بقلم : أحمد عصيد
ما أكثر دروس التاريخ وأبلغها، لكن قلما يعود الناس إليها لتصحيح المسار وتجنب المطبات والعثرات الكبرى، نسوق هنا حكايتين واحدة من مصر خلال القرن الرابع الميلادي، والثانية من أوروبا في عصر النهضة، وقد اخترتُ الحكايتين لما لهما من دلالة في السياق الراهن الذي تجتازه المجتمعات الإسلامية، وخاصة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، في مصر تحديدا، خلال القرن الرابع الميلادي، كانت مكتبة الإسكندرية نموذجا للمنار الحضاري والمعرفي القديم، الذي يزوره العلماء والفلاسفة والأدباء من كل درب وصوب، وكانت “هيباتيا” فيلسوفة وعالمة رياضيات وفلك مرموقة، استطاعت بذكائها الخارق رسم مواقع الأجرام السماوية، وصنع معدات للبحث المختبري، لكن شهرتها وإقبال الطلبة على دروسها تصادما مع انتشار المسيحية وزحف المتشدّدين على كل الفضاءات مما جعل مكتبة الإسكندرية عرضة لهجوم رجال الدين، الذين رأوا فيها عائقا أمام انتشار الأفكار والتصورات المسيحية، وأدّى بالتالي إلى تحريضهم للعامة من الغوغاء ضدّ العلماء والفلاسفة متهمين إياهم بالإلحاد وبممارسة السحر (المعادلات الرياضية والكيميائة) مما أدى إلى قتل “هيباتيا” رميا بالحجارة من طرف الجمهور المهيّج سنة 415 ميلادية، وإشعال الحرائق في مكتبة الإسكندرية، وتحويلها إلى مكان لربط البهائم والدواجن، و لم ينجُ من تراثها إلا ما قام المدرسون والعلماء بتهريبه في وقت مبكر، كما لم تستعد جزءا من بهاءها إلا بعد عقود طويلة، لتجد نفسها مرة أخرى بعد ثلاثة قرون أمام غزوات دين جديد جعل منه حاملوه ـ مرة أخرى ـ مشروعا للسيطرة والاغتناء.
بعد قرون اعتبر المؤلفون الموسوعيون “هيباتيا” رمزا للفضيلة والتضحية الشجاعة من أجل الحقيقة، واعتبرها المجتمع العلمي العالمي مؤسسة لاكتشاف كبير في تاريخ العلوم.
وعلى الضفة الشمالية للمتوسط، وتحديدا في بدايات عصر النهضة الأوروبية، شهدت الكثير من المدن حركة فكرية وفنية وعلمية زاخرة، وانتعشت الأفكار واحتدمت النقاشات، وعاش الناس مرحلة يطبعها الفضول المعرفي والتساؤلات الكبرى، التي تدلّ على أن أوربا كانت تعيش نهاية حقبة تاريخية، وتتهيأ للدخول في حقبة جديدة، حتى أن أحد مثقفي تلك الفترة كتب قائلا:” الأفكار تتقابل وجها لوجه، إنها لمتعة أن نحيا !“، في لجّ هذا العصر، وفي مدينة “فلورنسا” التي تعدّ عاصمة النهضة ومنطلقها الأول، ظهر أمير لُقب بـ”الرائع”، لوران الرائع Lorenzo Magnifico ، توفي سنة 1492، بعد أن وضع أسس النهضة الفكرية والأدبية والفنية بما قام به من مبادرات لتشجيع الفلسفة والفنون الجميلة والآداب والعلوم الدقيقة.
في فترة حكم هذا الأمير تحولت “فلورانس” إلى متحف كبير، وصارت ساحاتها مسرحا شعبيا لاستعراض الإبداعات الفنية في الموسيقى والرسم والنحت ولإقامة حفلات الرقص الجماعي، وقد استقدم الأمير كبار الفنانين ورجال الأدب والفلسفة من مختلف أرجاء أوروبا، وعقد لقاءات للفكر الفلسفي لتدارس الأسئلة العويصة، فصار بذلك نموذجا لصورة أمير النهضة.
في هذه المرحلة المشرقة من تاريخ المدينة، ظهر رجل دين يُدعى سافونارولاGirolamo Savonarola ، كان قبيح الخلقة كما تعكس ذلك إحدى اللوحات التي رُسمت له في تلك المرحلة، شرع هذا الراهب المتشدّد في الصراخ في الشوارع مناديا بأن كل ما يقوم به السكان “حرام”، وأنهم جميعا سيدخلون النار وسيحترقون فيها بسبب إقبالهم على الدنيا وعلى الفنون والفلسفة والعلوم المادية، وأن المكان الوحيد الذي عليهم التواجد به لإنقاذ أرواحهم هو الكنيسة من أجل التوبة والصلاة، وأن الشخص الوحيد الذي ينبغي الاستماع إليه هو رجل الدين وليس غيره، ثم اتجه بذكائه السياسي إلى الأحياء الفقيرة، وبعد سنوات قليلة اجتمع عليه خلق كثير، فبدأت الفتنة تدبّ في المجتمع الفلورنسي الذي كان غاية في التسامح والمحبة، وصادفت هذه الأحداث مرض ووفاة “الأمير الرائع” في سن مبكرة (43 سنة)، مما جعل رجل الدين ينقض على الحكم، ويسيطر هو أتباعه على المدينة، ويأمر بمحو كل آثار بدايات النهضة الحضارية، بإحراق الكتب والآلات الموسيقية واللوحات الفنية، والانتقام من زبدة النخبة الفكرية الذين تمّ إحراق بعضهم في الساحة العمومية التي كانت من قبل فضاء للفرح والاحتفال والإبداع الجميل.
انهارت المدينة الجميلة بعد أربع سنوات من الإرهاب الكنسي وسقطت في يد الفرنسيين، إذ قام رجل الدين ببيعها لهم مقابل تركه حاكما عليها، مما جعل الفلورنسيين يستيقظون من المخدّر ويقبضون على الرجل ويعدمونه كما أعدم هو من عارضه من قبل، وانتهت قصته بخراب المدينة التي لم تستعد بهاءها إلا بعد مدة غير يسيرة، بإحياء ذكرى “الأمير الرائع” وبعث إرثه الجميل.
تعكس القصتان الصراع بين العقل والهمجية، التي تنجم عن تحويل الدين من إطاره الشخصي إلى مشروع للسيطرة، ولعلهما درسان يحتاج إليهما من مازال حتى اليوم في بلدان منطقتنا، يعتقد أن الدين مشروع سياسي للهيمنة والإخضاع والتخدير، فمهما سيطرت الخرافة على عقول الناس لهذا السبب أو ذاك، فإن العقل في النهاية هو الذي ينتصر بمجرد زوال المخدر.
المصدر: زنقة 20
إقرأ أيضاً:
وزير الري يكشف للسفير الألماني السبب الرئيسي في تعثر مفاوضات سد النهضة
التقى الدكتور هاني سويلم وزير الموارد المائية والري بالسفير يورين شولز سفير ألمانيا لدى القاهرة.
ورحب الدكتور سويلم بالسفير والوفد المرافق له، مشيداً بالتعاون البناء بين مصر وألمانيا خلال السنوات الماضية والذي تم خلاله تنفيذ العديد من المشروعات في مجال الموارد المائية والرى ، مؤكداً على رغبة الوزارة في إستمرار هذا التعاون المتميز ، ومن جانبه عبر السفير الألماني عن شكره للدكتور سويلم وحرص بلاده على تعزيز التعاون مع مصر في كافة المجالات لاسيما في مجال الموارد المائية .
سد النهضة.. خبير يكشف أسباب إعادة فتح بوابات المفيض الزلازل تضرب إثيوبيا.. أستاذ علوم الأرض يوضح علاقة سد النهضة بالهزات زلزالان جديدان يضربان إثيوبيا.. وخبير يحذر من دخول سد النهضة منطقة الخطر رسالة أمل من وزير الري للمصريين وسط تحديات كبيرة تواجه قطاع المياه وزير الري: مصر تبذل جهودا كبيرة للتعامل مع تحديات المياهشهد اللقاء التباحث حول عدد من القضايا الإقليمية فى مجال المياه ، وأكد الدكتور سويلم على دعم مصر الدائم للدول الإفريقية الشقيقة وخاصة دول حوض النيل ، من خلال تنفيذ العديد من المشروعات في مجالات تطهير المجارى المائية، وإنشاء سدود حصاد مياه الأمطار، وحفر آبار مياه جوفية تعمل بالطاقة الشمسية في المناطق النائية، وإنشاء مراسى نهرية ومراكز للتنبؤ بالأمطار ، مؤكدا على ضرورة الالتزام بالقوانين الدولية فيما يخص الأنهار الدولية عند تنفيذ مشروعات تنموية فى دول المنابع .
مسار المفاوضات الخاصة بالسد الإثيوبي (سد النهضة)كما استعرض الدكتور سويلم مسار المفاوضات الخاصة بالسد الإثيوبي والذى حرصت خلالها دولتا المصب مصر والسودان على التوصل لاتفاق قانوني عادل وملزم لملء وتشغيل السد الإثيوبي، إلا أن التعنت الاثيوبى وعدم وجود ارادة سياسية أدى لعدم التوصل لإتفاق قانوني عادل وملزم .
وأشار الدكتور سويلم للاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل والتى قامت بعض الدول بصورة منفردة بالتوقيع عليها دون الإنتهاء من التوافق حولها ، مشيرا إلى ان هذه الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل بشكلها الحالى تخالف قواعد القانون الدولي للمياه ، وتشجع على إتخاذ إجراءات أحادية، وتتجاهل مبدأ الإخطار المسبق ، وتتجاهل حقوق دولتى المصب مصر والسودان ، وتشجع على الانقسام بدول حوض النيل ، مؤكدا على ضرورة إدارة الأنهار الدولية بشكل متكامل من خلال منظمات أحواض الأنهار الدولية التى تعتمد مبادئ القانون الدولي للمياه وتعتمد على مبدأ الشمولية وأن تكون كافة الدول ممثلة بها ، وأن تكون آلية إتخاذ القرار بها بالإجماع لعدم إهدار حقوق اى دولة من دول الحوض .