عماد عليبي لـ«الاتحاد»: الموسيقى تحفظ تاريخية الأمكنة وموروثها الثقافي
تاريخ النشر: 31st, March 2024 GMT
نوف الموسى (دبي)
أخبار ذات صلةلا يُمكن اليوم الحديث عن الموسيقى بمعزل عن الأشكال الإبداعية، والتعبيرات الثقافية، والمشروعات المعرفية والفكرية والإنسانية الأخرى، فالتوجه الثقافي الجديد، وفق السياسات الثقافية الدولية والعالمية، أو ما يسمى كذلك بالدبلوماسية الثقافية، يبحث في رؤية التداخل النوعي لكل أطياف الممارسات الإنسانية وتفاعلاتها اللحظية مع الإنتاج الثقافي، وقراءة أثر التمازج بين الموسيقى والفنون البصرية والرقصات والمسرح، وأيضاً السينما، إضافة إلى حضور منصات التواصل الاجتماعي كمحرك استثنائي في النشاط الثقافي والمجتمعي، وما يؤديه من دور في إتاحة فرص نوعية لكيفية استقبال الجمهور للحالات الموسيقية، توضيح أشار إليه الموسيقي والملحن التونسي عماد عليبي، المدير السابق لمهرجان قرطاج الدولي لـ «الاتحاد»، مبيناً أن الموسيقى تحفظ تاريخية الأمكنة وموروثها الثقافي، وأنه إذا ما رجعنا للدراسات الأنثروبولوجية، فإنها أثبت أن الشعوب ذات الموروث الموسيقي هي التي امتدت في الزمن، كون الإيقاع بطبيعته يجذر الهوية، تشعر به هنا في الإيقاعات الحجازية بمنطقة الخليج العربي، أو في سلفادور دي باهيا في البرازيل، ومنه فإن الاستفادة القصوى من التكنولوجيا الحديثة، سواء على مستوى الإنتاج أم التوثيق أم التعريف بالموروث الموسيقي، بحسب الموسيقي عماد عليبي، ضرورة لإحداث التوازن واستدامة فعل الحياة العصرية عبر إدراك أدبيات الموسيقى، وامتداد ذائقتها الحسية في التجربة الثقافية لشعوب العالم.
حضور الإبداع
اعتبر الموسيقي عماد عليبي أنه أصبح في العالم ما يشبه مساحة للعمل الجماعي، فالأمر لا يقتصر على منصات التواصل الاجتماعي، وتفاعلاتها اللانهائية، من حيث التعبير عن البنية الموسيقية، وطبيعة إنتاجها، وقياس ردود الفعل النقدية، ولكنه بالنظر إلى فعل الإنتاج الموسيقي نفسه، نجد كيف أن الفنان يعمل اليوم مع مصمم جرافيك ومهندس معماري ومدير فني، وفريق كامل يبني العلامة الفنية الخاصة فيه، وهو ما يعود بنا إلى مسألة الفنون وارتباطها بالمهن الفنية والصناعات الإبداعية بشكل عام، وصولاً إلى مسألة السياسات الثقافية، والتي تبنى بالتأكيد على أساس حضور الإبداع وتطويره، فأغلب النقاشات والبحوث في الملتقيات العالمية، أجمعت على محور الحديث عن الثقافة في العموم، أكثر من موضوع الفن بحد ذاته، ما يجعل محوراً مثل «المكان» في عالم الإنتاج الموسيقي، جزءاً حيوياً في التباحث حول من ينتج الموسيقى، فهناك أمكنة تُنتج الموسيقى من خلالها، وهناك أمكنة تصمم لموسيقى معينة، ويؤكد الموسيقي عماد عليبي أن بيان الحدود الفاصلة بين الثقافة والفن لا يمكن الجزم به، طالما أن تاريخ الحضارة الإنسانية قائم على حالة من التمازج لكل التعبيرات الإبداعية للحياة من حولنا.
حاضنة ثقافية
تاريخية الأمكنة وارتباطها بالمهرجانات الموسيقية، مثلما مهرجان قرطاج الدولي، يراها الموسيقي عماد عليبي، بمثابة حاضنة ثقافية في عالم صناعة الموسيقى، فعندما نتحدث عن إقامة حفلات موسيقية في مكان أثري، من مثل «العُلا» في السعودية، و«جرش» في الأردن، ومهرجان سوسة الدولي وغيرها، فنحن بالضرورة نفتح فضاءات السؤال حول الموقع نفسه، موضحاً أنه بالنظر إلى حقبة السبعينيات والثمانينيات، فقد كان هناك تجاهل غير مقصود لهذه المسألة المهمة في قراءة مشهدية المكان عبر فعل تنظيم الحفلات الموسيقية، ومنه عمل الموسيقي عماد عليبي، إبان فترة إدارته لمهرجان قرطاج الدولي على مشروع أرشفة مضامين المهرجان، وتوثيقها ببعد يقرأ سنوات تأسيس المسرح وامتدادات اتصاله بالعهد الروماني، وتناول مباحث ثقافية وفكرية حول العلاقة بين قرطاج وروما.
حدود التكنولوجيا
«من المهم أن نعرف حدود التكنولوجيا أين تقف عندما يكون هناك إبداع»؛ هنا أكد الموسيقي عماد عليبي، أهمية التوازن فيما يتعلق بالموسيقى التقليدية، والآليات الحديثة في إنتاج الموسيقى، مبيناً أنه لا يمكن أن تفرض على الموسيقى التقليدية أشياء معينة، بقدر ما أنك تحترمها، إلا أنه في الموضوع ذاته، أظهر الموسيقيون الشباب، قدرات إبداعية لافتة في الاشتغال على الموروث بشكل عصري، وجعله أكثر عالمية، وفي متناول اليد، فأحياناً يكون من الصعب أن تأتي بالفرق الشعبية من مختلف البقاع العربية، لإحياء عروض حيّه، مضيفاً أن هناك جيلاً جديداً يستمع للموسيقى بطريقة مختلفة، قائلاً حول ذلك: «لا أتفق مع فكرة أن الشباب لا يفضلون الموسيقى التقليدية، فقد أثبتت منصات التواصل الاجتماعي، أنه بمجرد أن ينشر مقطع لمعزوفة تراثية من الصعيد أو أسوان، فإنها تلقى إقبالاً وانتشاراً واسعين، ما يهدينا رؤية مغايرة، أن للجيل الجديد استقبالاً وتفاعلاً للموسيقى عبر «انستغرام» و«تيك توك»، مختلفاً عنه في القنوات التلفزيونية وبصورتها الاعتيادية».
الخيارات الموسيقية
من جهته، أشار الموسيقي عماد عليبي إلى أهمية الاستقلالية في مجال الصناعة الموسيقية، للحفاظ على الموروث الموسيقي وتطويره، وبناء ذائقة موسيقية تتفرد بها المجتمعات المتعددة، خاصةً أنه لا يمكن إغفال سنوات من تأثير التكنولوجيا العالمية، وبالأخص الأميركية والأوروبية؛ لكونها تنتج التكنولوجيا الموسيقية، ومتقدمة في مسألة حفظ حقوق المبدعين، وتدير صناعة الإعلام، فمن خلال فرض شكل واحد من الموسيقى على العالم، من مثل موسيقى «البوب»، والذي يحمل معه منحى اقتصادياً تسويقياً، فإنه يصعب بعدها إقناع الأجيال الجديدة بالأشكال الموسيقية النابعة من صميم ثقافتهم، فالأمر برمته يحتاج إلى وقت، والمشكل ليس في الأشكال الموسيقية أياً كانت، ولكن بأحادية العرض، فالوضع الصحي لأي فضاء موسيقي في العالم، أنه يتيح للجمهور جميع الخيارات الموسيقية ويدعه هو من يختار ويتذوق.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الموسيقى الثقافة
إقرأ أيضاً:
التكنولوجيا النووية.. أفق جديد للطب الحديث.. مصر بوابة إفريقيا نحو المستقبل
عندما يتردد مصطلح "التكنولوجيا النووية" تتبادر إلى الأذهان صور المفاعلات ومحطات توليد الطاقة والجدل السياسي العالمي. لكن خلف هذه الصورة النمطية، ثمة حكاية إنسانية أكثر عمقاً وهدوءاً حكاية تُسخّر فيها الذرات لا لإنارة المدن، بل لإنقاذ الأرواح.
يمثل الطب النووي أحد أبرز آفاق هذا التحول المذهل، فمن خلال استثمار المبادئ العلمية ذاتها المستخدمة في مجال الطاقة النووية، توظف النظائر المشعة لتشخيص ومتابعة وعلاج طيف واسع من الأمراض. ومن طب الأورام إلى أمراض القلب والأوعية الدموية وعلم الأعصاب، يحدث الطب النووي ثورة في الرعاية الصحية المعاصرة من خلال تقنيات الدقة والكشف المبكر والعلاجات الأقل تدخلاً.
في مصر ما زالت إمكانات الطب النووي في بداية تفتحها. فبفضل بنيتها التحتية الصحية المتنامية، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وتعدادها السكاني الذي يتجاوز 110 مليون نسمة، تتمتع مصر بوضع استثنائي يؤهلها لأن تصبح مركزاً إقليمياً للطب النووي — ليس فقط لخدمة مواطنيها، بل لتكون منارة للقارة الإفريقية بأكملها.
ولتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يتحتم على مصر أن تتجاوز مجرد الاعتراف بإمكانات الطب النووي إلى الاستثمار الجاد فيه. وهذا التوجه ينسجم تماماً مع رؤية مصر 2030، التي تستشرف "نظاماً صحياً قادراً على الارتقاء بالأوضاع الصحية من خلال التدخلات المبكرة، والتغطية الوقائية الشاملة، والوصول العادل للخدمات عالية الجودة، مع ضمان حماية الفئات الأكثر احتياجاً، وتحقيق الرضا لدى المواطنين والعاملين بالقطاع. فتركيز الطب النووي على التشخيص المبكر، والعلاج الدقيق، والتطور التكنولوجي يسهم مباشرة في تحقيق هذه الأهداف — معززاً الازدهار الوطني، والرفاهية المجتمعية، والريادة الإقليمية في مجالي الصحة والبحث الطبي.
حالياً تقدم العديد من المؤسسات المصرية خدمات الطب النووي الأساسية، إلا أن توسيع نطاق هذه الخدمات بات ضرورة ملحة. فتأسيس قدرات محلية في إنتاج النظائر، وتطوير المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية، وتقنيات التصوير المتقدمة من شأنه أن يقلص بشكل كبير الاعتماد على الاستيراد، ويضمن وصولاً سريعاً للتشخيصات والعلاجات المنقذة للحياةعلى المستوى المحلي.
على الصعيد العالمي، لا يمكن سرد قصة تطور الطب النووي دون الإشارة إلى الدور الريادي للعلوم الروسية. فمنذ منتصف القرن العشرين، كان العلماء السوفييت في طليعة رواد توظيف النظائر المشعة في التطبيقات الطبية، مما أسهم بشكل محوري في تحويل المعرفة النووية إلى طفرات علاجية.
واليوم تقف شركة روساتوم الحكومية الروسية ، في مقدمة التطبيقات النووية السلمية. تصنف الشركة ضمن أكبر خمسة منتجين عالميين للنظائر المشعة، هذه النظائر لا غنى عنها ليس فقط في المجال الطبي — حيث تدعم عشرات الملايين من الإجراءات سنوياً بمواد مثل الموليبدينوم-99 واليود-131 واللوتيتيوم-177 — بل أيضاً عبر مختلف المجالات الصناعية والعلمية.
في روساتوم يُنظر إلى مفهوم الصحة بنظرة شمولية متكاملة. فمناهجها متعددة التخصصات تدمج أحدث تطورات الطب النووي، والنمذجة الحاسوبية، وفيزياء المادة المكثفة، والتكنولوجيا الحيوية.
كما تمتد خبرتها أيضاً إلى البنية التحتية الطبية، حيث تعمل مراكز التشعيع التابعة لها على تعقيم المعدات الطبية وتعزيز سلامة الغذاء، مع وجود منشأة ضخمة قيد الإنشاء في بوليفيا. وتنفذ الشركة مشروعاً فريداً — وهو إقامة مركز للأبحاث والتكنولوجيا النووية على ارتفاع 4000 متر، ليصبح بذلك أعلى منشأة للتكنولوجيا النووية في العالم. يقدم مشروع CNST باقة من الحلول التقنية المتطورة في مختلف المجالات، بما فيها تشخيص وعلاج الأمراض السرطانية، ومعالجة المنتجات الزراعية لتعزيز الأمن الغذائي، وتعقيم الأجهزة الطبية بما في ذلك معدات الوقاية الشخصية، وإجراء البحوث في مجالات البيولوجيا الإشعاعية والبيئة وإدارة الموارد المستدامة، ودراسة خصائص المواد، وتدريب المتخصصين البوليفيين في القطاع النووي.
علاوة على ذلك، تنتج مجمعات السيكلوترون النظائر الطبية الضرورية لأجهزة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET/CT)، مما يتيح الكشف المبكر عن الأمراض الخطيرة — وهو تحول جذري لدول مجموعة البريكس التي تستثمر في حلول الرعاية الصحية الحديثة. وبالنسبة لمصر، العضو في مجموعة البريكس، يمكن أن تشكل هذه الخبرات مصدر إلهام ونموذجاً قابلاً للتكييف مع احتياجاتها المحلية.
بيد أن أي استراتيجية طموحة في مجال الطب النووي يجب أن تبدأ وتنتهي بالعنصر البشري. فالتكنولوجيا وحدها لا تكفي. ما يكتسب أهمية بالغة أيضاً هم أخصائيو الأشعة، والصيادلة النوويون، والفيزيائيون الطبيون، والهيئات التنظيمية، والفنيون الذين تضفي مهاراتهم الحياة على هذه التكنولوجيا.
تمتلك مصر بالفعل قاعدة راسخة في مجالي العلوم والهندسة. ومع السياسات الملائمة، وبرامج التدريب المواكبة للتطورات، وتبادل المعرفة على المستوى الدولي، يمكن توجيه هذه الكفاءات نحو مسارات مهنية متخصصة في الطب النووي. وبوسع المؤسسات الأكاديمية والطبية أن تبني أفضل الممارسات العالمية مع مواءمتها مع الواقع المحلي — لبناء كوادر بشرية قادرة على خدمة مصر ومحيطها الإقليمي.
المسار المستقبلي لمصر بقدر ما هو طموح، فهو قابل للتحقيق. على المدى القريب، تشكل زيادة الوعي، وتحديث الأطر التنظيمية، وتوسيع نطاق التدريب المهني أولويات رئيسية. وعلى المدى البعيد، يمكن لمصر تصدير خبراتها — لتبرز ليس فقط كرائدة إقليمية في الابتكار الطبي، بل أيضاً كنموذج يعول عليه في مجال التكنولوجيا الصحية على مستوى القارة الافريقية.
ويمكن للتعاون الدولي — بما في ذلك تبادل المعرفة مع روسيا — تسريع وتيرة هذا المسار. غير أن المحفز الأساسي لا بد أن يكون الإرادة الوطنية: القيادة السياسية الواعية، والاستثمار الاستراتيجي، والالتزام الراسخ بتحقيق رؤية مصر 2030.
إن قوة الطب النووي لا تكمن في الاستعراض — بل في الفحوصات الدقيقة ، والعلاجات المركزة، واسترداد الصحة بشكل مستدام. بالنسبة لمصر، لا يقتصر الأمر على مجرد تبني تقنيات متطورة — بل يتعداه إلى تطويعها لتلبية احتياجات الرعاية الصحية على المستويين الوطني والإقليمي. وإذا ما تم توجيه هذا المسعى ببصيرة نافذة وترسيخه في منظومة التنمية البشرية، فإن الطب النووي يمكن أن يصبح ليس مجرد حجر زاوية للصحة العامة في مصر، بل منارة للتقدم والأمل عبر ربوع القارة الإفريقية.