بقلم: فالح حسون الدراجي ..

في هذا اليوم الربيعي، يحتفل الشيوعيون العراقيون وأصدقاؤهم من عموم التقدميين والديمقراطيين في العالم بالذكرى التسعين لتأسيس هذا الحزب المجيد، حيث سترتفع اليوم رايات الشيوعية الحمر، وتصدح حناجر الشباب و (الشياب) بالأغنيات العذبة، ويتبادل المحبون باقات الورد، وبطاقات التهنئة..

ومثل غيري سأحتفل أنا أيضاً مع الجموع المحتفلة مرةً، ومع نفسي مرةً ثانية، الأولى لبلوغ قطار حزب الكادحين محطة التسعين رغماً عن انوف الطغاة والقتلة والفاشيست،

والثانية، لمرور خمسين عاماً على نيلي شرف العضوية في الحزب الشيوعي العراقي، حيث تصادف هذا الأيام ذكرى تسلمي بطاقة الأعضاء من مسؤولي الحزبي، المناضل حيدر الشيخ علي عام 1974، بعد اشتغالي فترة في اتحاد الشبيبة الديمقراطي، وتدرجي في صفوف الحزب من صديق إلى مرشح إلى عضو يتمتع بكامل العضوية..

لكنّ فرحي اليوم تظلله للأسف سحابة حزن داكنة، بسبب غياب الكثير من الاحبة المناضلين عن هذه المناسبة الغالية، لاسيما اولئك الذين استشهدوا دفاعاً عن قيم ومبادئ الحزب، أو الذين رحلوا عنا دون كلمة وداع.

ولن يخفف من حزني المتأتي من غياب تلك الوجوه المضيئة بشعاع النضال، وتلك الأسماء التي أحببتها، وأعجبت بنضالها وبطولاتها، وألق مواقفها، ورافقت بعضها بل وعشت مع بعضها أيضاً.. أقول لن يخفف من أسى ذلك الحزن سوى يقيني بأنهم مضوا إلى أبديتهم بكامل روعتهم وطهرهم، ومبادئهم، ونصاعة مواقفهم. ويكفيني فخراً أن يكون بينهم شقيقي البطل خيون حسون الدراجي، و(خال بناتي) البطل خالد حمادي، وبقية الشهداء الأبطال أمثال صديقنا غايب حوشي وصديق عائلتي القاص حميد ناصر الجيلاوي، والنجم الكروي الصديق بشار رشيد، والشاعر الصديق كاظم الحميري، و(عديلي) الشاعر الشهيد ذياب گزار (أبو سرحان)، وكذلك (نسيبي) المناضل الراحل حيدر الشيخ علي..وإبن عمي النصير الشيوعي سامي حسين الدراجي ( أبو سومر)، فضلاً عن عدد من الأحبة الذين كنا نحتفل معهم كثيراً في هذه المناسبة العزيزة، لكنهم رحلوا للأسف، وظل مكانهم شاغراً رغم حضورهم الدائم والبهي في قلوبنا..ومن بين هؤلاء يأتي صديق عمري الشاعر الجميل كريم العراقي، والشاعر الفذ كاظم إسماعيل الگاطع، والشاعر النبيل جمعة الحلفي، والكاتب الخالد شمران الياسري (أبو گاطع)، والشاعر المناضل ألفريد سمعان، والمناضل إسماعيل البهادلي أبو علي الذي كنا نراه بقامته الباسقة وأناقته الجنوبية يتصدر المشهد الاحتفالي معايداً الحضور جميعاً بمولد الحزب، كما أتذكر اليوم المناضل جمعة حطاب (أبو احسان) – الشخص الذي قادني من يدي إلى طريق النور- وكذلك ابن عمي المعلم الشيوعي غازي الدراجي ابن البصرة الذي زرع في قلبي لأول مرة أسماءً عظيمة ستزهر في حياتي بقادم الأيام، حقولاً من الورد والحب والجمال، مثل القادة فهد وحازم وصارم وسلام عادل وجمال الحيدري، ومثل أبو العيس وحسن السريع وستار خضير وغيرهم… أما الفنان فؤاد سالم، فسيظل الاسم الذي أفتقده اليوم ربما أكثر من غيره، فهذا الكائن الجميل الذي رحل مع بقية الأحبة الذين رحلوا وتركوا في القلب جرحاً لن يندمل أبداً، يستحقون منا الذكر والتحية في عيد ميلاد حزبهم، الذي ضحوا بالغالي والنفيس من أجل رفعته وسموه.. لقد كان بودي اليوم أن اكتب عن هذه الشموس دون استثناء، لكن مساحة المقال لن تسع لبريقهم الساطع، وتاريخهم الخالد الذي أتشرف بمعرفته.. وعهداً، اني سأنجز يوماً ما كتاباً يحكي حياة وبطولات وإبداعات هذا الجمع الباهر من المناضلين الشيوعيين، الذين ظلوا أوفياء لحزبهم وفكرهم حتى وإن غادر بعضهم صفوفه التنظيمية.

ومع ذلك، سأستغل اليوم وهج هذه المناسبة لأكتب على ضوئه بعض مواقف الفنان (الشيوعي) الكبير فؤاد سالم، كما عرفتها وعرفته شخصياً عبر علاقة متشعبة فنياً واجتماعياً وفكرياً، امتدت لأربعة عقود.. علاقة كانت واسعة ونبيلة وإن كانت متقطعة بسبب الظروف المتقلبة.

وهنا قد يسألني سائل: لماذا فؤاد سالم دون غيره من الشيوعيين؟!

والجواب: لأن فؤاد سالم عانى، وقاسى ما لم يعانه ويقاسه غيره، إذ لم اجد أحداً – من غير الشهداء – قد دفع ثمناً غالياً من اجل مبادئه وشرف انتمائه مثل فؤاد سالم، لذلك اخترته بطلاً لمقالتي في مثل هذا اليوم التاريخي والمميز.
وإذا كان الفنانون الشيوعيون دفعوا أثماناً باهظة بسبب مواقفهم المناهضة للدكتاتورية، إلا أن الثمن الذي دفعه فؤاد كبير جداً ومختلف جداً.. لقد عرفت فؤاد سالم جيداً، وتعمقت علاقتنا منذ لقائي الاول به، والذي تم بفضل الشاعر الراحل كريم العراقي عام 1973، عندما ذهبنا سوياً لزيارة فؤاد في شقته القريبة من قاعة الخلد .. وقد فوجئت بتلك الحفاوة التي أبداها الرجل في استقبالنا خاصة وأننا لم نزل في أول طريق الشعر، حتى أني ظننت وقتها أن أغنية (عمي عمي يا أبو مركب)، التي كتبها كريم العراقي، ولحنها الفنان طالب غالي وأداها فؤاد سالم بشكل رائع، هي السبب في كل هذه الروعة والحرارة في الاستقبال، لكني اسقطت هذا السبب لاحقاً حين اكتشفت طيبة ونقاء وكرم وأريحية فؤاد سالم.. واذكر أننا تناولنا الغداء مع فؤاد سالم في شقته، بمشاركة زوجته الفنانة مي جمال، وامها منيرة جمال، و (بحضور) طفلته (نغم) التي كانت بعمر سنتين أو ربما أكثر بقليل.

وأذكر أن حديثاً متشعباً دار بيننا عن الشعر والغناء والبصرة و(الاشتراكية).. وأذكر أيضاً أني أبديت له إعجابي بأغنية (يا ابو بلم عشاري)، وكيف أني أطلب من صديقي فاضل عبود أن يغنيها لنا كل جلسة.. وحين أخبرته بذلك، فرح فؤاد فرحاً طفولياً، حتى أنه سألني أكثر من مرة إن كان صديقي يجيد اداءها. بعد ذلك اللقاء تواصلنا عشرات المرات، فكنا نزوره أنا وكريم احياناً، واحياناً نلتقيه في بعض الحفلات والمناسبات الوطنية، كحفلة الذكرى الأربعين لميلاد الحزب الشيوعي التي اقيمت في جزيرة أم الخنازير-جزيرة الأعراس- وفي تلك الأيام كتبت له أغنية (طبقية) بعنوان يا فقراء يا أحباب.. وطبعاً لم يستطع فؤاد تسجيلها في العراق آنذاك لكنه قدمها مرات عديدة في عدن حينما أقام هناك فترة من الزمن. كما أود أن أذكر هنا ان فؤاد سالم قد تعرض قبل مغادرته العراق إلى المضايقات والملاحقات والاعتقال والفصل الوظيفي، بل وحتى الضرب أحياناً، ناهيك من التهميش والحصار الفني الذي فرضته عليه سطات البعث بمجرد أن أعلن عن موقفه السياسي بعد تأسيس الجبهة الوطنية.. فكان وضعه المعيشي بائساً نتيجة لذلك – رغم نجوميته الكبيرة وشهرته الواسعة.. وأذكر موقفاً لن أنساه أبداً، يوم زارني فؤاد في بيتنا بمدينة الثورة قطاع 43، بسيارته (الاسكودة) القديمة، وقد التقى بوالدي ووالدتي وشقيقي (أبو سلام)، ثم خرجت معه بسيارته تلك، لكن فجأة- وبينما كنا على جسر القناة- سقط باب السيارة من جهة اليمين، وطبعاً فإن فؤاد لم يستطع التوقف فوق الجسر، فكان عليّ أن أرجع إلى مسافة طويلة وأعود حاملاً الباب، وسط تعليقات السواق وضجيج (الهورنات المشاكسة) ..!

لقد ظلت علاقتي مع فؤاد متواصلة لم تنقطع حتى مغادرته العراق، ولقائي به في امريكا بعد عشرين عاماً، حين طرق باب بيتي في مساء اليوم الثاني لوصولي مدينة ديترويت الأمريكية قبل ربع قرن، وحين فتحت الباب وجدت أمامي فؤاد سالم ومعه الشاعر خليل الحسناوي، فكان اللقاء بفؤاد خليطاً من الدموع والفرح والمشاعر الوجدانية التي لا توصف.. وهكذا عدنا أنا وفؤاد ثانية، وعادت تلك العلاقة القديمة، وصرنا نلتقي كل يوم بصحبة صديقنا خليل الحسناوي وبعض الأحبة..

وهنا أود أن أقول إن أهمّ الأثمان التي دفعها فؤاد سالم – وسمعتها منه شخصياً – كانت بفقدانه أسرته يوم واجهته زوجته (أم نغم) بطلب غريب قبل سفره، قائلة له : أنا لا أستطيع العيش معك بهذه الطريقة، لذا أريدك أن تختار بيني وبين الحزب الشيوعي.. ثم أعادت عليه الطلب في اليوم الثاني : أنا أم الحزب الشيوعي؟!

فأجابها فؤاد بشكل قاطع: طبعاً الحزب الشيوعي !!
وهكذا غادر فؤاد بيته – ويقال إن طلب زوجته جاء بضغط من الامن العامة- والمصيبة أن فؤاد لم يغادر بيته فحسب، إنما غادر بعدها وطنه برمته، متوجهاً نحو الكويت، واضعاً خطوته الأولى في طريق الغربة والألم، لتتعدد بعدها خطوات غربته في دروب عديدة، ودول عربية واجنبية شتى. وفي أمريكا بدأت رحلة التعاون الفني بيننا وكانت تحديداً في عام 2000 حين كتبت له أغنية عن الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، ولم يكن معنا الوقت أو الإمكانيات لتسجيلها آنذاك، فاتصل فؤاد بإذاعة صوت كربلاء التي كانت تبث من ولاية مشيغان، وطلب بث اغنية (الدرة) مباشرة وعبر التلفون، فوافقوا حالاً .. وهكذا أوصل فؤاد صوته، والدموع تغرق عينيه تأثراً بحادث استشهاد ذلك الطفل الفلسطيني.. وكم أتمنى لو أن الاخوة الأعزاء في اذاعة كربلاء يحتفظون بتلك المكالمة وبذلك التسجيل لهذه الاغنية، فهو وثيقة تاريخية مهمة عن أغنية كتبت ولحنت وقدمت وبثت بساعة واحدة فقط !.

بعد أغنية (الدرة) بفترة قصيرة، كتبت لشهداء الحزب الشيوعي العراقي عشر اغنيات لحنها وغناها فؤاد بنفسه، وقد أنتجها ونشرها مشكوراً، الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة، وهذه الاغاني تصدح اليوم في مواقع وصفحات الحزب الشيوعي، وفي اليوتوب، وأيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي .. أما الأغنيات فهي: “صادق فهدنا، وسلام الحب على احلى الأسامي، ويا جمال الغالي عذبنا الفراق، ومحمد الخضري، وجورج تلو، ويا نساء العالم تجمعن سوه، والمطر لو طاح يسأل وين أبو گاطع، وفكرت جاويد، وصليوه، واغنية هندال” ..

لقد تحدثت كثيراً عن فؤاد سالم، لكني لم أتحدث عن معاناة هذا الرجل في غربته ومحنته، إذ لم تكتف السلطات البعثية في العراق بمنع بث أغانيه في الاذاعة والتلفزيون، ومنع بيع وتداول اشرطته الغنائية في محلات التسجيل في العراق، وبثها الاشاعات والدعايات التسقيطية ضده، إنما قامت بتوجيه عملائها في امريكا بقيادة المليونير البعثي ورجل كابونات النفط شاكر الخفاجي، بمحاصرة فؤاد سالم حصاراً فنياً ومهنياً، بحيث كانت تقام في مشيغان حفلات كبيرة لمطربين (نص ردن) بينما كان النجم الكبير فؤاد سالم مركوناً، وعاطلاً لا يستدعى حتى في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية، ولولا مواقف الاتحاد الديمقراطي العراقي الكريمة، ودعم بعض الشخصيات الديمقراطية في أمريكا لما تمكن فؤاد من تدبير أمر معيشته، ومعيشة عائلته في سوريا (زوجته ام حسن وأولاده).

فمن يصدق مثلاً أن فناناً باهراً ونجماً ساطعاً مثل فؤاد سالم كان لا يملك سكناً خاصاً به، لذلك كان يقيم أحياناً لدى بعض الأصدقاء و(الصديقات) في امريكا.. بل أنه اشتغل في مهن لاتتفق ومؤهلاته الفنية العظيمة، فمثلاً عمل – وهو النجم الكبير – سائق تاكسي على خط بوابات مطار ديترويت، ولعلكم تعرفون أن من مهمات سائق التاكسي في امريكا أن ينقل الحقائب بيديه من والى السيارة، وفي احدى المرات، حين كانت الأرض مغطاة بالثلج انزلقت قدم فؤاد، وسقط على الأرض، فسقطت الحقيبة بكل ثقلها فوق ساقه، وكسرت رجله، وبقيت في (التجبير) أكثر من شهرين..

لقد حدث كل هذا مع فنان كبير بحجم فؤاد سالم، بينما كان (اقرانه) (يلعبون بالملايين لعب) ! علماً بأن فؤاد سالم كان قادراً على تغيير شكل حياته لو تخلى عن قضيته ومبدئه، أو توقف عن نقد صدام حسين والغناء ضد نظامه في جميع الحفلات حتى لو كانت حفلات عامة، فيعيش برخاء مثل زملائه الفنانين الآخرين، لكن هيهات أن يفعلها أبو نغم، فقد رفض كل ذلك بقوة.. وأعتقد أن الوسط الفني يعرف شجاعة فؤاد سالم، ومعارضته القوية لصدام، فهو لم يخف يوماً رغم أن الرجل كان مهدداً بالتصفية بل وكان مشروع استشهاد في أية لحظة وأية بقعة في العالم ..!

إذاً، كان هذا بعضاً من الثمن الباهظ الذي دفعه فؤاد سالم حفاظاً على قضيته الوطنية، و مبادئه الشيوعية السامية.

لذا ارجو من المحتفلين جميعاً أن يتذكروا اليوم الفنان الشيوعي المضحي والملتزم فؤاد سالم ..

ختاماً أذكر الأغنية التي كتبتها له في أوبريت الشمس تشرق من هناك، الذي شاركته فيه الفنانة غزوة الخالدي وحشد من الفنانين العراقيين والعرب في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الأغنية – الحلم – التي خاطبت فيها العراقيين المنفيين والمهجرين والمهاجرين كرهاً، حيث قلت في مطلعها:

باچر يرحل الظلم يحبابنا وترجعون ..

وباچر تنزل الشمس وتغني لليحبون ..

سمانه تلبس ألوان ..

وبلدنا يغدي بستان .. وبفيه تستراحون ..

وبظله تستراحون .

تحية لفؤاد سالم في يوم ميلاد حزبه الجميل ..

فالح حسون الدراجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات الحزب الشیوعی فؤاد سالم فی امریکا

إقرأ أيضاً:

بمناسبة مرور «177» عاماً على صدور البيان الشيوعي

بمناسبة مرور «177» عاماً على صدور البيان الشيوعي

تاج السر عثمان بابو

1

مرت في 21 فبراير الماضي  الذكرى 177 لصدور البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وانجلز في 21 فبراير 1848، في ظروف أكدت صحة المبادئ العامة للبيان، فقد اشتدت الأزمة العامة للرأسمالية مع تصاعد الفاشية والنزعات العنصرية، كما في تصاعد المخطط الصهيوني الأمريكي لإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، ولا سيما بعد إعادة انتخاب ترامب، جاء ذلك بعد أن تفاقمت الأزمة وفشل الإصلاحات لمواجهة أزمة الرأسمالية في العام 2008/ 2009م، التي لم تكن جذرية، وبعد الحرب الروسية- الاوكرانية التي بلغت تكلفة الحرب فيها أو خلال 3 سنوات حوالي 820 مليار دولار، وتحول هذا الانفاق على الحرب إلى ديون على أوكرانيا يطالب الرئيس الأميركي ترامب بتسديدها وعينه في ذلك على المعادن الثمينة التي تمتلكها أوكرانيا الخائفة على مصير ثرواتها.

إضافة لحرب غزة والسودان بهدف نهب الموارد بعد إبادة وتهجير السكان الأصليين، أدت الأزمة لزعزعة النظام المالي الرأسمالي العالمي، وتتفاقم المشاكل مثل: تراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي بسبب ارتفاع معدلات البطالة والتضخم والمديونية العامة، والاستقطاب الطبقي، وشدة استغلال العاملين وتشريدهم، وارتفاع الأسعار والتضخم، والانفاق العسكري على حساب خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وتفاقم الصراع بين أقطاب الرأسمالية “اليابان، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة”، وصراعها مع الدول الرأسمالية أو الرأسمالية الدولية الصاعدة مثل: “الصين، روسيا، الهند، جنوب أفريقيا، البرازيل، الخ”، واحتدام حدة صراع الموارد في البلدان النامية ومنها السودان، هذا إضافة لنهوض الحركة المطلبية والجماهيرية ضد البطالة، وأزمة “كورونا” التي حصدت الالاف من المواطنين، وضد العنصرية، وتنامي الأحزاب الثورية بمختلف منطلقاتها المطالبة بالضمان الاجتماعي والعدالة والدفاع عن البيئة ووقف سباق التسلح والحرب، واحترام حقوق الانسان، وحقوق المرأة، وضد الاحتباس الحراري الذي يهدد كوكبنا، ومجانية التعليم، الصحة، الدواء، وضد الخصخصة وتشريد العاملين، والإضرابات الواسعة لتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والثقافية، فضلاً عن تنامي دور الأحزاب الاشتراكية والشيوعية.

بمناسبة مرور 177 نعيد نشر هذا المقال عن البيان الشيوعي. 2

على انقاض المجتمع البورجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد يكون فيه تطور الفرد الحر هو الشرط لتطور المجموع الحر (البيان الشيوعي).

بهذه الفقرة ختم ماركس وانجلز البيان الشيوعي، والتي تؤكد جوهر البيان الشيوعي، الهادف إلى تحرير الناس من كل اشكال الظلم والاستلاب والاضطهاد الطبقي، واستكمال الحقوق السياسية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق الفرد الحر.

صدر البيان الشيوعي عام 1848م، وقام بصياغته ماركس وانجلز بتكليف من تنظيم الشيوعيين الذي كان عبارة عن جمعية اممية للعاملين، كان ذلك في مؤتمرها الذي عقدته في لندن في نوفمبر 1847م، وكان الهدف وضع برنامج مفصل للحزب يوضح رؤى وأهداف الشيوعيين، ثم نشره، علي أن يكون عمليا ونظريا في الوقت نفسه.

فقد صدر أول الأمر باللغة الألمانية، وبعد ذلك صدرت منه مئات الطبعات باللغتين الانجليزية والفرنسية والروسية والبولونية وترجم إلى بقية اللغات.

أشار ماركس وانجلز في مقدمة الطبعة الصادرة في 24/ يونيو/ 1872م، إلى أن (الظروف تبدلت منذ صدور البيان، الا أن المبادئ العامة الواردة في البيان لاتزال بالاجمال تحتفظ برونقها وصحتها ودقتها، وان كانت هناك فصول يجب ادخال بعض التعديل عليها، وأن البيان نفسه يوضح أن تطبيق المبادئ يتعلق دائما وفي كل مكان بالظروف والاوضاع التاريخية في وقت معين ، فلا يجب اذن أن تعليق اهمية كبرى علي التدابير الثورية المذكورة في نهاية الفصل الثاني، ونحن لو عمدنا الي انشاء هذا المقطع اليوم، لاختلف في اكثر من نقطة عن الأصل ، وقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه، نظرا للتطور الكبير الذي تم في الصناعة، والتجارب التي راكمتها الطبقة العاملة في تنظيمها الحزبي وتجارب كومونة باريس التي وضعت لأول مرة السلطة في ايدي الطبقة العاملة لمدة شهرين).

يواصل ماركس وانجلز: (ان نقد الأدب الاشتراكي الوارد في البيان غير كامل، اذ انه يتوقف عند عام 1847م ، ولذلك الملاحظات الواردة في الفصل الرابع عن موقف الشيوعيين من مختلف الاحزاب المعارضة، فهي وان كانت صحيحة اليوم من حيث مبادئها ، الا أنها اصبحت عتيقة من حيث تطبيقها ، اذ أن الحالة السياسية قد تغيرت بتمامها، وقضي التطور التاريخي علي معظم الأحزاب المذكورة فيها).

يواصل ماركس وانجلز (والبيان مع كل هذا، وثيقة تاريخية لانملك حق تعديلها، وربما ارفقنا احدي طبعاته بمقدمة تستطبع ملء الفراغ بين عام 1847م واليوم، اما الطبعة الحالية فقد فوجئنا بها مفاجأة، ولم يكن لدينا الوقت الكافي لكتابة مقدمة لها وافية بهذا الغرض).

3

هكذا عالج ماركس وانجلز بمنهجهما الديالكتيكي المتغيرات التي حدثت منذ صدور البيان الشيوعي وضرورة اخذ الخصائص والظروف والاوضاع المحلية في الاعتبار، وضرورة اعادة التحليل والدراسة بعد كل متغيرات تحدث، فالبرنامج ليس جامدا، بل يأخذ المتغيرات العالمية والمحلية في الاعتبار ويفقد جوانب قديمة ويكتسب جوانب جديدة.

كانت الفكرة الرئيسية في البيان الشيوعي كما أشار انجلز في مقدمة له في 28/ يونيو/ 1883م، بعد وفاة ماركس: أن الأوضاع الاقتصادية والبناء الاجتماعي الذي ينشأ منها، يؤلفان في كل عهد التاريخ السياسي والفكري لهذا العهد، ولذا فالتاريخ بأسره منذ زوال المشاعة البدائية وظهور الطبقات ، كان تاريخ الصراع بين الطبقات السائدة والمسودة في مختلف مراحل تطورها الاجتماعي ، ولكن هذا النضال وصل في المجتمع الرأسمالي الحالي الي مرحلة اصبحت فيها الطبقة العاملة (البروليتاريا) لاتستطيع ابدا أن تتحرر من نير الطبقة التي تستغلها ( البورجوازية) دون أن تحرر في الوقت نفسه، وإلى الابد المجتمع كله من الاستغلال والاضطهاد، ومن نضال الطبقات.

كما استعرض انجلز التحولات التي حدثت في نضال الطبقة العاملة في مقدمة طبعة اول مايو 1890م، وأشار الي صحة الشعار الذي رفعه البيان الشيوعي (ان تحرير الطبقة العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقة العاملة نفسها)، وليس بالنيابة عنها، كما اشار الي نمو وتقوية الروابط الأممية بين العمال منذ صدور شعار “ياعمال العالم اتحدوا”، وكذلك نضال العاملين في امريكا من اجل تخفيض ساعات العمل الي ثماني ساعات.

4 فما هي اهم الأفكار التي طرحها البيان الشيوعي؟

يشمل البيان الشيوعي المواضيع التالية: مقدمة، البورجوازيون والبروليتاريون، البروليتاريون والشيوعيون، موقف الشيوعيين من مختلف احزاب المعارضة.

يبدأ ماركس وانجلز البيان بتوضيح الآتي: هناك شبح يجول في اوربا هو شبح الشيوعية، وقد اتحدت كل قوى اوربا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه، بحيث اصبحت اى معارضة يتهمها خصومها القابضون علي زمام السلطة بالشيوعية، ومن كل ذلك استخلص ماركس وانجلز شيئين:

أ- أن الشيوعية اصبحت قوة معترفا بها من جميع الدول الاوربية.

ب- أن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم بأسره مفهوماتهم واهدافهم وميولهم، ويدحضوا شبح الشيوعية ببيان من الحزب، ولهذه الغاية اجتمع في لندن شيوعيون من مختلف القوميات ووضعوا البيان الشيوعي.

يبدأ ماركس وانجلز في البيان بتحليل اسلوب الإنتاج الرأسمالي الذي يختلف عن اساليب الإنتاج الاستغلالية السابقة (العبودي، الاقطاعي) بتوضيح: أن البورجوازية لاتعيش الا اذا ادخلت تغييرات ثورية مستمرة علي أدوات العمل، أي علي اسلوب الإنتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها.

ويلفت ماركس وانجلز النظر منذ وقت مبكر الي ظاهرة العولمة أو سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي علي نطاق عالمي بتوضيح: أن البورجوازية تغزو الكرة الأرضية بأسرها بدافع الحاجة الدائمة الي اسواق جديدة، فينبغي لها أن تدخل وتتغلغل في كل مكان وتوطد دعائمها في كل مكان ، وتخلق وسائل للمواصلة في كل مكان ، وباستثمار السوق العالمية ، تصبغ البورجوازية الإنتاج والاستهلاك في كل الاقطار بصبغة كونية. وتنزع من الصناعية اساسها الوطني المحلي.فتنقرض الصناعات العتيقة أو تصبح علي وشك الانقراض وتخلي مكانها لصناعات جديدة يصبح ادخالها وتعميمها مسألة حيوية لكل الامم المتمدنة.

هذا ويؤكد تطور التشكيلة الرأسمالية بعد175  عاما صحة تحليل البيان الشيوعي، فقد جددت الرأسمالية نفسها باستمرار وخاصة بعد الثورة العلمية التقانية والتي طورت الإنتاج بشكل لامثيل له في السابق من ناحية الكم الكيف، وتم تدويل عملية الإنتاج بفضل نشاط الشركات متعدية الجنسية، علي سبيل المثال: اصبحت اجزاء العربة المارسيدس تصنع في اكثر من دولة، وظهر مايسمي باضراب العاملين في شركة واحدة من جنسيات وبلدان مختلفة، اضافة للعمالة الاجنبية مما يؤكد تدويل عملية الانتاج، وضرورة تضامن العاملين علي نطاق عالمي، فليس للعمال وطن كما يؤكد البيان الشيوعي، لأن عملية الانتاج في الراسمالية اصبحت كونية،   وتم تحول في تركيبة الطبقة العاملة التي اصبحت تضم العاملين بايديهم وادمغتهم والذين يتعرضون للاستغلال الرأسمالي وامتصاص فائض القيمة منهم، كما تعمقت تناقضات الرأسمالية والتي اهمها: التناقض بين الطابع الاجتماعي للانتاج والملكية الفردية لوسائل الانتاج بواسطة الشركات متعددة الجنسية، كما اصبح مركز العالم الرأسمالي يصدر لبلدان العالم الثالث الصناعات الملوثة للبيئة ورخيصة الأيدي العاملة، اضافة لنهب فائض القيمة النسبي والمطلق من العاملين،كما ازداد تركز الثروة وتعمقت مشكلة البطالة وتصاعدت وتائر تدمير البيئة في الرأسمالية المعاصرة.وتأكد شعار: ياعمال العالم اتحدوا، الذي طوره لينين بعد دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكارات وبرز نهب شعوب المستعمرات كمصدر من مصادر ارباح الشركات الرأسمالية، بشعار: ياعمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا.

كما يؤكد تطور الرأسمالية المعاصرة صحة ما أشار اليه البيان الشيوعي وهو:أن الشرط الاساسي للوجود والسيادة بالنسبة للطبقة البورجوازية هو تكديس الثروة في ايدي بعض الافراد وتكوين رأس المال وانمائه، وشرط وجود المال هو العمل المأجور، والعمل المأجور يرتكز بصورة مطلقة علي تزاحم العمال الذين يتجمعون في اتحادات ثورية للصراع اجل حقوقهم السياسية والنقابية وتحسين احوالهم المعيشية والثقافية.

ويختتم البيان الشيوعي هذا الجزء بقوله: ان البورجوازية تنتج قبل كل شئ حفاري قبرها،وأن التشكيلة الرأسمالية القائمة علي استغلال العاملين ونهب الشعوب مرحلة عابرة في التاريخ، وسوف يخرج من احشائها المجتمع الاشتراكي الذي يزيل استغلال الإنسان للإنسان والاستلاب، تحرر الطبقة العاملة نفسها والمجتمع بأسره من كل أشكال الاضطهاد والاستغلال.

5

أما الجزء الثاني من البيان الشيوعي فيوضح المبادئ العامة لعلاقة الشيوعيين بالطبقة العاملة، ويشير الي أن الشيوعيين لايؤلفون حزبا خاصا معارضا لأحزاب العمال الأخري، وليست لديهم مصالح تفصلهم عن مجموع الطبقة العاملة، وهم لا يناضلون بالنيابة عنها ولا يريدون صوغها وحشرها في مبادئ خاصة.

وأن الشيوعيين لا يتميزون عن بقية احزاب العمال الا في نقطتين هما:

أ- في مختلف النضالات الوطنية التي يقوم بها العاملون يضع الشيوعيون في المقدمة المصالح المستقلة عن الجنسية والعامة لمجموع العاملين.

ب- في مختلف مراحل النضال بين العاملين والرأسماليين يمثل الشيوعيون دائما، وفي كل مكان المصالح العامة للحركة بكاملها.

بالتالي، فان الشيوعيين من الوجهة النظرية يمتازون عن بقية العاملين بادراك واضح لظروف حركة العاملين وسيرها واهدافها العامة، وأن هدف الشوعيين المباشر هو الهدف نفسه الذي ترمي اليه احزاب العمال ، اى تنظيم العاملين في طبقة والاستيلاء علي السلطة السياسية والغاء الملكية البورجوازية التي تقوم علي استغلال واستنزاف وافقار العاملين.وأن الشيوعية كما يوضح البيان الشيوعي: (لاتسلب احدا القدرة علي تملك منتجات اجتماعية، ولكنها لاتنزع سوى القدرة علي استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملك).

ويدفع البيان التهم البدائية والمتخلفة عن أن الشيوعية تريد هدم العائلة واشاعة المرأة والملكية الشخصية الناتجة عن عمل وابداع الانسان، والغاء الوطن.

ويشير الي أن ازالة استغلال الانسان للانسان يمحو معه كل استغلال للنساء واشاعة لهن في البغاء، كما هو جاري الآن في الغرب الرأسمالي، حيث اصبحت الان التجارة في الجنس من النشاطات المدرة لارباح هائلة، ويخلق العائلة المتحررة من الخوف، فالرأسمالية باسلوب انتاجها الذي ينتج ويعيد انتاج الفقر هو الذي يهدم العائلة وينسف استقرارها، كما يقوى  زوال الاستغلال الروبط الحقيقية لشعوب وقبائل الأرض لتتعارف ولتتبادل منافعها وثقافاتها، بدلا من اسلوب الرأسمالي الحالي الذي يهدف الي اشاعة ثقافة الرأسمالية التي تقوم علي الأنانية ومحو الهوية والثقافة الوطنية للشعوب،والغاء الحدود الوطنية من خلال نشاط الشركات عابرة القارات، فاسلوب الإنتاج الرأسمالي بطبيعته هو الذي جعل عملية الانتاج كونية، وقوى الروابط الاممية بين العاملين والتضامن العالمي ضد الاستغلال الرأسمالي الذي اصبح كونيا، كما يؤكد تطور الرأسمالية في مرحلة العولمة الحالية.

ويختتم البيان الشيوعي هذا الجزء: بأنه علي انقاض المجتمع البورجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد يكون فيه تطور الفرد الحر هو الشرط لتطور المجموع الحر.

تلك هي الأفكار والمبادئ العامة التي اوضحها البيان والتي تابعها ماركس وانجلز بالدراسة والبحث العلمي الشاق كما في مؤلف ماركس وانجلز: الايديولوجية الالمانية، والتي تم فيه وضع الاكتشاف الاساسي للماركسية: الفهم المادي للتاريخ والذي استخدمه ماركس وانجلز خيطا هاديا ومرشدا وبمنهجه الديالكتيكي في مؤلفه:رأس المال والذي اكتشف فيه نظرية فائض القيمة التي اوضحت جوهر الإنتاج الرأسمالي، وبذلك تحولت الاشتراكية الي علم ( الماركسية)، والتي شكلت الأساس النظري للعاملين في نضالهم من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وفي الذكرى الـ (177) لصدور البيان الشيوعي، ما أحوجنا للقراءة الناقدة للبيان الشيوعي والذي مازالت المبادئ العامة التي طرحها سليمة، وخاصة في ظل الواقع البشع الذي كرسته الرأسمالية في مرحلة العولمة الحالية.

الوسومأحزاب العمال الاتحاد الأوروبي البيان الشيوعي الصين النظرية الماركسية الولايات المتحدة تاج السر عثمان بابو روسيا ماركس وانجلز

مقالات مشابهة

  • «دور المؤسسات التعليمية في تعزيز روح الانتماء والوطنية».. ندوة بتعليم المنوفية
  • الذكرى الـ102 لميلاد محمد الموجي.. رحلة مهندس الغناء الأصيل
  • الحزب الشيوعي السوداني: وحدة السودان وسلامة أراضيه واجب الساعة ولا شرعية لحكومات نتجت عن الانقلاب وحرب ابريل 2023
  • «الشيوعي السوداني» يحذر من تبعات محاولات طرفي الحرب لتشكيل حكومات
  • شرطة دبي تضبط 9 متسولين في اليوم الأول من رمضان
  • عبد الله: ودعنا اليوم رفيقنا علي عويدات الذي تشهد له الساحات والمواقف
  • التنسيقية تلتقي وفد دائرة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي الصيني
  • بمناسبة مرور (١٧٧) عاما على صدور البيان الشيوعي
  • امارة كرنقو انقلو تحتفل بانتصارات القوات المسلحة و الذكرى الخامسة لتأسيس
  • بمناسبة مرور «177» عاماً على صدور البيان الشيوعي