كانت المحليات على مدى عقود متتالية أكبر بؤر الفساد فى مصر، وتلقى الرشاوى وإهدار المال العام باعتراف نظام السلطة السابقة عندما جاء على لسان أحد قيادات الدولة أن الفساد فى المحليات «أصبح للركب»! وسيطر الحزب الوطنى المنحل فى ذلك الوقت على مقاعد تلك المجالس، كما سيطر على مقاليد الدولة كلها، ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، تم حل كافة المجالس الشعبية المحلية على مستوى الجمهورية، ولكن حتى الآن، أى منذ أكثر من 13 عامًا، لم يتم انتخاب مجالس محلية جديدة، فى الوقت الذى تقدمت فيه الحكومة أكثر من مرة بمشاريع قوانين خاصة بنظام الإدارة المحلية، كان آخرها المشروع المقدم فى أبريل 2017، والذى ناقشته لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب ولكن حتى الآن لم يعلن البرلمان بشكل رسمى عن النسخة النهائية المقرر طرحها على الأعضاء للتصويت، ذلك على الرغم من ضرورة إجراء تلك الانتخابات، التزاما بالدستور الحالى «دستور 2014»، الذى تضمن فى مواده الانتقالية البدء فى تطبيق النظام الجديد للإدارة المحلية بشكل تدريجى خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذ الدستور.
ويعتمد النظام المنصوص عليه فى الدستور بشكل أساسى على اللامركزية الإدارية والمالية لوحدات الإدارة المحلية، مع منحها قدرًا كبيرًا من الاستقلالية وسلطة اتخاذ القرارات، وهو يضع تبعًا لذلك التزامًا صريحًا على عاتق السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية بإجراء انتخابات المجالس المحلية قبل بداية 2019، بالإضافة إلى تهيئة الجهاز الإدارى بالدولة وتأهيل العاملين به على كيفية التعامل مع تلك المجالس وفقًا للاختصاصات الجديدة الممنوحة لها بموجب الدستور.
عدم إجراء انتخابات المجالس المحلية حتى الآن رغم مرور السنوات الخمس التى حددها الدستور لعدم صدور القانون المنظم لها، يراه البعض مخالفة دستورية، وفراغًا تشريعيًا، ويرى البعض الآخر أن تجاوز مدة السنوات الخمس على إقرار القانون ليست أزمة دستورية، لأنها تنظيمية وليست ملزمة، وإقرار القانون فى أى وقت سيكون صحيحًا، ولكن فى كل الأحوال لا بد أن يصدر هذا القانون المهم، الذى يأمل الجميع فى أن يكون له دور كبير فى القضاء على الفساد ومواجهة البيروقراطية والروتين الموجود منذ عشرات السنين، كما يأمل الجميع من كل القوى السياسية فى أن يمثل القانون الجديد للمحليات طفرة حقيقية فى الانتخابات المحلية، ويمنح تكافؤ الفرص للجميع ويطبق بشكل حقيقى اللامركزية فى المحافظات والقرى والمراكز والمدن، وأن يكون المحافظ ورؤساء مجالس المدن والقرى أصحاب القرار فى التطوير وتقديم الخدمة للمواطن.
تعتبر مصر من أوائل الدول التى اعتمدت نظام الإدارة المحلية، وذلك عندما أنشأت ما سمى بـ«مجالس المديريات» كفروع للإدارة المركزية فى جميع أنحاء البلاد بموجب «القانون النظامى المصرى»، الذى أصدره الخديو توفيق عام 1883.
ثم جاء دستور 1923، الذى اعترف بنظام الإدارة المحلية على نحو صريح وأوضح اختصاصات والتزامات تلك المجالس، ومن بعده أخذت كل الدساتير المتعاقبة بنفس النظام حتى دستور 1971، الذى صدر بموحبه القانون رقم 43 لسنة 1979، بشأن نظام الإدارة المحلية السارى حاليًا، وبموجب دستور 2014 الحالى، ينقسم نظام الإدارة المحلية فى مصر إلى وحدات الحكم المحلى والتى تتمتع بالشخصية الاعتبارية مثل «المحافظات، المدن، المراكز، الأحياء، القرى»، والتى لها الاختصاص الأصيل فى إنشاء وإدارة جميع المرافق العامة الواقعة فى دائرتها.
يتفق ذلك مع أن الإدارة المحلية أحد أسباب التقدم فى أى دولة، وهذا ما تم رصده فى الدول التى حققت طفرات اقتصادية وخدمات جيدة لمواطنيها، وإذا استطعنا أن ننفذ منظومة جيدة للإدارة المحلية فى مصر بشكل يتواكب مع الأنظمة العالمية للإدارات المحلية، فذلك سيكون نجاحًا كبيرًا للجمهورية الجديدة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: محمود غلاب حكاية وطن وإهدار المال نظام السلطة قيادات الدولة نظام الإدارة المحلیة
إقرأ أيضاً:
«جمال الغيطانى»
جميعنا سيطوينا النسيان، لا أحد يفلت من سطوة الزمن، ستتلاشى الذكريات، الأحاديث الحميمة، خطواتنا المتكررة أمام عتبات البيوت والسعى اليومى بين الشوارع والأمكنة، جلساتنا المبهجة على المقاهى ووسط الأحباب، الناجى الوحيد من محرقة دقائق العمر وساعاته هو الكاتب والمصور والرسام، هؤلاء يقومون بتسجّيل مضمون اللحظة التى تفنى عبر الكتابة والصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، فستبقى رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنيز عن الثورة الفرنسية، وآلاف الصور الفوتوغرافية عن المجازر الإسرائيلية فى المخيمات الفلسطينية، ولوحة «جرنيكا» للرسام الأشهر فى القرن العشرين «بيكاسو» عن الحرب الأهلية الأسبانية.. حاضرة بكل عنفوانها صالحة للتفكيك من أجل الفهم والتأمل لكل جيل.
يدخل الروائى الكبير «جمال الغيطانى» فى المتاهة الزمنية مع هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم، كحكاء وصانع للسجاد وعاشق للمعمار وصوفى تغشاه التجليات، والغريب والعجيب من السرد فيسجلها بمداد القلم على الورق ممسكاً باللحظة حتى لا تتسرب منه.
لذلك كل الشكر والامتنان للقائمين على مؤتمر أدباء مصر فى دورته السادسة والثلاثين والتى ستنطلق يوم الأحد القادم فى محافظة المنيا، على تقديم الروائى الكبير الراحل «جمال الغيطانى» شخصية المؤتمر، بعد مرور تسع سنوات على غيابه جسدياً فى عام 2015.
كما أدعو إدارة المؤتمر أن تعيد تقديم ومناقشة ماقامت بنشره صحيفة «أخبار الأدب» فى الذكرى السابعة لرحيل مؤسسها الكاتب والروائى «جمال الغيطانى»، حيث قدمت فصلا من كتاب «المقريزى: وجدان التاريخ المصرى» الذى كان سيصدر فى ذلك الوقت للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT». وفيه يرصد التأثيرات التى دخلت على كتابة الغيطانى جراء تعمقه فى استلهام وتحليل كتابات المؤرخ البارز تقى الدين المقريزى، وكيف قام بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى للقاهرة عبر السرد الخيالى.
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم.
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة..
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهى، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخى، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وما شابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
وأخيراً يقول عنه الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطانى حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذى استقاه من أجداده الفراعنة.