زنقة 20:
2024-11-26@11:07:38 GMT

حكايتان من التاريخ للتأمل

تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT

بقلم : أحمد عصيد

ما أكثر دروس التاريخ وأبلغها، لكن قلما يعود الناس إليها لتصحيح المسار وتجنب المطبات والعثرات الكبرى، نسوق هنا حكايتين واحدة من مصر خلال القرن الرابع الميلادي، والثانية من أوروبا في عصر النهضة، وقد اخترتُ الحكايتين لما لهما من دلالة في السياق الراهن الذي تجتازه المجتمعات الإسلامية، وخاصة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، في مصر تحديدا، خلال القرن الرابع الميلادي، كانت مكتبة الإسكندرية نموذجا للمنار الحضاري والمعرفي القديم، الذي يزوره العلماء والفلاسفة والأدباء من كل درب وصوب، وكانت “هيباتيا” فيلسوفة وعالمة رياضيات وفلك مرموقة، استطاعت بذكائها الخارق رسم مواقع الأجرام السماوية، وصنع معدات للبحث المختبري، لكن شهرتها وإقبال الطلبة على دروسها تصادما مع انتشار المسيحية وزحف المتشدّدين على كل الفضاءات مما جعل مكتبة الإسكندرية عرضة لهجوم رجال الدين، الذين رأوا فيها عائقا أمام انتشار الأفكار والتصورات المسيحية، وأدّى بالتالي إلى تحريضهم للعامة من الغوغاء ضدّ العلماء والفلاسفة متهمين إياهم بالإلحاد وبممارسة السحر (المعادلات الرياضية والكيميائة) مما أدى إلى قتل “هيباتيا” رميا بالحجارة من طرف الجمهور المهيّج سنة 415 ميلادية، وإشعال الحرائق في مكتبة الإسكندرية، وتحويلها إلى مكان لربط البهائم والدواجن، و لم ينجُ من تراثها إلا ما قام المدرسون والعلماء بتهريبه في وقت مبكر، كما لم تستعد جزءا من بهاءها إلا بعد عقود طويلة، لتجد نفسها مرة أخرى بعد ثلاثة قرون أمام غزوات دين جديد جعل منه  حاملوه ـ مرة أخرى ـ مشروعا للسيطرة والاغتناء.

بعد قرون اعتبر المؤلفون الموسوعيون “هيباتيا” رمزا للفضيلة والتضحية الشجاعة من أجل الحقيقة، واعتبرها المجتمع العلمي العالمي مؤسسة لاكتشاف كبير في تاريخ العلوم.

وعلى الضفة الشمالية للمتوسط، وتحديدا في بدايات عصر النهضة الأوروبية، شهدت الكثير من المدن حركة فكرية وفنية وعلمية زاخرة، وانتعشت الأفكار واحتدمت النقاشات، وعاش الناس مرحلة يطبعها الفضول المعرفي والتساؤلات الكبرى، التي تدلّ على أن أوربا كانت تعيش نهاية حقبة تاريخية، وتتهيأ للدخول في حقبة جديدة، حتى أن أحد مثقفي تلك الفترة كتب قائلا:” الأفكار تتقابل وجها لوجه، إنها لمتعة أن نحيا !“، في لجّ هذا العصر، وفي مدينة “فلورنسا” التي تعدّ عاصمة النهضة ومنطلقها الأول، ظهر أمير لُقب بـ”الرائع”، لوران الرائع Lorenzo Magnifico ، توفي سنة 1492، بعد أن وضع أسس النهضة الفكرية والأدبية والفنية بما قام به من مبادرات لتشجيع الفلسفة والفنون الجميلة والآداب والعلوم الدقيقة.

 في فترة حكم هذا الأمير تحولت “فلورانس” إلى متحف كبير، وصارت ساحاتها مسرحا شعبيا لاستعراض الإبداعات الفنية في الموسيقى والرسم والنحت ولإقامة حفلات الرقص الجماعي، وقد استقدم الأمير كبار الفنانين ورجال الأدب والفلسفة من مختلف أرجاء أوروبا، وعقد لقاءات للفكر الفلسفي لتدارس الأسئلة العويصة، فصار بذلك نموذجا لصورة أمير النهضة.

في هذه المرحلة المشرقة من تاريخ المدينة، ظهر رجل دين يُدعى سافونارولاGirolamo Savonarola ، كان قبيح الخلقة كما تعكس ذلك إحدى اللوحات التي رُسمت له في تلك المرحلة، شرع هذا الراهب المتشدّد في الصراخ في الشوارع مناديا بأن كل ما يقوم به السكان “حرام”، وأنهم جميعا سيدخلون النار وسيحترقون فيها بسبب إقبالهم على الدنيا وعلى الفنون والفلسفة والعلوم المادية، وأن المكان الوحيد الذي عليهم التواجد به لإنقاذ أرواحهم هو الكنيسة من أجل التوبة والصلاة، وأن الشخص الوحيد الذي ينبغي الاستماع إليه هو رجل الدين وليس غيره، ثم اتجه بذكائه السياسي إلى الأحياء الفقيرة، وبعد سنوات قليلة اجتمع عليه خلق كثير، فبدأت الفتنة تدبّ في المجتمع الفلورنسي الذي كان غاية في التسامح والمحبة، وصادفت هذه الأحداث مرض ووفاة “الأمير الرائع” في سن مبكرة (43 سنة)، مما جعل رجل الدين ينقض على الحكم، ويسيطر هو أتباعه على المدينة، ويأمر بمحو كل آثار بدايات النهضة الحضارية، بإحراق الكتب والآلات الموسيقية واللوحات الفنية، والانتقام من زبدة النخبة الفكرية الذين تمّ إحراق بعضهم في الساحة العمومية التي كانت من قبل فضاء للفرح والاحتفال والإبداع الجميل.

انهارت المدينة الجميلة بعد أربع سنوات من الإرهاب الكنسي وسقطت في يد الفرنسيين، إذ  قام رجل الدين ببيعها لهم مقابل تركه حاكما عليها، مما جعل الفلورنسيين يستيقظون من المخدّر ويقبضون على الرجل ويعدمونه كما أعدم هو من عارضه من قبل، وانتهت قصته بخراب المدينة التي لم تستعد بهاءها إلا بعد مدة غير يسيرة، بإحياء ذكرى “الأمير الرائع” وبعث إرثه الجميل.

تعكس القصتان الصراع بين العقل والهمجية، التي تنجم عن تحويل الدين من إطاره الشخصي إلى مشروع للسيطرة، ولعلهما درسان يحتاج إليهما من مازال حتى اليوم في بلدان منطقتنا، يعتقد أن الدين مشروع سياسي للهيمنة والإخضاع والتخدير، فمهما سيطرت الخرافة على عقول الناس لهذا السبب أو ذاك، فإن العقل في النهاية هو الذي ينتصر بمجرد زوال المخدر.

المصدر: زنقة 20

إقرأ أيضاً:

«قطعها ورماها للكلاب».. تأجيل محاكمة المتهم بقتل «سيدة النهضة»

قررت الدائرة التاسعة بمحكمة جنايات شمال القاهرة المنعقدة بالعباسية، تأجيل أولى جلسات محاكمة المتهم بقتل جارته و تقطيع جسدها إلى أشلاء، في الواقعة المعروفة إعلاميًا «سيدة النهضة» إلى جلسة 27 يناير المقبل للطلبات الدفاع.

واستمعت محكمة الجنايات إلى طلبات دفاع المتهم، والذي طلب عرض موكله على الطب الشرعي لبيان عما إذا كان موكله يعاني من أي مرض في المخ كونه أجرى عملية جراحة أثرت على قواه العقلية، ومناقشة جيران المجني عليها والمتهم وسماع أقوالهم بشأن الواقعة، واستدعاء الطبيب الشرعي الذي أعد تقرير الطبي الخاصة بالمجني عليها لمناقشته.

وفي وقت سابق، كانت نيابة حوادث شرق القاهرة الكلية، أحالت القضية رقم 6414 لسنة 2024 جنايات السلام ثانٍ، والمتهم مسن بقتل جارته وتقطيع جسدها وإلقاء أشلاء منها في مقلب قمامة مع الاحتفاظ بباقي الجسد في ثلاجته بمنطقة النهضة بمحافظة القاهرة إلى محكمة الجنايات العاجلة بتهمة القتل.

أمام جهات التحقيق، أدلى المتهم باعترافات تفصيلية عن الجريمة، حيث أكد أن قتل جارته طعنًا، ثم قطع جثمانها إلى أشلاء ألقى البعض من الجثمان في صندوق قمامة، واحتفظ بباقي الجثمان في ثلاجة داخل الشقة لحين التخلص منه في وقت لاحق في محاولة منه لعدم كشف جريمته.

اقرأ أيضاًاعترافات جديدة تكشف صفقات التزوير بين "الإخوان" والدواعش

النيابة الإدارية تعقد ندوة حول «دور أجهزة الدولة في مناهضة العنف ضد المرأة»

مقالات مشابهة

  • إشارة غامضة قبل أقوى انفجار بركاني في التاريخ.. ما الذي كشفه العلماء؟
  • النهضة الكروية في المغرب.. نافذة على التقدم الشامل للبلاد
  • بينهم رئيس حكومة.. رفض الإفراج عن متهمين بملف تسفير إرهابيين في تونس
  • المطر: نعمة من الله ودعوة للتأمل والدعاء
  • مواجهتان ترفعان حمى المنافسة بدوري عمانتل.. اليوم
  • «قطعها ورماها للكلاب».. تأجيل محاكمة المتهم بقتل «سيدة النهضة»
  • اليمن.. الواقعُ وسؤالُ النهضة
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • صحم يعزز حظوظه في التأهل للمربع الذهبي لدوري اليد
  • حكم الشرع في الدين الذي تم التنازل عنه بسبب الوفاة.. دار الإفتاء ترد