يحفل تاريخ اليمن المعاصر بسلسلة طويلة من التهميش والاضطهاد والإقصاء للحلفاء والخصوم وفئات اجتماعية وقطاعات واسعة من الشعب: الجنوب سياسياً، الإسماعيلية والبهائية واليهود دينياً، المهمشون من ذوي البشرة السوداء اجتماعياً وثقافياً، والحوثيون سياسياً. ولكن لماذا تحولت قضية صعدة من مظلومية سياسية إلى مظلومية دينية؟

في أعقاب حروب نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الستة في صعدة (2004-2010)، تبنّى الحوثيون خطاب المظلومية بشكل نهائي.

فبعد قيام ثورة شباط/ فبراير 2011، وتشكيل مجلس حوار وطني يضم كل الأطراف والجماعات والأحزاب من أجل معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، كانت مظلومية صعدة قد تحولت إلى هوية جديدة لجماعة الحوثي. ولكن هذه المظلومية لم تتحول إلى هوية وطنية، إلا في ذهن من يدّعي وجود تمييز عقائدي، بل انقلبت على جميع الأطراف السياسية في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2014.

المتتبع لرموز جماعة الحوثي، يجد خطاب المظلومية في ملازم ومحاضرات حسين الحوثي، قائماً من دون تلك الحروب الستة، فهو يقوم على محنة الحسين في كربلاء، بمعنى أن محنتها الدينية لا تحتاج إلى فاعل سياسي؛ فقد وقعت قبل قرون عديدة في معركة غريبة وأرض بعيدة عن اليمن. أما حروب النظام وتهميشه السياسي لصعدة، فلا تقل سوءاً عن بقية المظلوميات في اليمن (تكفير الحزب الاشتراكي واجتياح الجنوب عام 1994 مثلاً)، وذلك ليس تبريراً لممارسات نظام صالح، بل لأن الحديث اليوم عن مزاعم اضطهاد الزيدية والهاشميين، إن لم يكن اضطهاداً سياسياً، فهو ليس سوى نوع من التضليل السياسي والأخلاقي والإعلامي في واقع انقلاب جماعة الحوثي على الدولة.

حركة الشباب المؤمن 

بعد عودة النفوذ القبلي في أواخر سبعينيات القرن الماضي في اليمن، وجدت الثورة الإسلامية الإيرانية في ما لحقها من اضطرابات إقليمية، أرضيةً ملائمةً لرعاية الزيدية السياسية (مثل الكثير من الحركات الشيعية السياسية في المنطقة العربية)، بعد الإطاحة بدولتهم، الإمامة الدينية، في عام 1962. وظهرت في بداية الثمانينيات حركة فكرية سياسية منشقة على غرار الأيديولوجيا الإيرانية، هي حركة "الشباب المؤمن"، التي تنادي بإعادة تشكيل الهوية الثقافية والروحية في الوسط الزيدي. وترافق ذلك مع تحركات خارجية لقادة الحركة الحوثية بين إيران ولبنان. 

غير أن صعود هذه الحركة الدينية في مدينة صعدة التاريخية، بالقرب من مركز السلفيين في دماج، أذن بخلافات جديدة في ظل تغيُّر تحالفات الرئيس صالح بعد تحقيق الوحدة بين الشطرين (1990-1994). وبعد تأييد قادة الحركة الحوثية إقليمياً، تبنت الحركة الزيدية موقفاً أكثر ميليشياويةً من صالح، وأكثر انتقاماً من الغرب وحلفائه كما توضح صياغة الشعار: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام".

منذ التسعينيات على الأقل، روّج الحوثيون في الوسط الغربي ومراكز الأبحاث تحديداً مصطلح marginalized group، أي الفئات المهمّشة، ومدلول هذا المصطلح يجعل هذه الجماعة مظلومةً مجتمعياً بناءً على عرقيتها، وهو ما يجعل التعاطف معها أولويةً لدى موجّهي الرأي العام وصانعي السياسات. فإن كان التهميش يحدث عندما يُستبَعد الناس على أساس العرق ونوع الجنس والطبقة الاجتماعية، فضلاً عن التوزيع غير العادل اجتماعياً واقتصادياً والموارد الجسدية والنفسية، فمن المهم التذكير هنا، أن "المظلوم" سياسياً في ما مضى، أي الحوثي، قد انتقل من مركز الضحية إلى مركز الجلاد، وأصبح اليوم في مركز السلطة يكرّس المظلوميات القديمة على أسس عرقية ودينية واجتماعية ويصنع مظلوميات جديدةً تكاد لا تُحصى.

من التمييز العقائدي إلى التمييز العنصري 

في واقع الأمر، يكشف تصدُّر الخطاب الديني عن أزمة في الهوية الوطنية وغياب للبرنامج السياسي واستعلاء عقائدي مُبطّن، ففي مشاركة جماعة الحوثي (أنصار الله) في الحوار الوطني، وتحريض قائد الجماعة عبد الملك الحوثي على إسقاط الحكومة بعد ارتفاع جرعة النفط، لم تلجأ جماعته إلى العمل السياسي، لممارسة حقها المدني في المعارضة والاحتجاج والمطالبة بتعويضات عادلة وجبر الضرر، شأنها شأن بقية المظلوميات، بل كانت تقدّم نفسها كجماعة دينية لا كحزب سياسي، ولذا تعاملت مع الدولة بذهنية إمامية، فانقلبت على الحوار الوطني وجميع الأطراف اليمنية، بمساعدة من نظام صالح الذي شنّ حروباً ضدها، واضطهدها، ومن ثم أقامت حكمها على التمييز العقائدي الذي يخوّلها الحكم، لتنقلب على شريكها الرئيس السابق علي صالح لاحقاً، وتقتله في آخر المطاف. أما الخطاب الذي دشّنته الجماعة في بداية حكمها، فبات اليوم يستند إلى أجهزة القمع أكثر بكثير من استناده إلى الجماهير، فلا شرعية دستورية ولا شرعية سياسية، وإنما شرعية دينية تكتسبها لشروط بيولوجية كما تعتقد.

ليس الاستبداد والطغيان والنظُم الديكتاتورية أشياء عارضةً على سلطة الحق الإلهي، إذ تمنح الجماعة الحوثية نفسها تمييزاً عقائدياً أسوأ من التمييز العنصري الذي تمارسه تجاه المواطنين، كونه نتاجاً طبيعياً وحتمياً لخطاب التأسيس التمييزي باعتبار أن حكمها تفويض إلهي، يشبه في جانب منه القدر الغامض الذي استنجد به موسوليني في شعاراته الأولى "الفاشستية هي قدر الأمة الإيطالية". وعليه، فإن ممارسات السلطة ليست ممارسات شخصيةً مثل أيّ دكتاتور آخر طالما أنّها تعبّر عن "المسيرة القرآنية". وفي مقابل هذه المسيرة القرآنية، تم تصدير حسين الحوثي بوصفه الـ"قرآن الناطق" كما تعلن الجماعة في شعاراتها، حيث تهيمن تعاليم حسين بدر الدين بصرياً على شوارع صنعاء بشعارات تعكس التمييز العقائدي الذي تمارسه على جميع اليمنيين من مختلف الطوائف.

بعد تأييد قادة الحركة الحوثية إقليمياً، تبنت الحركة الزيدية موقفاً أكثر ميليشياويةً من صالح، وأكثر انتقاماً من الغرب وحلفائه كما توضح صياغة الشعار: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"

ثنائية الضحية والجلاد

منذ إعلان البهائيين عن وجودهم لأول مرة في مؤتمر في صنعاء، روّج الحوثيون لهامش متخيل من المشاركة الاجتماعية والحرية الدينية في أثناء فترة بقاء المبعوث الأممي في صنعاء، وسرعان ما قامت سلطة الحوثي في آب/ أغسطس 2016، باعتقال 67 شخصاً بينهم بعض النساء والأطفال، واعتقلت عدداً منهم بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وفي أيلول/ سبتمبر 2018، اعتقلت عدداً من البهائيين بتهمة الردة، كما قام مسلّحون من جماعة الحوثي في أيار/ مايو 2023، باقتحام الاجتماع السنوي السلمي ‎للبهائيين واعتقلوا 17 شخصاً على الأقل بينهم خمس نساء. كما داهم المسلحون منازل أخرى. 

ومنذ ذلك الحين، أُفرِج عن 11 شخصاً في أعقاب ضغوط دولية، بينما لا يزال جهاز الأمن والمخابرات الحوثي يحتجز ستة أشخاص تعسفاً، ويحرمهم من الحق في الحصول على المشورة القانونية. وكذلك نكلت وطردت جماعة الحوثي بقايا اليهود في اليمن إلى إسرائيل، بعد أن كانت قد صادرت ممتلكاتهم وهجرتهم قسراً من مدينة صعدة، ولا يزال البعض يقبع في أجهزة الأمن والمخابرات منذ العام 2015، مثل ليبي سالم موسى مرحبي، والذي اتهمته الجماعة بتهريب مخطوطة أثرية وتمت محاكمته في محكمة الأموال العامة على إثر تلك القضية، وبالطبع فإن المحكمة غير مختصة بتلك القضايا، وبرغم ذلك فقد أصدرت حكماً قضائياً نهائياً، وتوجيهات صريحةً بالإفراج عنه نهاية العام 2019، لكنه لم يُنفَّذ حتى الآن. بجانب ذلك، منعت المكارمة (الإسماعيليين) من الظهور على طريقة جدّهم الإمام يحيى حميد الدين، الذي سبق أن أجبرهم بالإكراه على اعتناق الإسلام كما يروي أشدّ المؤرخين تزلفاً للإمام "نزيه العظم" في عشرينيات القرن الماضي.

وبرغم انتهاكات جماعة الحوثي المستمرة، وتصدير مظلومية متخيلة عن نفسها، فإن الأفظع من ذلك، هو أن سلطة الحوثيين تدفع أنصارها إلى سلوك مماثل لفكر الجماعة، وهو ما عبّر عنه الممثل الرسمي للبهائيين في اليمن في تغريدة له إذ قال: "أنا في غاية الاستغراب ونحن نرى الحوثيين في ظل عمليات السلام، يستخدمون خطاباً مناقضاً وذلك بتوجيه مباشر لمناصريهم بالكراهية والقتل للبهائيين"، ففي ظل غياب قانون يحمي هذه الأقليات وإعلام يغطي مظلوميتهم، تستمر سلطة الحوثي بخلق المزيد من المظلوميات ودفع الناس إلى جحيم الكراهية والأحقاد.

المصدر: رصيف22 

المصدر: مأرب برس

كلمات دلالية: جماعة الحوثی فی الیمن

إقرأ أيضاً:

مساعد وزير الخارجية الأسبق: الرئيس السيسي أعاد لمصر مكانتها وقوتها مرة أخرى (حوار)

قال السفير رخا أحمد حسن، مساعد وزير الخارجية الأسبق، إن الرئيس عبدالفتاح السيسى، عقب توليه مقاليد الحكم، بدأ فى السعى من أجل استعادة دور مصر الإقليمى وبداية استرداد عضويتنا فى الاتحاد الأفريقى، وتم دعوة الرئيس لحضور القمة الأفريقية فى غينيا، كما أن بعض دول الاتحاد الأوروبى كانت أوقفت بعض المساعدات، ولكن بالدبلوماسية الرئاسية استطعنا استرجاعها. وأوضح «حسن»، خلال حواره مع «الوطن»، أن مصر دولة كبيرة ولها دورها الإقليمى فى الاستقرار وفى الأمن، وأن الإخوان لم يدركوا معنى كلمة وطن.

11 عاماً مرت على ثورة 30 يونيو.. كيف ترى وضع الجماعة بالخارج؟

- الجماعة الإرهابية انتهت تنظيمياً فى مصر، وفى الخارج ضعفت وظهر وجهها الحقيقى الداعم للإرهاب والتطرف، فالجماعة تعانى فى الخارج من سوء التنظيم على مستوى بعض الجمعيات والمؤسسات الموالية لها فى الخارج، والتى لم تعد لها القدرة على رعاية عناصر التنظيم، كذلك هناك خلافات كبرى بين عناصر الخارج، نظراً للأكاذيب والادعاءات التى يروّجها التنظيم، كذلك تخلى القيادات عن عناصر التنظيم والشباب، وانشغالهم بالصراعات على زعامة التنظيم.

ما الأخطاء الأكثر كارثية فى حكم الجماعة؟

- ربما كان الخطأ الأكبر يتمثل فى اعتبار أنفسهم جماعة متميزة عن الآخرين، وأذكر أن أحد قياداتهم قال فى حوار صحفى إن الشخص الإخوانى بمائة من الآخرين، وهذا غرور ليس له أساس، كما أثبتوا عدم خبرتهم بالحكم، وعدم إدراكهم للمخاطر جراء القرارات غير المدروسة، مثل قرار التعديل الدستورى الذى أعطى حصانة لرئيس الجمهورية حتى لا يستطيع أحد معارضة قراراته، وهو أمر يصلح لحكم جماعة لها أهداف.

هل كانت خيانة الوطن أكثر ما يميز الجماعة الإرهابية؟

- الكارثة الأكبر هى عدم إدراكهم لكلمة وطن، وهو ما قاله مرشدهم مهدى عاكف فى حديث له مع إحدى الصحف المصرية: «يمكن لأى مسلم أن يحكم مصر من أى جنسية إسلامية فهى بلد إسلامى ودى أرض الله».

أيضاً استضافتهم قتلة الرئيس الراحل محمد أنور السادات متصدرين الصفوف الأولى فى استاد القاهرة خلال احتفالية حرب أكتوبر كانت خطأ فادحاً وبداية التفكير فى كيفية التخلص، من هؤلاء الذين ارتدوا بمصر للخلف.

حدثنا عن أخطاء الجماعة فى الشئون الخارجية؟

- كان الخطأ الأبرز هو الاجتماع السرى بخصوص مياه نهر النيل والذى تمت إذاعته على الهواء وتسبب فى تفاقم المشكلات الخاصة بملف مياه النيل، كذلك اعتبار الوطن حفنة من التراب، وأن الجماعة أهم من الوطن ذاته.

كيف ترى الدبلوماسية الرئاسية بعد 30 يونيو؟

- مصر دولة كبيرة ولها دورها الإقليمى المؤثر فى الاستقرار وفى الأمن وتحقيق السلام على المستويين العربى والأفريقى، ولها دور فى التعاون الإسلامى، ما يجعل رأيها مسموعاً دائماً، والدليل أنه على الرغم من أن روسيا تصنف جماعة الإخوان جماعة إرهابية حتى قبل ثورة 30 يونيو، إلا أنها استضافت مرسى باعتباره رئيس مصر وليس لاعتبارات تخص الجماعة، وخلال فترة حكم الإخوان بدأ العالم ينقسم، ولكن الأمر لم يستمر طويلاً، خصوصاً بعد تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مقاليد الحكم، إذ بدأ فى السعى من أجل استعادة عضويتنا فى الاتحاد الأفريقى وتمت دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لحضور القمة الأفريقية فى غينيا، أيضاً بعض الدول الأوروبية كانت أوقفت بعض المساعدات، ولكن بالدبلوماسية الرئاسية استطعنا استرجاعها، وخلال فترة قصيرة كان الرئيس السيسى أجرى جولات فى معظم دول العالم، سواء فى أوروبا أو فى آسيا أو فى دول أفريقية، ما أعاد لمصر مكانتها وقوتها مرة أخرى بين دول العالم.

فى شئون الحكم والسياسة وعلى الرغم من أن العديد من المفكرين والكُتاب المدنيين فى مصر قدموا كتيراً من الآراء ومن الأفكار الإيجابية، إلا أن فكرهم بأنهم أرقى من الجميع جعلهم يصمون آذانهم عن كل المقترحات، وهناك خطأ آخر يخص عدم احترام مؤسسات الدولة، وعدم احترام الجيش واعتبار أن لهم ميليشياتهم وتنظيماتهم الخاصة، وهو ما حاول خيرت الشاطر تنفيذه بالفعل.

 

 

 

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: «انفراجة مهمة» بمفاوضات تبادل الأسرى في اليمن
  • أستاذ علوم سياسية: خطاب جماعة الإخوان لم يعد مقبولا في الداخل والخارج
  • روسيا والنمسا وكندا تحظر أنشطة جماعة الإخوان.. والخليج يضع قادتها على «القائمة السوداء»
  • مساعد وزير الخارجية الأسبق: الرئيس السيسي أعاد لمصر مكانتها وقوتها مرة أخرى (حوار)
  • الانقسامات والفضائح تلاحق جماعة الإخوان.. والقيادات تتبادل الاتهامات
  • عمرو فاروق يكتب: أبناء «البنا» ونبوءة الشتات
  • الكشف عن طبيعة الدور الذي تلعبه الصين في اليمن وما حقيقة تواصلها مع جماعة الحوثي؟
  • البنك المركزي بعدن يبدأ معركة الدعم للشركات الدوائية في اليمن ويحاصر الفروع الواقعة تحت سيطرة مليشيا الحوثي
  • الإعدام شنقا لـ9 متهمين والمؤبد لـ3 آخرين بخلية العجوزة
  • نازحو اليمن…صيفٌ مرير بعد شتاءٍ قاسٍ! (تقرير خاص)