يرتبط مفهوم التقدم الاجتماعي بالتغير المجتمعي الذي يهدف إلى الاتجاهات الإيجابية التي تُحقِّق الأهداف الوطنية، فهو تغيَّر موجَّه نحو النفع والاستقرار في كافة مناحي الحياة. إنه تقدُّم متوازن يعبر ضمن مجموعة من التحولات التدريجية الصاعدة الهادفة إلى تحسين حياة الأفراد للوصول بهم إلى ما يُسمى بالرفاه المجتمعي، وفق محددات ثقافية واجتماعية معينة غايتها الصيرورة التراكمية التدريجية نحو تنمية مجتمعية مستدامة، قادرة على الصمود في مواجهة التحديات التي تعترض تلك التنمية.
إن التقدم الاجتماعي باعتباره قائما على فكر التحسين وموجها نحو الرفاه المجتمعي، يتحقق ضمن قيم المجتمع وأفكاره، وقدرته على المضي وفق مضامين النسق الاجتماعي الذي يتشكَّل منه في تنوُّعه وتفرُّد هُويته، وإبداعاته وإمكاناته البشرية والطبيعية، وبالتالي آفاق تحققه المجتمعي وما يتميَّز به من تطوُّر حضاري يمكن أن يُسهم في نموه المتسارع، بل وكذلك تأثيره على المستوى الإقليمي؛ فالتقدُّم الاجتماعي هنا قائم على تلك الإمكانات التي يمتلكها المجتمع، وكيفية الاستفادة منها في ضمان تحقيق ذلك.
ولعل ما تقوم به الدولة من تطورات متسارعة خلال السنوات الأخيرة في كافة القطاعات خاصة الاقتصادية والاجتماعية، يجعل من فكر التحسين وتحقيق الرفاه إمكان يتحقَّق وفق مرتكزات التقدم الاجتماعي؛ فكل تلك الجهود التي أحدثت مجموعة من التغييرات على مستوى الهياكل الإدارية والمستويين القانوني والتشريعي، والمشروعات التنموية، والاستثمارات الضخمة، وبل وحتى الشراكات الإقليمية والدولية، وكذلك تطوير الإمكانات البشرية والطبيعية وتنميتها، وتحسين استغلال الطاقات المتاحة، إضافة إلى تحقيق مؤشرات أكبر في الحرية والمساواة والعدالة المجتمعية، ذلك كله يُسهم مباشرة في التقدم الاجتماعي، ويطوِّر من إمكانات تحسين دخل أفراد المجتمع وتيسير أنماط حياتهم وبالتالي تحقيق الرفاه.
يخبرنا تقرير مؤشر التقدم الاجتماعي لعام 2024، أن التقدُّم الاجتماعي ينخفض بشكل عام في العالم منذ عام 2022، فـ (في المجموع، شهدت 61 دولة انخفاضا كبيرا في تقدمها الاجتماعي في عام 2023، و77 دولة أخرى ركودا عاما، بينما شهدت 32 دولة فقط تقدما حقيقيا)، وعليه فإن المؤشر العام يشير إلى أن العالم يواجه ركودا أو تراجعا في مؤشرات التقدم الاجتماعي، سواء أكان في الصحة، أو التعليم، أو الوصول إلى المعلومات، أو الحقوق والحريات أو غير ذلك من المؤشرات.
إن مؤشر التقدم الاجتماعي لعام 2024، يتكوَّن من 12 مكونا أو ركيزة، مقسَّمة إلى ثلاث مجالات أساسية، و57 مؤشرا لقياس الأداء الاجتماعي لـ(170) دولة، وقد تم إضافة 26 دولة ضمن بعض المؤشرات العامة، في محاولة لفهم (كيفية عيش الناس في جميع أنحاء العالم، ومن الدول التي تخلَّفت عن الركب، وكيفية تسريع التقدُّم)، ولهذا فإن تقرير المؤشر يجعل من عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي تواجهه بعض الدول مثل فلسطين في مواجهة القوى الغاشمة الإسرائيلية وأوكرانيا في مواجهتها لروسيا والتوترات بين الولايات المتحدة والصين، وغيرها، أحد أهم الأسباب التي لا تؤثر فقط على هذه الدول بل سينسحب ذلك على العديد من الدول الإقليمية التي تتأثَّر بتلك الصراعات.
ولهذا فإن التقدُّم الاجتماعي للدول يرتبط بالاستقرار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص، وقدرتها على حماية مصالحها المجتمعية، وبالتالي تحسين حياة الأفراد المرتبطة بالتعليم والصحة والأمن الغذائي والتنمية الثقافية وحماية حقوق الأفراد وغير ذلك، الأمر الذي يجعل من تحسين الأداء في تلك القطاعات التنموية كلها، ينعكس على قدرة المجتمع وإمكانات الإبداع والابتكار فيه، مما يسهِم في تنمية الأداء الاجتماعي وتحقيق رفاه مستدام للأفراد.
واللافت أن مؤشر التقدُّم الاجتماعي لعام 2024 يقوم على تحليل العلاقة بين التنمية في القطاعات المختلقة والتنمية الاجتماعية من خلال الأثر الحقيقي والنتائج التي تظهر في حياة الأفراد في المجتمع، فالمهم هنا هي النتائج وليس المدخلات، ففي قياس أثر الصحة والتعليم مثلا يتم قياس أثرهما على صحة الأفراد وقياس مؤشرات التعليم نفسه، لا كم أنفقت الدول على هذه القطاعات؛ إذ يتم التركيز على النتائج فقط لتصميم نماذج تساعد على تسريع التقدُّم وفق مقتضيات المجتمع وقدراته من ناحية، وإمكاناته البشرية والطبيعية من ناحية أخرى، والسياسات التي تقوم بها الدول لتحقيق ذلك التقدم وما تسهم به القطاعات الخاصة والمدنية من ناحية ثالثة.
يستعرض تقرير المؤشر التقدم الاجتماعي بوصفه قدرة المجتمع على تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية لمواطنيه، و(إنشاء اللبنات الأساسية التي تسمح للمواطنين والمجتمعات بتحسين نوعية حياتهم والحفاظ عليها، وتهيئة الظروف لجميع الأفراد للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة) «حسب تعبير التقرير»، ولهذا فإنه يشكِّل الأساس الذي يمكِّن أفراد المجتمع من تحديد أولوياته وإمكانات الوصول إلى أفضل النتائج التي تحقِّق أهداف المجتمع، وتُسهِم في تحسين آليات الوصول والتعاون والتشارك بين القطاعات المختلفة، من أجل تحقيق الغايات الوطنية المشتركة.
لقد احتلت الدنمارك المرتبة الأولى في مؤشر التقدم الاجتماعي لعام 2024، ثم النرويج وبعدها فينلندا، ثم آيسلندا وبعدها السويد، وجاءت عُمان في المرتبة 68 من بين 170 دولة حول العالم، محتلة بذلك المرتبة الرابعة عربيا بعد دولة الكويت، والإمارات، وقطر، وهي مرتبة تحتاج إلى التعزيز والدفع على الرغم من أنها تحرز تقدما بناء على المعطيات العامة للتقرير، إلاَّ أن الإمكانات التي تقدمها الدولة، والجهود التي تبذلها المؤسسات في كافة القطاعات، وما يحظى به أبناء المجتمع من تمكين ودعم، يجعل من متوقع نتائج التقدم الاجتماعي وأثره يسير بشكل أسرع نحو النمو والتطوير، الأمر الذي يحتاج إلى تحليل وتقييم على المستوى المحلي، وإيجاد نماذج أكثر قدرة على تحقيق تسريع أكبر لذلك التقدُّم.
فلتعزيز التقدم الاجتماعي وتمكين قدرته، يجب قياسه بشكل صارم وشامل من حيث الأبعاد المختلفة ذات الأثر المباشر، خاصة في القطاعات الصحية والتعليمية والبيئية والثقافية، ذلك لأن أثرها يترتب عليه قياس النجاح الذي يحرزه الأفراد في تحسين أنماط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي تأثير ذلك على تحقيق رفاههم الاجتماعي، وقدرتهم على التقدُّم والتفاعل الإيجابي والمشاركة والتعاون في تحقيق الأهداف الوطنية المشتركة؛ فالتقدم الاجتماعي هنا لا يعتمد على التنمية الاقتصادية وقياس نماذج دخل الفرد وحسب، بل هو نتيجة للتنمية الشاملة لكافة القطاعات التي تكفل حقوق الأفراد كلها وبالتالي ضمان مواطنتهم الإيجابية.
إن التقدُّم الاجتماعي يعتمد على الأثر الإيجابي، ونمو الإنتاجية على المدى البعيد المستدام، والذي يتضمن فهما واضحا للتحديات المجتمعية والقدرة على مواجهتها بل وتحويلها إلى فرص جديدة يمكن الاستفادة منها في تحقيق ذلك الأثر، فكلما قدَّم المجتمع فهما لتلك التحديات، استطاع التغلُّب عليها دون أن يتسبب ذلك في توقف أو ركود، فالغاية الأساسية هي النمو المتصاعد، والتطوُّر وفق المعطيات الحالية والتطلعات المستقبلية، إضافة إلى أهمية الربط بين فعل التقدُّم الاجتماعي بوصفه إحدى أهم الغايات المجتمعية، والتطوُّر والتنمية في كافة القطاعات، وإمكانات المؤسسات والأفراد على المشاركة الفاعلة في الدفع بذلك التطوُّر نحو الأمام لتحقيق الأهداف.
ولهذا فإن تحفيز التقدم الاجتماعي يعتمد علينا جميعا، وعلى قدرتنا في المشاركة الفاعلة والإيجابية التي تركز على الأثر والنتيجة، فما تقدمه الدولة من دعم ومشروعات تنموية وتمكين في مجالات العلوم مثلا، لن يوجِد علماء ما لم نكن نحن متجهين بأهدافنا إلى تحقيق ذلك، وما لم نكن منتهزين لكل الفرص التي تقدمها الدولة لنكن ما نريد وما نطمح، وما يريده الوطن لنا.
إن التقدُّم الاجتماعي أثرٌ ونتيجة لكل ما يُقدَّم لأفراد المجتمع، وهو الكشاف الذي من خلاله توجّه الدولة جهودها ودعمها لتحقيقه، لذا فإن علينا جميعا العمل كلٌ في مجاله، لنحقّق الأثر المنشود، والنتيجة التي بها تكون بلادنا في مصاف الدول المتقدمة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: م الاجتماعی لعام 2024 کافة القطاعات تحقیق ذلک یجعل من فی کافة
إقرأ أيضاً:
4 أهداف لمشروع قانون تنظيم عمل الاتحادات الطلابية
مشروع قانون “تنظيم عمل الاتحادات الطلابية في المدارس” تم التقدم به خلال الأيام الماضية بهدف الاستثمار في الطاقات الشبابية في إصلاح وتنمية المجتمع، وتدريب الطلاب على القيادة.
مشروع القانون تم التقدم به من النائب أحمد فتحي، وكيل لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين.
وأكد النائب أن مشروع القانون يهدف لتدريب الطلاب على القيادة وبناء شخصية الطالب المصري وتشكيل وعيه تشكيلًا صحيحًا يؤثر على مستقبل الشباب والمجتمع بالنفع.
أهداف قانون "تنظيم عمل الاتحادات الطلابيةعمل الاتحادات تحت مظلة قانونية مستقرة عوضًا عن اللوائح والقرارات القابلة للتغيير من وقت لآخر والتي أدت لضعف دور الاتحادات الطلابية وعدم استقرار عملها.
عمل نظام محكم لعمل الاتحادات الطلابية بالمدارس وضمان استقرار عملهم وتفاني أعضاءهم في تنفيذ واجباتهم
تحقيق هدف تواصل لجان الاتحادات الطلابية في المدارس بالوزارات المعنية لتوعية الطلاب ببرامج ومبادرات الدولة لخلق جيل واعي بإنجازات الدولة في مختلف المجالات.
تنظيم المسائل المالية والإدارية الخاصة بالاتحادات، كما سمح للاتحادات بتنظيم أطر التعاون مع البرامج والمبادرات الحكومية.
قواعد تنظيم عمل الاتحاداتجدير بالذكر أن قواعد تنظيم عمل الاتحادات تحتاج إلى المزيد من الاستقرار حتى تتمكن الأجيال الجديدة من الإبداع في العمل وخلق روح المنافسة الشريفة بين أعضاء الاتحادات ويشكل أهداف رئيسية في عمله للتفوق على أداء الاتحاد السابق، وذلك سوف يمكننا من ضمان عمل اتحادات طلابية فعالة ومجدية وقادرة على تحقيق أهداف تنمية الطلاب المصريين الذين يمثلوا العمود الفقري للدولة المصرية، وهذا تلبيةً لأهداف رؤية مصر 2030 وتوصيات الحوار الوطني.