أستحضرُ مشهدا لم يغادرْ ذاكرتي حدث معي في صيف 2017م بمدينة جلاسكو الأسكتلندية؛ إذ كنت أمشي في أحد شوارع جلاسكو التي تنبض بالحياة وتدب بحركة البشر، وشدّ انتباهي حيّز (ركن) على جنبات الشارع -يعجّ بالمارة- عليه طاولة يقف عندها رجل تحيط به لافتات تحمل عبارات تروّج للسلام العربي الإسرائيلي والدعوة إلى التعايش الفلسطيني الإسرائيلي برفقة أعلام لفلسطين والكيان الصهيوني ومنشورات تضجّ بمثل هذه الدعوات.
احتدم جدل السلام العربي الإسرائيلي منذ سنوات طويلة، فكانت جمهورية مصر العربية أول الدول العربية التي أبرمت اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني في عام 1979م ما دعا دولا عربية كثيرة لمقاطعة مصر وطردها من جامعة الدول العربية عدا سلطنة عُمان -ومعها الصومال والسودان- التي رأت للحدث أبعادا دبلوماسية لا ينبغي أن تتداخل مع خلافات فرعية أخرى، وجاءت السنوات بعد هذه الاتفاقية لتأتي دول عربية أخرى -سبق أن خاضت خصومة مع مصر نتيجة اتفاقية السلام- توقّع اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني لأسباب سياسية واقتصادية، ومع تصاعد موجة صناعة السلام العربي الإسرائيلي ثمّة من أعلن التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل علنّي، وهناك من كان يمهّد لعملية السلام دون الإفصاح الرسمي، وثمّة من تمسك بمبدأ السلام مقابل الأرض بعودة الكيان إلى حدود ما قبل 1967م وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023م لتكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فقلبت معادلة السلام المنشودة، وأظهرت بشاعة الكيان الصهيوني وعرّته أمام المجتمع الإنساني في العالم أكثر من أي سابقة مضت؛ لتؤكد أن أيّ مشروع للتطبيع والسلام مجرد وهم لا يستقيم مع أي معايير سواء كانت دبلوماسية أو سياسية أو اقتصادية، وأن الدخول في مشروع سلام مع كيان لا يعترف بحقوق الإنسان وكرامته سيكون بمثابة الدخول إلى نفق مظلم تعقيده يتجاوز تعقيد أنفاق غزة التي ضعضعت عمليات جيش الاحتلال. أكدت حرب غزة الحالية التي أثبتت بشاعة المحتل أنّ مشروع التطبيع مع هذا الكيان المحتل مغامرة لا تجلب إلا الوبال بجانب فقدانها للعنصر الأخلاقي، وما جاءت به وثيقة «صفقة القرن» تأكيد لفشل مشروع السلام المزعوم الذي يصطف قلبا وقالبا مع المصالح الصهيونية، ولمعرفة تفاصيل هذا المشروع الخادع أنصح بقراءة كتاب «خدعة القرن: أبعادها واستراتيجية مواجهتها» لمصطفى البرغوثي.
يفقد الكيان الصهيوني بشكل متسارع مؤيديه في العالم وشعبيته التي كان يستند إليها عبر مؤسسات تجارية وسياسية داعمة له؛ فباتت كثير من الشركات التجارية تعيد مغزى علاقتها بهذا الكيان ودعمها له الذي لم يسفر إلا إلى مضاعفة خسائرها المالية بسبب المقاطعة، وهنا يتبادر سؤال عن مستقبل هذا الكيان المحتل واستقراره السياسي والاقتصادي الذي أظهر تخبطا واهتزازا وتفاقمت أزمته المجتمعية والسياسية الداخلية، فأيّ مستقبل وفائدة يمكن أن تُجنى من تطبيع مع كيان مجرم فاقد لشرعيته وإنسانيته؟ إذا جئنا من الناحية الاقتصادية، فالوضع السياسي والمالي لهذا الكيان غير مستقر، ويدخل مراحل هشّة لم يسبق أن جربها من قبل، ومن الناحية التقنية لم يعد هذا الكيان الأقوى في تطوير التقنيات المتقدمة؛ فنمو السباق العالمي بين الدول في مجال ثورة التقنيات الرقمية ألغى معضلة الاحتكار التقني؛ فصار الجميع قادرين على بلوغ هذه التقنيات وتصنيعها بوجود الإرادة والكوادر البشرية القادرة.
لم تعدْ إسرائيل تحظى بقبول المجتمعات الإنسانية في العالم أجمع، ولم يعد أمام كثير من حكومات الدول الغربية المساندة لها خيارات مع ثورة شعوبها المناهضة لطغيان الاحتلال إلا حفظ ماء الوجه والبحث عن حلول تحفظ لها مكانتها السياسية مثلما فعلت كندا بقرار أغلبية برلمانها حظر إرسال السلاح إلى إسرائيل، وتبعتها في هذا القرار دول أوروبية أخرى، وأعلنت أيرلندا أنها ستنضم مع جنوب أفريقيا في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل، ونلحظ تغيّر نبرة لغة الخطاب الأمريكي وإن كانت لا تعكس أفعالها الداعمة. وبدأت الصحف الغربية والإسرائيلية كذلك في التحذير من السقوط الأخلاقي لإسرائيل والخوف من تفاقم عزلتها -منها مجلة إيكونوميست «The Economist» الذي جاء عنوان «إسرائيل وحيدة» على غلاف مجلتها في عددها الصادر بتاريخ 23 مارس 2024 الذي تناولت فيه أزمة إسرائيل الحاضرة والقادمة بسبب جرائمها في حرب غزة- الذي سيتبعه سقوط سياسي واقتصادي نتيجة فقدان إسرائيل للدعم الدولي؛ فتتضح عبر كل هذه الأحداث وتبعاتها أن فرضية السلام وهم محض لا يقود إلا إلى نفق مظلم.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی هذا الکیان
إقرأ أيضاً:
مجلس الشيوخ الأميركي يرفض وقف تزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة
الثورة نت/
عارض مجلس الشيوخ الأميركي، اليوم الخميس، مشروع قانون كان من شأنه أن يوقف بيع بعض الأسلحة للكيان الصهيوني قدمه السيناتور المستقل بيرني ساندرز، مع عدد من المشرعين الديمقراطيين.
وأيد مشروع القانون 18 عضوا، في حين عارضه 79 من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ؛ القرار الذي كان سيوقف، في حال إقراره، بيع ذخائر دبابات إلى الكيان الصهيوني.
ومن المقرر أن يصوت مجلس الشيوخ في وقت لاحق على قرارين آخرين من شأنهما وقف شحن نوعين آخرين من المعدات العسكرية الهجومية.
وكانت كل الأصوات المؤيدة للإجراء لأعضاء ديمقراطيين، بينما شمل الرفض نوابًا من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وكان المؤيدون لمشروع القانون يأملون أن يؤدي فرض التصويت إلى تشجيع إدارة الرئيس جو بايدن وكيان العدو، على بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين في قطاع غزة.
وتشمل المساعدات المقترح حظر إرسالها إلى الكيان الصهيوني، وفقا لمشروع القانون المرفوض، ذخائر الدبابات وطائرات إف-15 آي إيه ومدافع الهاون.