مرفأ قراءة... الشيخ العطار وتأسيس رينيسانس عربي!
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
(1)
أوضحنا في الحلقة السابقة أن الشيخ حسن العطار كان من أبرز تلاميذ الشيخ مرتضى الزبيدي (الذي تحدّثنا عنه في حلقات سابقة وعن دوره فيما أسميناه حركة الإحياء العربي) ومن أهم من تأثروا به وأخذوا عنه، مع صديقه وصنوه الشيخ الجبرتي.
تفيدنا المصادر بأنهما (أي الجبرتي والعطار) قد تأثرا أعظم الأثر بالشيخ الزبيدي، ويكاد الجبرتي ينص نصًّا على
أن أهم ما وجهه إلى دراسة التاريخ والشغف به والتأليف فيه هو صلته بالزبيدي "فقيه اللغة في زمانه"، الذي عرض على تلميذه "الجبرتي" نحو عام 1790 أن يعاونه في وضع كتاب عن "أعلام القرن الثامن عشر" من مصريين وحجازيين، فدُهش الجبرتي لهذا الطلب، وأخذه زهو عظيم لأنه رأى أن هذا العمل الكبير سوف يقرن اسمه باسم أستاذه، ويخلد اسمه في التاريخ.
وهكذا أخذ الجبرتي يعد البطاقات بالأعلام والحوادث الجسام، وكان يسميها "طيارات"، ويحشد فيها كل ما تذكره من أحاديث أبيه عن العلماء والحكام. ثم أخذ يستوفي مراجعه على طريقةٍ أقرب إلى المنهج العلمي، ثم أخذ يجمع سير شيوخ الأزهر وعلمائه، وسير الأدباء والشعراء، وسير الولاة والمماليك والسناجق "أي المحافظين"، وظل الجبرتي يعد البطاقات أو "الطيارات"، ويدوِّن "الكراريس"، ويعرضها على الشيخ الزبيدي حتى توفي الزبيدي بالطاعون بعد عامين من بدء العمل في هذا المشروع الضخم.
(2)
وأما ما كان من أثر الشيخ الزبيدي في الشيخ العطار الذي حاز ثقافة واسعة واطلع على العلوم والمعارف كافة ما وسعه جهده، فقد كان على مستويات عدة؛ لعل أهمها فيما يرى كاتب هذه السطور هو تعميق حركة الإحياء العربي والانتقال بها من دائرة الإحياء إلى الإضافة والتجديد والإصلاح، فيما يمكن أن نطلق عليه "رينيسانس" عربي جديدة.
فقد تبلورت "الرؤية التجديدية" والإصلاحية مبكرا في نفس وروح الشيخ العطار، وعمل على ترسيخها وتأصيلها في نفسه بل إنه طوّرها ووسّع من مجالها وأثرها حتى ليصح أن نقول إن الشيخ العطار هو رائد حركة الإحياء العربي ومؤسس عصر رينيسانس عربي فيما بين الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والثلث الأول من القرن التاسع عشر.
أما ثاني ما تأثر به الشيخ العطار من شيخه الزبيدي فهو منهج التكوين والتأسيس المعرفي (إذا جاز التعبير) فقد ارتحل مثله في طلب العلم، وطالت رحلته لخمس عشرة سنة، وتعددت أسفاره ما بين بلاد الشام والآستانة وإسطنبول وألبانيا، وأجاد خلالها بعض اللغات الأخرى غير العربية، مثل: التركية والفارسية والألبانية.
كما زار كثيرًا من الأقطار العربية (عمان الأردن وقدس فلسطين ودمشق الشام وحلب وحمص وحماة.. إلخ) لإلقاء محاضرات في شتى العلوم والفنون التي أخذ من كل منها بحظ وافر؛ حيث إنه لم يَقْنَعْ بالعلوم الدينية النقلية؛ بل نَهَلَ نهلا من كل ما كان متاحا من العلوم الحديثة آنذاك، مثل: الفلك والهندسة والطب والتشريح ورصد النجوم، وعمل المَزَاوِل الليلية والنهارية والأسطرلابية.
(3)
وكان اهتمام الشيخ العطار باللغة والأدب والتجديد فيهما، وإنشاء آثار شعرية ونثرية فرعًا من تأثره بالشيخ مرتضى الزبيدي صاحب "تاج العروس"، وتفيدنا المصادر بأن الشيخ العطار تعلَّم الكثير في هذا الجانب من شيخه مرتضى الزبيدي الذي كان يدرِّس لطلابه في الأزهر كتاب «فقه اللغة» للثعالبي، و«مقامات الحريري»، ويشرحها، ويعلِّق عليها، وكان يقرأ معهم المعلقات مع شرح الزوزني عليها.. إلخ.
وأظن أن هذا المناخ العلمي والفكري والأدبي النشط الذي كان مركزه ومدار نشاطه الشيخ الزبيدي، سببا رئيسيا في ترسيخ الحس الفني والجمالي والأدبي في روح الشيخ العطار، ولم يكن غريبًا بأن تُجمع المصادر التي أرخت له، وترجمت لحياته، بأنه كان شاعرًا مجيدًا وكاتبًا مبرزًا، ترك ديوانًا يشهد بشاعريته، كما ترك كتابًا في الإنشاء يضم ما كتبه من نماذج يستهدي بها الكُتَّاب في المخاطبات، والرسائل الإخوانية، والخطب، والإجازات العلمية، والكتابة الديوانية، وحتى الوثائق والصكوك!
وبحسب إفادات من ترجموا له في العصر الحديث، فإنه عني بالأدب الأندلسي عناية فائقة، فأخذ يدرسه ويحاكيه، وكان من آثار هذه العناية أنه أول من حقق «ديوان ابن سهل الأندلسي».
ولو تصفحنا كتاب «الأغاني» للأصفهاني لوجدنا تعليقاتٍ منسوبة له عليه، وعموما فإن تعليقات الشيخ العطار بخطه على كتب ومخطوطات من عيون التراث العربي وصلنا شيء كثير منها وهي بذاتها في حاجة إلى قراءة عميقة وتحليل نافذ وعميق.
(4)
كان ذلك النشاط الهائل، والصيت الذائع، وراء اختيار محمد علي باشا والي مصر (1805-1848) للشيخ العطار عقب عودته إلى مصر من رحلته الطويلة في ربوع الشام وغيرها، كي يتولى تحرير أول صحيفة مصرية هي جريدة «الوقائع المصرية»، فأشرف عليها ورأس تحريرها، وكتب فيها آراءه الداعية لإدخال العلوم الحديثة وتنقية التراث العربي.
ثم لمّا ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق اختِير شيخًا للأزهر عام 1830، واستمر هكذا حتى وفاته عام 1835، مخلِّفًا وراءه كثيرًا من المصنفات والحواشي والرسائل في شتى العلوم والفنون. نذكر منها:
«حاشية على جمع الجوامع» في مجلدين، و«حاشية على الأزهرية النحو»، و«حاشية على مقولات الشيخ السجاعي»، و«حاشية على السمرقندية»، و«حاشية العطار على التهذيب في علم المنطق»، و«رسالة في علم الكلام»، و«رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب»، و«نبذة في علم الجراحة»، و«مقالات في الطب والجراحة»،
ورسائل عديدة في الطب والتشريح "والرمل"، "والبازرجة" وغير ذلك.
وفي الأدب والشعر ترك شرحًا لم يكمله على كتاب الكامل للمبرد، وله ديوان شعر يضم أشعاره التي تتميز بالسهولة والبساطة والبُعد عن التكلُّف الذي ساد عصره، مما يضعه في عداد أوائل المجددين في لغة الشعر العربي الحديث.
وقد تزامن هذا النشاط الكبير للشيخ مع تأسيس محمد علي لدولته الحديثة في مصر وسعيه لإنشاء المؤسسات
الجديدة المعبِّرة عن المشروع لتأسيس دولة حديثة؛ وهذه المؤسسات بطبيعة الحال تمثلت في "المطبعة"، و"الصحف"، وإنشاء جريدة "الوقائع المصرية"، والمدارس العسكرية التقنية؛ كالطب والتمريض والمهندسخانة.
وكان ذلك كله بموازاة تأسيس جيش عصري حديث، مسلح تسليحا حديثا ومؤسسا على الأخذ بأسباب العلم والتقدم والتقنية المتاحة في ذلك الزمان. ومن هنا تلاقى طموح مؤسس الدولة مع مشروع الشيخ الطامح إلى الأخذ بالعلوم والمعارف الحديثة وتجديد الفكر وإصلاح الأزهر، فكان هذا اللقاء بين الوالي والشيخ ونتج عنه صياغة المشروع الثقافي والفكري للدولة الحديثة وأسند محمد علي للشيخ العطار تنفيذ هذا المشروع ومنحه الصلاحيات الكاملة لترجمته على الأرض فكان ما كان من بذر بذور النهضة العلمية والثقافية والفكرية والتعليمية التي سنتحدث عن بعض مظاهرها وأوجه نشاطها وتجلياتها في الحلقات القادمة.
(5)
وقد تمثلت الأيديولوجيا، أو الأساس الفكري التحديثي الذي ساند المشروع (وسقط مع سقوطه أيضا)، في إحياء "علم الكلام" ذي الصبغة العقلانية التقليدية المحافظة "الماتريدية" بصفة خاصة، ليحلَّ محلَّ علم "الحديث" (في صورته التقليدية الجامدة) في موقع الصدارة والفعالية؛ لأنه كان مطلوبًا من الأيديولوجيا الجديدة أن تؤدي وظيفة مزدوجة مركَّبة لا تقدر العلوم الموروثة في صورتها الجامدة على الوفاء بها، مهما كانت أدوات التفسير والتأويل عميقة وناجعة.
كان الدور المطلوب تبرير مشروع التحديث وتسويغه من منظور ديني عقلاني نسبيًّا من جهة، والتصدي من جهة أخرى لسحب البساط من تحت أقدام المشروع "الوهابي" في شبه الجزيرة العربية، والذي كان يمثِّل تهديدًا مباشرًا لمشروع محمد علي النهضوي آنذاك.
وكان لكل مرحلة من المراحل المذكورة كذلك نسقٌ خاص من المؤسسات الثقافية. ولم يكن الشيخ رفاعة الطهطاوي إلا امتدادًا تركيبيًّا فذًّا من أستاذه الجليل الشيخ حسن العطار.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشیخ الزبیدی حاشیة على محمد علی ما کان کان من
إقرأ أيضاً:
هل يجوز قراءة القرآن من المصحف في صلاة التراويح؟ الإفتاء تجيب
هل يجوز قراءة القرآن من المصحف في صلاة التراويح؟ سؤال أجابت عنه دار الإفتاء المصرية.
وقالت دار الإفتاء المصرية فى إجابتها عن السؤال عبر صفحتها الرسمية على “فيس بوك”، إن قراءة القرآن من المصحف في صلاة التراويح جائزة.
واستدلت بأنه ثبت أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها كان يَؤُمها غلام لها صغير يقرأ من المصحف.
قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إن قراءةَ بعض آيات القرآن بعد الفاتحة سُنَّة في الركعتين الأُولَيَيْن من الصلاة، وذلك للإمام، قال الله تعالىٰ: {... فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ... } [المزمل:20]، ولو تُرِكَتِ القراءة بعد سورة الفاتحة فالصلاة صحيحة.
وأضاف أن الأصل في الصَّلاةِ أن تكون قراءةُ القرآن فيها عن ظَهْرِ قَلبٍ وليست من المصحف؛ لذا جعل النَّبِيُّ ﷺ معيار التفضيل في الإمامة الحفظ والإتقان للقرآن؛ لظاهر قوله ﷺ: «لِيَؤُمّكُمْ أَكْثَركُمْ قُرْآنًا» رواه البخاري.
أما قراءةُ المُصَلِّي من المصحف، فقد اختلف الفقهاء فيها؛ فذهب الشافعية، والحنابلة - في المعتمد- إلىٰ جواز القراءة من المصحف في الصلاة سواء كانت الصلاة فرضًا أم نفلًا.
وقد استدلُّوا بما ورد أن أم المؤمنين السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها: «كان يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِن المُصْحَفِ» رواه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم.
وتابع: “فرَّق المالكية بين الفرض والنفل، فَرَأَوا كراهةَ قراءة المصلِّي في المصحف في صلاة الفرض مطلقًا، وكذلك يكره في النافلة إذا بدأ في أثنائها؛ لاشتغاله غالبًا، ويجوز ذلك في النافلة إذا ابتدأ القراءة من المصحف من غير كراهةٍ؛ لأنه يُغتفَرُ فيها ما لا يُغتفَرُ في الفرض”.
بينما يرى الحنفية أنَّ القراءةَ من المصحف في الصلاة تفسدها، وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية؛ لأنَّ حمل المصحف، والنظر فيه، وتقليب الأوراق، عملٌ كثير.
وقال المركز إنه بناءً على ما سبق فإنَّ الأفضلَ والأَولَىٰ للمصلِّي أن يقرأ القرآن من حفظه؛ فقد امتدح الله ﷻ المؤمنين بحفظهم لكتابه الكريم، فقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ... } [العنكبوت:49]، ولأن السُّنة المحفوظة عن النبي ﷺ وأصحابه القراءة عن ظهر قلب.
فإن عجز عن ذلك، وكانت القراءةُ طويلة كما في صلاة القيام؛ فعندئذٍ يجوز له القراءةُ من المصحف، ولا حرج عليه في ذلك.
حكم القراءة من المصحف في صلاة الفرض
قالت دار الإفتاء، إن القراءة من المصحف في صلاة الفرض جائزة، ولا مانع للمصلي من القراءة من المصحف سواء يصلي الفرض أو السنة.