«سموط الثناء» بين الشرح والتخميس والتحقيق
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
لم تحظ قصيدة عمانية بهذا الاحتفاء والمحبة من قبل الشعراء والأدباء وشرَّاح الشعر من أهل عُمان، كما حظيت به قصيدة «سُمُوطُ الثَّناء»، لناظمها الشيخ العلامة المحقق: سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1287هـ/ 1871م) عليه رحمة الله، فمنذ كتابتها وهي فاكهة المتأدبين، فقد استهلت بتوظيفه لمفردة «سموط»، وهو السلك الدقيق، تنتظم فيه الكلمات كالجواهر في العقد، ويظهر من البيت الأول للقصيدة أنهما سُمُوطان في آن واحد، «سموط ثناء» و«سموط فريد»، يزيِّن اللسان والجيد، ونجد هذا المعنى يلخصه مطلع القصيدة:
سُمُوطُ ثَناءِ في سُمُوطِ فَرِيدِ
بكلِّ لسانٍ قد بُثِثْنَ وَجِيدِ
وَحَمْدٌ تَضُجُّ الكائِناتُ بنَشْرِهِ
إذا نُشِرَتْ مِنهُ أجَلُّ بُرُودِ
ولا أبالغ في القول: هذه القصيدة شغلتني فترة مذ أن تعرفت عليها، فقد قرأتها سابقا منشورة في أكثر من كتاب، قرأتها في كتاب «الفتح الجليل في أجوبة الإمام أبي خليل»، الذي جمعه الشيخ الفقيه والمحقق سالم بن حمد الحارثي (ت: 2006م)، والمتضمن فتاوى الإمام محمد بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1954م)، حفيد مؤلف القصيدة، لعل جامع الكتاب رأى أن يضمن الكتاب الخاص بفتاوى الإمام شيء من إشراقات آبائه وأجداده الشعرية، كجده الشيخ سعيد بن خلفان، ووالده – والد الامام – عبدالله بن سعيد (ت: 1914م)، وعم الامام أحمد بن سعيد (1907م)، وكانت قصيدة «سُمُوطُ الثَّناءِ» ضمن الصفحات التي ضمنها الشيخ سالم بن حمد الحارثي في كتاب «الفتح»، فخرج تحفة فقهية وشعرية في آن، وأشير هنا الى كتاب «فتح الجليل» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1385هـ: وليس غير ذلك.
وأظهرت انشغالي بها في حديثي عنها في كتابي «المشرب العذب»، فقد رأيت فيها من العذوبة ما يجعل القارئ يستسيغ لغتها ويهضم معانيها، وكأنها شربة من كوثر الشعر العماني، كانت قصيدة سموط الثناء أشبه بالسَّحابة الوطفاء التي تمطر بالخصب والغيث على قارئ الكتاب، وكانت بالنسبة لي أشبه بالسفر الروحي إلى رياض هذه القصيدة، وكانت ذائقتي وفهمي المتواضع للشعر، تصنع مع كل بيت خيالا خاصًا به، وما أروع هذا البيت من قصيدة السموط القائل: (فَتَخْضَرُّ آمالِي وتُورِقُ مُنيَتِي .. ويُثمِرُ في دَوْحِ المَكارِم عُودِي)، كنت أشعر بكل الآمال التي في داخلي، والأماني التي تمور في وجداني، تنمو كمَرْج أخضر، حتى تصبح أشجارًا مثمرة، ولكنها أماني العاجز، يبرق لآلاء سرابه ولا يمطر.
وقرأتها أيضا في كتاب «نهضة الأعيان بحُريَّة عمان»، للشيخ أبي بشير محمد بن عبدالله السالمي (ت: 1985م)، وكان يصفها بقصيدة «الاستغاثة»، جاء نشره لها ضمن حديثه عن مؤلفها المحقق الخليلي، ودوره في إقامة إمامة عزان بن قيس البوسعيدي (ت: 1871م).
ومن يقرأ ديوان أبي مسلم البهلاني (ت: 1920م)، فإن تخميسه الرائق لقصيدة سموط الثناء، ستكون واحدة من مجذوباته السلوكية الشعرية، وكأن قصيدة التخميس خرجت من نَفَسٍ شعري واحد، فقد التحم الأصل بالفرع، وأصبحا شجرة وارفة المعاني، استطاع أبو مسلم أن يجاذب روح الشاعر الخليلي، ويعيش مع سموط الثناء، لينسج ضمنها قطيفة خماسية المقاطع وسجادة وثيرة، جاء التخميس تنفيسا عن معانيها وليس «تخميشا» لأبياتها، فالشاعر أبو مسلم تغذى على لغة الوجد السلوكي، يقول في تقديمه لتخميس السموط: (ولكني امرؤ حالفتُ خدمة الأذكار وأُشرِبتُ حب الاعتراف من بحار الأسرار، وعلمت أن لهذه الدعوة أثرًا ساطعًا وبرهانا قاطعًا، أشهر من الشمس في كبد الشمس، وأغزر بركة من عيالم الدأماء، فاستمسكت بعزَّتها، وأخذت بحُجْزتها، وجعلتها مع التخميس لرب العزة نداء، ولبست لها من أديم السَّحَر رِداء).
بهذا التقديم الندي، يفتتح أبو مسلم تخميسه لقصيدة السُّموط، وبهذه اللغة المتشرِّبة بالأذكار، سار تخميسه سير الركاب الثقيلة على مهل وأناة، محاولة منه أن يدنو من هذه الخليلية المتفردة، فيلتحم بها التحام الشغف بالقلب، حتى بدت كيانًا واحدًا، فلا يمكن فصل التخميس عن الأصل، لأن كلا الشاعرين شَرِبا من كأس المحبة، وإن تباعدت بينهما الأيام، بين أستاذ مجذوب، ومريد يصبح في مقام المجذوب.
ومما يؤسف له أن التقديم النثري الرَّفيع الذي كتبه أبو مسلم، لقصيدته «دَرْكُ المُنى في تخميس سموط الثناء»، لم نقرأه بعد ذلك في الكتب الشارحة لديوان أبي مسلم، كشرح محمد الحارثي (ت: 2018م)، الصادر عن دار الجمل عام 2010م، وشرح د. راشد بن علي الدغيشي، الصادر عن مكتبة الضامري عام 2015م، على حلاوة ما كتبه أبو مسلم في تقديمه لغة وسبكا، فهو قطعة أدبية من النثر الربيع، ومفتاح سلوكي تجاهله الشارحون، رغم ارتباطه المباشر بالقصيدة.
ثم في جلسة أدبية مع السيد القاضي الأديب حمد بن سيف البوسعيدي (ت: 1997م) رحمه الله، أهداني نسخة مصورة من أوراق غير مكتملة، لشرح الشيخ جمعة بن خصيف بن سعيد الهنائي السمائلي (ت: مطلع القرن العشرين)، أوراق مصورة من أصل مخطوط باليد، وبقيت أتردد عليه، متلذذا بشرحه، كمن يلعق بأصبعه بقايا عسل من قارورة، أو يشم رائحة عبقة، لعطر لم يبق منه إلا الثمالة، لكنه يحمل في النفس ذكرى، والذكرى التي أحملها في نفسي هي تلك الجلسات المسائية في مكتبة السيد حمد بن سيف البوسعيدي، وقد أسبغ علينا من فيض محبته، كأصدقائه ومحبيه، وكانت لي معه لقاءات كثيرة، مترددًا عليه كلما سنحت الفرصة.
في ذلك الشرح الرائع لقصيدة السموط، أحسست أيضا بتشرُّب الشارح الشيخ جمعة بن خصيف بهذه القصيدة، فلم يكن تبيينه اللغوي للمفردات، مجرد إيضاح معنى بلغة القواميس والمعاجم، بل كان أشبه بفتح أفق رسمه الناظم فأخفاه، وكشفه الشارح فأبانه، كنت مع نفسي أقول: أيهما أجمل النظم أم الشرح، وفي الحقيقة فإن الشرح أكمل جمال النظم الشعري، وحقق مبتغاه، ولم يرد شارح آخر لهذه القصيدة غير ابن خصيف الهنائي، حتى إن أبا مسلم ذكره في تقديمه للتخميس، بقوله: (لم يتصل بي كيفية تبتل سيدي القطب الخليلي قدس الله سرَّه، بدعوته سموط الثناء، إلا ما ذكره شارحها الشيخ العلامة جمعة بن خصيف رحمه الله، من كون القطب كان يرتلها آناء اللي وأطراف النهار، وطورًا كان ينوِّر بها سدفة السَّحر، وتارة يُصْمي بها رابعة النهار).
وبقي شرح الشيخ جمعة نفيسة الأيام، أشبه بدرة مخبوءة في زجاجة كأنها كوكب درِّي، حتى أقدم الأديب المحقق والباحث الحصيف د. هلال بن محمود البريدي، فقام بدراستها، متحدثا عن الشاعر الناظم للقصيدة، وعن نسبه ونشأته وحياته العلمية وصفاته، ومكانته الاجتماعية والسياسية، ومكانته العلمية إلى غير ذلك من التمهيدات، التي اعتاد نهجها أكثر الباحثين، ثم يكتب دراسة أسلوبية في القصيدة، متحدثا عن العاطفة والبواعث الشعرية، وأثرها على لغة القصيدة، والصورة الشعرية، وأثر الإيقاعات والموسيقى والتكرارات الصوتية، ورد العجز على الصدر، وغيرها من المباحث الجمالية والبلاغية.
ثم تحدث عن الشارح الشيخ جمعة بن خصيف، وتطرَّق إلى نسبه وحياته، ومكانته العلمية والاجتماعية، وطلابه وتلاميذه وآثاره، ثم عن منهجه في شرحه، ومعالجة المفردات والمعاني والدلالة، ونهج الشارح في معالجاته النحوية والصرفية والبلاغية والأدبية والدينية، ثم يسرد المحقق أبرز مصادر الشارح اللغوية والنحوية، ثم وصف عمله في التحقيق ووصف المخطوطات التي اعتمد عليها في الدراسة والتحقيق، صدر الكتاب عن بيت الغشام، عام 2020م، ويقع في 495 صفحة من الحجم المتوسط.
وبلا شك فإن الدكتور هلال بن محمود البريدي بدراسته وتحقيقه لقصيدة «سموط الثناء» و«شرح السموط» المبهر، أحيا التراث العلمي لناظم مهم، عرف بأنه: «شاعر العلماء وعالم الشعراء»، والذي هو الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، كما أحيا تراث شارح مهم، يكاد أن يكون مجهولًا، شارح متوار عن الأنظار، يكاد اسمه لا يُذكر بين الشرَّاح العمانيين، وكل هذا العمل يدور في فلك قصيدة شعرية واحدة تتألف من 84 بيتًا، أنجبتها قريحة الشاعر سعيد بن خلفان الخليلي ذات يوم من أيام القرن الثامن عشر الميلادي، فخرجت من فكر ووجدان ناظمها، كما يلفظ البحر الدر، ويجود الزمان بعد بذلك بشرح نفيس لها، أبدعه الشيخ جمعة بن خصيف الهنائي، ثم تخميس شعري رائق للشيخ أبو مسلم البهلاني، ثم تخميس ثان للشاعر محمد بن عبدالله الخليلي، أحد الأحفاد المباشرين للشاعر الخليلي صاحب سموط الثناء، تعرفت عليه أثناء مطالعتي للكتاب الصادر بدراسة وتحقيق الدكتور البريدي، فقد ضمنه صفحات كتابه في ملحق خاص، جمع فيه بعض المتعلقات بقصيدة السموط، منذ شرحها وحتى تخميسها، وقد شغلت القصيدة عقول وقلوب العمانيين، وما يزال أثرها في النفوس أشبه بالندى على الأوراق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أبو مسلم بن سعید فی کتاب حمد بن
إقرأ أيضاً:
تأجيل محاكمة المطربين مسلم ونور التوت بتهمة سرقة لحن أغنية لـ4 فبراير
قررت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة، اليوم الخميس، تأجيل الدعوى المقامة من الملحن حسن دنيا، ضد المطربين مسلم ونور التوت وآخرين، بتهمة سرقة لحن أغنية، لجلسة 4 فبراير المقبل.
كان الملحن حسن دنيا أقام دعوى قضائية ضد المطربين مسلم ونور التوت، يتهمهما فيها بسرقة لحن أغنية "أول حياتي ياما"، والتعدي على حقوق الملكية الخاصة به، وتداولت المحكمة الاقتصادية الدعوى في أولى جلساتها، التي تغيب فيها المطربين عن الحضور.
مشاركة