لجريدة عمان:
2024-10-05@18:43:24 GMT

فلسفة التاريخ

تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT

كتابة التاريخ ليست أمرًا سهلًا وإنما هي من أصعب الكتابات في كل المعارف الاجتماعية والأدبية، ولا أعني التاريخ بمعناه الأدبي والسردي، وإنما الكتابة بالمعنى الفكري والفلسفي، حيث يوظف المؤرخ كل العلوم المساعدة، ابتداء من امتلاك أدوات المنهج البحثي، وصولًا إلى قدرته على توظيف ما يمتلكه من معلومات بشأن الموضوع الذي يود الكتابة عنه، ولعل القضية الأهم في كتابة التاريخ هي تفسير أحداثه ووقائعه، وهي القضية الأصعب منذ أن انشغل الفلاسفة والمؤرخون بالكتابة التاريخية، ومحاولة التعرف على ما خفي من أحداث ظلت غامضة، لدرجة أن البعض فسر الوقائع التاريخية تفسيرًا خرافيًا أو دينيًا، وهو أمر تولاه منذ فجر التاريخ القاصون والحكَّاؤون، وقد خضعت هذه الروايات لقدر من الخيال والمبالغة وإضفاء القداسة على الوقائع والأحداث التاريخية، وهو ما يفسر الاضطراب الكثير فيما ورد في المصادر التاريخية، سواء في ما كتبه العرب أو الأوروبيون.

رغم أن جميع هذه المصادر في حاجة إلى إعادة النظر فيما ورد فيها من معلومات، ولهذا فهي في حاجة إلى إعمال العقل والبحث عن مصادر جديدة للاقتراب من معرفة الحقيقة، وخصوصًا بعد أن تطورت العلوم والمعارف وظهور النزعة التطبيقية وفقا لما وصل إليه العالم من اكتشاف نظريات مذهلة في كل مناحي العلوم التجريبية، لذا فعلم التاريخ في حاجة إلى مواكبة هذه الثورة الجديدة في المعرفة، لدرجة أن المؤرخين الجدد في أوروبا أخضعوا الوقائع التاريخية في الكتب المقدسة للنقد، أعلوا من شأن النزعة الإنسانية وتحرير العقل من سلطة الدين، بعد أن أصبحت سلوكيات البشر موضوعًا للتاريخ دون النظر إلى الأعراق والأديان، فضلًا عن استبعاد فكرة أثر القوى الغيبية في صناعة التاريخ.

كان ڤولتير ( ١٦٩٤- ١٧٧٨)، أول من قال بالعلاقة بين الفلسفة والتاريخ، وأول من ابتكر مصطلح فلسفة التاريخ، وقد اعتبره كثير من المؤرخين والفلاسفة بمثابة الأستاذ الأول لعلم التاريخ، بعد أن أسقط من حساباته العوامل الروحية والأخلاقية والاجتماعية، وتبعه فيما بعد مؤرخون وفلاسفة قالوا إن التاريخ يمضي نحو الحرية، وأنه يخضع لقوانين علمية مثله مثل كل العلوم الطبيعية، وإنه يمضي على خط واحد لكن ڤولتير من أوائل الذين قالوا بإعلاء قيمة العقل الذي يصل بالإنسان حتما إلى قدر من التوازن، وهو ما يُمَكِّن البشرية من وضع أسس العدالة والنظام وإعمال القانون.

أثارت آراء ڤولتير وتلاميذه ضجة كبيرة، حينما راح يطرح بعض نظرياته وأفكاره، وهي نظريات اختلفت عن نظريات أقرانه، فضلًا عن اختلاف ما قال به عن نظريات ابن خلدون ( ١٣٣٢-١٤٠٦)،الذي قال: التاريخ يدور في مساره كعجلة دائرية تتعاقب عليها الحضارات، وإن البشرية لا تتقدم في مسار مستقيم خلال مراحل التاريخ، ولا على شكل دائرة، وإن التعاقب الدوري لا يعني ارتدادها إلى نفس البداية، بل تمضي وقائع التاريخ في مسار لولبي وكل دورة تعلو سابقتها، وإن العناية الإلهية هي التي تحدد مسار التاريخ، وإن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا ولكنه يأتي على صور جديدة.

أحدثت آراء ڤولتير ردود فعل كبيرة، خلال القرن الثامن عشر، حينما قال: التاريخ نوع من الفلسفة وأن الفيلسوف فقط هو المؤهل لكتابة التاريخ، ولم يكتف ڤولتير بطرح نظرياته في المنتديات، بل راح يكتب التاريخ من منطلق رؤيته الفلسفية، وأقدم على نشر كتابه (حياة شارل الثاني)، وهو بمثابة دراسة وثائقية نقدية تحليلية متأنية، ويمكن وصف ما جاء في هذا الكتاب بأنه العمل العلمي الأول الذي وُظفت فيه الفلسفة في كتابة التاريخ، أعقب ذلك بكتاب آخر (خطابات فلسفية) وقد حفل بمزيد من الآراء والملاحظات عن حركة التاريخ، ثم نشر كتابا ثالثًا (عصر لويس الرابع عشر) وقد أبدى فيه براعة مذهلة في تحليل الأحداث والأشخاص، تجاوز كثيرا المفهوم التقليدي للكتابة التاريخية باعتبارها سردًا للأحداث.

أعتقد أن من وضع البذرة الأولى لكتابة التاريخ بالمعنى العلمي هو ڤولتير، هذا الفيلسوف الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، وخصوصًا عندما نشر كتابه (أخلاق الأمم وروحها)، وهو أيضا أول من لفت الأنظار لأهمية تاريخ الفكر، مؤكدا على أن الفكرة العميقة والخفية في صناعة التاريخ هي تقدم الفكر الإنساني، وقد رأى أن أحداث التاريخ تفتقد إلى الحكمة والفلسفة، وأشاد كثيرا بدور العقل القادر على إزاحة الخرافات والجهل والتعصب، وهاجم بشكل عنيف المؤرخين الذين أرجعوا كل الأشياء إلى العناية الإلهية، وقد استبعد كل هذه الآراء بحجة أن الله خلق العالم وفقا لقوانين ثابتة، ومنح الإنسان العقل ليحسن استخدامه، ولهذا فالتاريخ لا يسير وفقا لمفهوم العناية الإلهية لدى اللاهوتيين، وإنما بمقتضى العقل البشري نحو الأفضل والأكمل.

كان التاريخ قبل ڤولتير فرعا من الأدب، يُعنى به الرهبان والملوك بهدف الإعلاء من شأن القديسين، ولم يكن في أوروبا حتى ظهور ڤولتير ما يمكن تسميته بعلم التاريخ، وإنما كانت هناك بعض المدونات التي كُتبت في الكنائس، فضلًا عما كتبه مؤرخو اليونان والرومان في العصور القديمة، ومع ظهور عصر النهضة الإيطالية، وظهور النزعة العلمية للعلوم التجريبية التي توجت باكتشافات (إسحاق نيوتن) للجاذبية، و(جالبيرت) للمغناطيسية، وما صاحب ذلك من التطور الهائل في علوم الكيمياء والفيزياء والطب، واكب ذلك ظهور تيار جديد في الدراسات التاريخية يهدف إلى إخضاع الوقائع التاريخية التي وردت في الكتب المقدسة إلى النقد وتحرير الإنسان من سطوة الكنيسة، واستبعاد القوى الغيبية عن مسار التاريخ باعتباره فعلًا إنسانيا، أعقب ذلك ظهور تيار جديد يدعو إلى إخضاع كل شيء للنقد وإعمال العقل، وهو السياق التاريخي الذي ظهر فيه ڤولتير متسلحا بثقافة فلسفية جديدة، مؤمنا بفكرة أن الفيلسوف فقط هو المؤهل لكتابة التاريخ، وإذا كان ڤولتير هو أول من وضع مصطلح (فلسفة التاريخ) إلا أنه أغفل الجوانب الروحية والخلقية والإنسانية في صناعة التاريخ، وأعتقد أنه قد جانبه الصواب وخصوصًا حينما قال بأن التاريخ شأنه شأن العلوم الطبيعية، وأنه يمضي في خط مستقيم واحد، وهى رؤى في مجملها ثبت أنها لا تكفي لقيام الحضارة واستقرار الأمم، بل البشرية دائما في حاجة إلى مُنظرين يحررون الإنسان من عبوديته في ظل قواعد قانونية وتشريعية تنشئها الحكومات في سبيل الوصول بالمجتمع إلى ما يمكن تسميته بالسلام الاجتماعي.

أعتقد أننا في عالمنا العربي وفي جامعاتنا ومراكزنا البحثية في حاجة إلى إعادة قراءة ما كتبه ڤولتير، والإفادة منه في كثير من القضايا التاريخية، التي يضطلع بكتابتها المؤرخون، وخصوصًا في علاقة الفلسفة بالتاريخ، وأن ما قال به ڤولتير في هذا الجانب جدير بالعناية والدراسة، ولهذا فأنا أعتقد أن دراسة الفلسفة شرط من شروط المؤرخ، وعلى ضوء كل ما سبق أعتقد أن تاريخنا العربي في مجمله بحاجة إلى إعادة النظر على ضوء هذه الأفكار والنظريات النقدية لعلنا نصلح ما أفسده الغرب في كتابة تاريخنا العربي.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کتابة التاریخ فی حاجة إلى أعتقد أن وخصوص ا ما قال

إقرأ أيضاً:

متخصصون في ندوة بمعرض الرياض الدولي للكتاب: الثمانينيات بداية بروز الرواية التاريخية

المناطق_الرياض

اتفق متخصصون على حقبة الثمانينيات ودورها في بروز الرواية التاريخية، وذلك في ندوة “التاريخ المنسي: دور الرواية في التاريخ الاجتماعي”، التي عقدت ضمن البرنامج الثقافي لمعرض الرياض الدولي للكتاب، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتحدث خلالها كل من أستاذ النقد والنظرية الدكتور معجب العدواني، والمتخصصة في الأدب والتاريخ الحديث الدكتورة حصة المفرح، والكاتب والباحث الدكتور علي زعلة، وحاورهم الكاتب حسن الضو.

 

أخبار قد تهمك تقني عسير يختتم مبادرة تدريب السيدات على الصيانة الوقائية للسيارات 5 أكتوبر 2024 - 4:49 مساءً أمانة منطقة تبوك تستضيف ورشة عمل في التنمية المستدامة 5 أكتوبر 2024 - 4:44 مساءً

 

وقال زعلة: “الثمانينيات هي البداية الحقيقية للرواية السعودية، وصاحبة إسهامات في التاريخ الاجتماعي، لأنها لم تكن بعيدة من ثمانينيات العالم وما عاصره من أحداث، وفي السعودية بالذات بدأت تتمثل بما سمي بالفطرة الاجتماعية، وأيضًا على مستوى الجانب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي”.

 

 

وأكد على جدوى الابتعاث “وبروزه محركًا حقيقيًّا مُعززًا للهوية الوطنية، فدخول المبتعثين مع المجتمعات الأخرى أوجد صدى كبيرًا في الرواية والأصداء الاجتماعية”.

 

 

من جانبه أوضح العدواني أن بداية الرواية التاريخية كانت مع جهود أدباء عرب تأثرت بما يكتب في كتب التاريخ، ونقل الحدث دون جانب إبداعي، “فالمؤلف والسارد كانا مقيدين، فلا يملكان التصرف بما لديهما من معلومات تاريخية، والسارد هنا عبء على الكتابة التاريخية”.

 

 

واستهلت حصة المفرح حديثها عن “مبادرة دارة الملك عبد العزيز “تاريخنا قصة” التي تأتي تشجيعًا للكتابة التاريخية واستعادة تاريخ الوطن عبر الروايات التاريخية، وهدفها الأسمى هو تعزيز الهوية الوطنية، والروايات الصادرة تبشر بمستقبل أجمل”.

 

 

وأشارت إلى استحضار الروايات للتاريخ الوطني المعاصر، ووقوفها على جوانب عدة منه، وقالت: “وما يُميز كل رواية عن الأخرى انطلاقها من جوانب مختلفة، وروايات سعودية عدة كتبت ووثقت هذه الجزئية”، مُلمِحةً إلى أن المرأة تأخرت في كتابة الرواية التاريخية، واغتنمتها في صناعة نماذج نسائية غُيبت في التاريخ”.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط 5 أكتوبر 2024 - 5:00 مساءً شاركها فيسبوك ‫X لينكدإن ماسنجر ماسنجر أقرأ التالي أبرز المواد5 أكتوبر 2024 - 4:14 مساءًمشروبات يومية قد تصيبك بالسكتة الدماغية.. أبرزها القهوة والعصائر أبرز المواد5 أكتوبر 2024 - 3:59 مساءًوزارة الصناعة والثروة المعدنية تطلق الموقع الإلكتروني الرسمي لمنتدى السياسات الصناعية متعدد الأطراف أبرز المواد5 أكتوبر 2024 - 3:56 مساءًهاشم صفي الدين قتل بغارة مع مساعدين وإيرانيين أبرز المواد5 أكتوبر 2024 - 3:48 مساءً“الزكاة والضريبة والجمارك” تنفّذ أكثر من 15 ألف زيارة تفتيشية خلال شهر سبتمبر الماضي أبرز المواد5 أكتوبر 2024 - 3:46 مساءًمركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 175 ألف ربطة خبز للأسر اللاجئة ضمن مشروع مخبز الأمل الخيري في شمال لبنان خلال الأسبوع الماضي5 أكتوبر 2024 - 4:14 مساءًمشروبات يومية قد تصيبك بالسكتة الدماغية.. أبرزها القهوة والعصائر5 أكتوبر 2024 - 3:59 مساءًوزارة الصناعة والثروة المعدنية تطلق الموقع الإلكتروني الرسمي لمنتدى السياسات الصناعية متعدد الأطراف5 أكتوبر 2024 - 3:56 مساءًهاشم صفي الدين قتل بغارة مع مساعدين وإيرانيين5 أكتوبر 2024 - 3:48 مساءً“الزكاة والضريبة والجمارك” تنفّذ أكثر من 15 ألف زيارة تفتيشية خلال شهر سبتمبر الماضي5 أكتوبر 2024 - 3:46 مساءًمركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 175 ألف ربطة خبز للأسر اللاجئة ضمن مشروع مخبز الأمل الخيري في شمال لبنان خلال الأسبوع الماضي تقني عسير يختتم مبادرة تدريب السيدات على الصيانة الوقائية للسيارات تقني عسير يختتم مبادرة تدريب السيدات على الصيانة الوقائية للسيارات تابعنا على تويتـــــرTweets by AlMnatiq تابعنا على فيسبوك تابعنا على فيسبوكالأكثر مشاهدة الفوائد الاجتماعية للإسكان التعاوني 4 أغسطس 2022 - 11:10 مساءً بث مباشر مباراة الهلال وريال مدريد بكأس العالم للأندية 11 فبراير 2023 - 1:45 مساءً اليوم.. “حساب المواطن” يبدأ في صرف مستحقات المستفيدين من الدعم لدفعة يناير الجاري 10 يناير 2023 - 8:12 صباحًا جميع الحقوق محفوظة لجوال وصحيفة المناطق © حقوق النشر 2024   |   تطوير سيكيور هوست | مُستضاف بفخر لدى سيكيورهوستفيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق البحث عن: فيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب إغلاق بحث عن إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • التاريخ لم يُكتب بعد!
  • متخصصون في ندوة بمعرض الرياض الدولي للكتاب: الثمانينيات بداية بروز الرواية التاريخية
  • أبرزهم محمد علي.. شباب يطلقون فكرة لتحويل المناهج التاريخية إلي عمل مسرحي بالإسكندرية
  • القمة الأولى التاريخية بين القطبين.. سيدات الأهلي يهزمن الزمالك
  • أسامة ربيع: ترميم مبنى القبة التاريخي بهيئة قناة السويس لن يمس بقيمتها التاريخية
  • أمين «البحوث الإسلامية»: الإلحاد خطر يهدد العالم ومن عورات الفكر الإنساني
  • شيخ العقل: لتجاوب جميع الأطراف السياسية المعنية مع مبادرة لقاء عين التينة
  • نقوش صخرية بالقرب من قلعة نخل التاريخية تعود للعصر الحديدي
  • الضربة الإيرانية للعدو تحظى بمباركة واسعة وصفت باللحظة التاريخية في مسار الصراع
  • معرض الرياض الدولي للكتاب يناقش دور الصورة في حفظ التراث الثقافي وأهمية الصور التاريخية