى هجرة العديد من العلماء الذين نجوا من القتل إلى الدول المجاورة، ونتيجة لذلك ضعف التعليم الإسلامي واللغة العربية في المنطقة، وأدخل الاستعمار اللغة الفرنسية في التعليم وجعلها إجبارية في جميع المؤسسات التعليمية.

بعد انسحاب القوات الفرنسية، أصبحت المملكة جزءا من دولة تشاد الحديثة التي تشكلت من ثلاث ممالك إسلامية رئيسية، وهي إلى جانب وداي مملكة كانم التي تأسست في القرن الثامن الميلادي في الشمال، ومملكة باقرمي في حوض بحيرة تشاد، وتأسست في القرن الحادي عشر.

وما زال أحفاد العباسيين يتوارثون السلطنة في إقليم وداي رغم أنها سلطنة رمزية، ففي عام 2020 صدر مرسوم رئاسي عين فيه شريف عبد الهادي مهدي سلطانا لسلطنة دار وداي العباسية وتم تنصيبه في حفل جماهيري.

نبات الدخن يعد من أجود أنواع الغلة في تشاد (شترستوك) الاقتصاد

يعتمد اقتصاد الإقليم على الزراعة وتربية الماشية والتجارة، إذ يتوفر على أراض خصبة شاسعة تُزرع فيها أنواع عديدة من المحاصيل الزراعية، من أهمها الدخن الذي يزرعه معظم سكان الإقليم، ويعد دخن وداي من أجود أنواع الغلة في تشاد.

وتشتهر المنطقة أيضا بالفول السوداني والسمسم والبصل، ويعد إقليم وداي المصدر الرئيسي لهذا المحصول في تشاد، يضاف إلى ذلك منتجات أخرى كالخضراوات والمانغو والجوافة والبطيخ والنبك، وغيرها من المحاصيل، كما تزخر الولاية بثروة حيوانية كبيرة، بأنواعها المختلفة.

وتعد مدينة أبيشي أكبر المراكز التجارية بالبلاد، وقبلة للكثير من السلع الأساسية والتحسينية والكمالية لسكان الإقليم خصوصا وسكان الشمال الشرقي للبلاد عموما.

وتنتج مدينة أبيشي العديد من المنتجات اليدوية بجودة عالية، ومن أهمها الأحذية النسائية والرجالية والحقائب وزينة الخيول، وكل هذه المنتجات مصنوعة من الجلد الخالص ومن النوعية الجيدة.

وتعتبر منطقة وداي بوابة لدخول عدد من السلع المستوردة مثل الأثاث بأنواعه والمشروبات الغازية والسكر والشاي والوقود ومواد البناء والأرز، وغيرها من المواد الغذائية والأغطية والملابس، مما يدر على الدولة عائدات مالية مهمة من الجمارك.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الاستعمار الفرنسی اللغة العربیة عبد الکریم فی القرن دار ودای فی تشاد عدد من

إقرأ أيضاً:

لماذا نتقبل حداثة الغرب ونرفض التجديد في ثقافتنا؟

لا يزال الحديث يجري في الأوساط الفكرية والثقافية في الوطن العربي بين الفينة والأخرى وهذا يجري بين ممن جرفهم التغريب، وغيرهم الذين يريدون تجديد الأمة من داخلها، والسؤال المطروح: هل نأخذ الحداثة المعاصرة الغربية كما وُضعت في بيئتها الفكرية الغربية؟ أم نأخذ مصطلح التجديد العربي/ الإسلامي، المعبر عن ثقافتنا، ويعطي ما نريده من إزالة العوائق التي تقف أمام نهضتنا وتقدمنا؟ فعندما ظهرت الحداثة الغربية، كانت تحمل رؤية فلسفية، وفكرية للعالم والكون والحياة، وصياغة المدركات الإنسانية على أسس جديدة مختلفة عن التصورات التي كانت قبل ظهور مفهوم الحداثة ورؤيتها، لكن البعض يرى أن هذه الحداثة وتصوراتها ليست جديدة، بل هي حالة جنينية في التراث الغربي. فالمشروع الحداثي، لم يأت فجأة، ولم يتشكل دفعة واحدة، وسبق هذه الولادة حركات الإصلاح الديني في الغرب، ثم جاء عصر الأنوار الذي حسم القطيعة مع الفكر الكنسي القديم، وظهر مفهوم الحداثة، لكن جاء هذا المشروع ليناقض الكنيسة وتصوراتها فقط، وليس كل ثقافة الحضارة المسيحية واليونانية، كانت الكنيسة تتدخل في قضايا العلم والاختراع، ولهذا تم إقصاء هذه التصورات التي لا دخل لها بالديانة المسيحية التي هي ديانة روحية، ومع ذلك كانت رؤية الكثير من الفلاسفة غير متطرفة تجاه الكنيسة، بعكس العديد غيرِهم، الذين كانوا قساة حتى على الدين نفسه، والدين بريء من الكثير مما فعلته الكنيسة تجاه العلم والاختراع، ولا شك أن للاكتشافات العلمية، وحدوث التغّيرات الفكرية الكبرى في الغرب، أثرها الكبير في تحقق التحولات الفكرية والعلمية في الغرب، وكانت هذه الاكتشافات العلمية، هي التي جرفت بعض الفلاسفة والمفكرين إلى مقولات مادية صرفة، وكلها كراهية في الكنيسة وما فعلته من محاربة للعلم والتقدم، دون مبرر في تحميل الأديان ممارسات لا تعبر عنها حقيقة كما أشرنا آنفاً.

لكن عندما جاء الإسلام ونزلت رسالته العالمية، تم تسمية العصر الذي قبله بالعصر (الجاهلي)، تمييزا عن عصر الإسلام الذي هدم الأغلال الشركية عن أمة العرب والمسلمين الذين آمنوا برسالة دعوة هذا الدين، فالإسلام ليس عدوا للحداثة بإطلاق، أو النهضة في شتى المجالات، ففي العصر الإسلامي الأول، كان هناك انفتاح على الحضارات والفلسفات الأخرى، التي تتقاطع فكريا مع الإسلام في جوانب كثيرة، كالحضارة الرومانية واليونانية والفارسية ـ قبل اندماجها في الإسلام ـ أخذا وعطاء، ففي العصر الأول، فترة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تم أخذ بعض التطبيقات الفارسية في الإدارة، ثم في عصور إسلامية تالية تم الالتقاء مع حضارات عديدة، أخذا وعطاء، ثم بعد ذلك استفاد الغرب من الحضارة الإسلامية في وقت ازدهارها، بعد فترة الحروب الصليبية، وفي فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وهذا باعتراف الغربيين أنفسهم، وكل الحضارات الإنسانية تتبادل الأفكار، وتستفيد من العطاء الإنساني، وكل حضارة تضيف إلى الأخرى رصيدا جديدا في مجال التطورات العلمية والفكرية، منذ فجر التاريخ حتى الآن، لكن أن يكون الأخذ بما يلائم فكرها وثقافتها، ولا يتصادم معه، خاصة في التصورات الاعتقادية.

لكن الإشكالية في الحداثة الغربية، أنها جعلت من نفسها النموذج الوحيد الأوحد الذي يجب أن يسود العالم، وهذا الأمر يغاير مقولاتها في الحرية والديمقراطية، ومن هذه المنطلقات، أنها لا تعترف بالتعددية الفكرية والتنوع في الثقافات الإنسانية، لأنها تريد أن تكون الرؤية الفلسفية الغربية هي التي تسود العالم، وهذه إحدى الإشكالات مع الحداثة الغربية، فهي، أي الحداثة، لها وجهان ـ كما يرى البعض ـ الوجه الإيجابي هي دعوتها إلى تفجير طاقات الإنسان، ورفع القيود عنه، بالحرية و العقلانية والاهتمام بالعلم، والتطور إلى آخر المقولات، لكن لها وجه آخر سلبي، وهو ما يناقض هذه المقولات من خلال الهيمنة والتسلط، والاستعمار، والنظرة الدونية إلى الثقافات الأخرى. وإذا كان هدف الحداثة، استقلال الإنسان وتحرره وإطلاق عقله في الحياة الإنسانية، فالمشكلة الأساسية التي يقع فيها بعض المفكرين والمثقفين العرب، الذين انبهروا بالغرب في رؤيته للنهوض والتقدم المعاصر لواقعنا المتأخر في النهوض، أن انبهارهم بما جرى في الغرب من نهضة علمية وفكرية، جعلهم مجرد تابعين، لكل ما سار عليه مع اختلاف الظروف الفكرية والثقافية بيننا وبينهم، فكل أمة لها رؤيتها الفكرية وثقافتها الذاتية، فهؤلاء المنبهرون بالغرب لا يريدون الانطلاق من داخل ذاتهم وفكرهم، بل يرون أن الوصول للحداثة والنهضة، هو الاندماج في الغرب والانسلاخ من كل ما نملكه في رصيدنا الفكري والحضاري، ولا شيء غير ذلك إذا ما أردنا أن نسير سيرتهم ونملك الحداثة، كما جرت في الغرب، مع مقاطعة ميراثنا وتراثنا تماما، لكي يكون مثل الغرب وهذه للأسف عقلية جامدة وسقوط في فكر الآخر، مع أنهم يتهمون المخالفين لهم بالجمود في الماضي، على ما أنتجه الغربيون، وساروا عليه، ليس بالإبداع، بل بالتقليد والالتحاق به والانسحاق بما يسير عليه، ويعتقد هؤلاء أن الغرب فعل هذا بتراثه عندما تخلى عن هذا التراث تقدم ونهض وتحقق له ما أراد من تقدم وحضارة ومن ثم ظهرت الحداثة، وهذا ليس صحيحا تماما، فالغرب نفسه تدرج في سيرته الإصلاحية، بدءًا من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا الغربية، قبل أن تنطلق ما تسمى بحركة الأنوار في القرن الثامن عشر، وما بعدها، وينقل د/ محمد عابد الجابري في كتابه (في نقد الحاجة إلى الإصلاح)، عن أحد المثقفين الغربيين في القرن الثاني عشر فيقول هذا المثقف الغربي: «لا يمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد، فلتنبح الكلاب، ولتغمغم الخنازير، فإن ولائي للقدماء سيبقى قائما، وسأظل منصرفا إليهم بكل اهتماماتي، وسيجدني الفكر منهمكا في قراءة مؤلفاتهم».

والحداثة عندما ظهرت مع عصر ما سمي بالأنوار، فيها الشيء الكثير من الإيجابيات المتعلقة بأفكار النهضة والتقدم، وفيها ما يقابلها من السلبيات المتعلقة بالفلسفة المادية والنظرة إلى العقل باعتباره هو المرجعية الوحيدة في المعرفة الإنسانية، لذلك الإسلام كما أرى، لا يتقبل النماذج الجاهزة، والتسليم أو الانسحاق أو الانصهار لكل الأفكار والأيديولوجيات دون النظرة الواقعية لما هو جدير بالأخذ، ورفض ونقد لما هو مخالف وسلبي، كما يراه الإسلام في مضامين توجهاته ونظرته العامة، والحداثة نفسها أيضا، لم تسلم من النقد العنيف منذ ظهورها في القرن الثامن عشر من المفكرين والفلاسفة الغربيين أنفسهم، وازداد النقد بصورة كبيرة في القرن التاسع عشر، بعد ظهور كما نعرف، مفهوم (ما بعد الحداثة)، الذي يخالف مفهوم وفلسفة الحداثة في الكثير من توجهاتها ومقولاتها، فإذا كان الغرب نفسه، راجع مفهوم الحداثة، وناقض رؤيتها الفلسفية والفكرية، بل وطالب بتجاوزها من خلال فلسفة (ما بعد الحداثة)، فإذا كان الغرب نفسه ينقد الحداثة بهذه الصرامة والحدة إلى حد التقاطع، أليس من حق الثقافات والحضارات والأديان الأخرى، المغايرةُ والتناقضُ، مع هذه الفلسفات والأفكار التي تخلفها فكريا في بعض فلسفاتها؟

إذن الحداثة واجهت السهام والنقد العنيف أيضا من داخلها، ولم تكن رؤيتها محصنة من الأخطاء والالتباسات، ومن وجهة نظر الغربيين أنفسهم. فريدرك نيتشه، كان من الداعين إلى نقد العقل الغربي، وتعرية أنساقه وتحطيمها، الفيلسوف الألماني (يوغرن هابر ماس)، اعترف بأزمة الحداثة، في الغرب، وقال إن الحداثة في أزمة، وأنها (مشروع لم يكتمل)، كما أن العديد من المفكرين الغربيين البارزين في القرن العشرين، دعوا إلى هدم الحداثة وتفكيك مقولاتها وهدمها، ومن هؤلاء ميشال فوكو( 1926..1984)، وجاك دريدا ( 1930..2004)، ومارتن هيدجر، كل هؤلاء دعوا إلى تفكيك الحداثة وتقويض الصرح الفلسفي الغربي، وإزالة ذلك التعالي الكاذب.الذي وصف نفسه به، وهناك الكثير من النقد من المفكرين الغربيين الذين نقدوا العقلية الغربية الحداثية، والتي قدست الإنسان، وأعطته مركز الاهتمام، ولذلك فإن حركة بعض الحركات الفكرية في الغرب أرست (مبدأ نسبية المعرفة) وعدم قبول التعميمات التي وضعتها الحداثة للمعرفة الإنسانية.

كما أن الحداثة من الناحية المنطقية والواقعية، لا تستنسخ ولا تستجلب من خارج نطاقها، والحداثة كفكر وفلسفة، تبدع إبداعا من داخلها، وهذا ما يبرز في تطبيقات الحداثة في دول عديدة عربية وغيرها، ذلك أن التربة غير صالحة للغرس دون انتقاء أو فرز، ويرى العالم الألماني المسلم مراد هوفمان في بحثه (مستقبل الإسلام في الغرب والشرق)، أن منطلقات عصر الأنوار أصابها الكثير من التصدعات السياسية والفكرية، وظهور: «الفاشية، والستالينية، والنازية، والماوية (..)، وإن المحنة الأخلاقية والفكرية في زماننا، ومشكلة ما سمي بالعدمية والقيم النسبية، قد نجمت عن حقيقة أن خطاب العقل الذي حفظ الفكر الأوروبي منذ عصور التنوير، قد انهار.. وعلى الخلفية، يعد اتهام المسلمين بأنهم فوتوا فرصة التنوير التي لاحت لهم، ضربا من الفحش والقذارة».

والذي نخلص له أن الحداثة رؤية غربية خالصة، انبثقت من ظروف صراعها مع الكنيسة، وجاءت ردود الفعل كبيرة مع التراث الكنسي في أوروبا، وصلت لحد القطيعة والعدم في فلسفات عديدة، وجعلت الإنسان محور الكون، وقدست العقل، وغيبت القيم، وأعلت من شأن المادة، على الرغم من الفتوحات الكبيرة في مجال العلوم والتكنولوجيا، وغيرها من أوجه التقدم العلمي والتقني. وهذا ما جعل الحداثة تتناقض مع الكثير من مقولاتها، بعدما خرجت عن هدفها الأساسي ومناهجها في بدايات انطلاقتها الفكرية.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية ومؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»

مقالات مشابهة

  • لماذا نتقبل حداثة الغرب ونرفض التجديد في ثقافتنا؟
  • السلطات الفرنسية تحقق في اتهامات بإساءة استخدام المال العام ضد رئيس تشاد
  • طيران بدر ضمن قائمة أبرز خطوط الطيران الأفريقية
  • الحج .. يُسر و طمأنينة وجهود موفقة
  • مصطفى بكري: الفساد انتشر بشكل غير معقول.. ويجب أن يكون لدينا مجموعات إدارة أزمة
  • ثروت الخرباوي: التطرف ليس من الإسلام في شيء
  • ثروت الخرباوي: منتخب العالم للإرهاب يرتدي العالم ثياب الإسلام ويتسلل لإفريقيا
  • جيش تشاد يعلن تصفية 70 إرهابيا ينتمون لجماعة "بوكو حرام"
  • حب الدنيا وكراهية الموت.. استمرار العون من الله
  • قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى