د. صالح الفهدي
توقَّفتُ عند رسالة صادرة من مكتبِ أحد الولاةِ أَبانَ فيها كثرة الشكاوي التي تصلُ بلدية الولاية فيما يشكِّلُ "ظاهرةً" حسبَ وصفه، موصيًا المشايخ والرُّشداء في الولاية بحل الإشكاليات الناجمة بين النَّاس دون الحاجة إلى رفع الشكوى إلى البلدية التي تشغلها مثل هذه الشَّكاوى التافهة؛ بل والكيدية في بعضها، وقد استوقفتُ عند الرسالةِ لأقول فيها مقالةً ترومُ تفنيدِ أسبابِ تلك "الظاهرة" التي تؤثِّرُ كما جاءَ في الرسالة سلبًا على تلاحم أبناء المجتمع.
نذكرُ أولًا الدور الرائد الذي كانت تقومُ به "السَّبلة العُمانية" وهي أحد أهم مرتكزات الثقافة العمانية، وواحدة من أهم روافد التربية الاجتماعية. في هذه السبلة التي تعتبر مجلسًا محليًّا تُطرحُ جميع القضايا والإشكاليات، أكان ذلك فيما يتعلَّقُ بالبلدةِ أم الأفراد فيتمُّ حلَّها من قبل الرُّشداءِ في تلك البلدة، وقد شهدنا في صِغرنا هذه التجربة التي ترسَّخت بقيمها في وجداننا؛ بل إن السبلة قد تجاوزت نطاق ما يدورُ في البلدةِ من قضايا؛ حيث استدعى أهل بلدةٍ ذات مرة مدير إحدى المدارس ليناقشوا معه خلافًا مع بعض أبناءِ البلدة في المدرسة وليحلُّوا ذلك الخلاف بعد أن فهموا أساسه من المديرِ ومن أبنائهم.
ثم ظهرت أنظمةٌ مؤسسيةٌ تتعلَّق بالدولة العصرية، فلم يعد للسَّبلةِ ذلك الدور الرائد والنافذ الذي كانت تقوم به في المجتمع، في مقابل ظهور المؤسسات الأُخرى كالادعاء العام، ومراكز الشرطة، والبلدية وغيرها، وهنا غابَ الأفرادُ المؤثِّرون (الشيخ والرشيد وأهل الرأي) من المشهد الاجتماعي، وتلك طبيعة دولة المؤسسات، وسيرورة الحياة.
الأمر الآخر لم يكن من السَّهلِ سابقًا للفرد أن يدَّعي أمرًا قد يكون كيديًا أو تافهًا في حضرةِ أهل بلدتهِ ضدَّ قريبٍ له؛ سواءً في الرَّحم أو الجوار لأنه يعلمُ أثرُ الموقف الاجتماعي الذي سيتَّخذُ ضدَّهُ من أهل بلدتهِ في حالِ ادعائه الزائف، وحجَّتهِ الباطلة المكشوفة. أما اليوم فلم يعد يواجهُ ذلك المشهد الاجتماعي المُحرج، ولا يرى تلك الوجوه التي قد يشعر نحوها بالخزي والخجل، وإنما يجدُ وحدةً حكوميةً لا يشعرُ فيها بالحرج من تقديمِ شكوى ضدَّ أخيهِ، أو قريبهِ، أو جارهِ، وقد أتاحت بعض الجهات السبيل واسعًا لكلِّ من جاءها يشتكي؛ وهذا ما شجَّعَ كل صاحبِ ادَّعاءٍ تافهٍ أن يضيِّعَ أوقاتَ موظِّفيها!
الأمر الثالث أنَّ تلك "الظاهرة" إنَّما تعبِّرُ عن هشاشة القيم الاجتماعية وما يعتري المجتمع من ضعف قيمي، وهذا مردَّهُ إلى سطحيَّة فهم الدين الذي يحسبه البعض عباداتٍ مجرَّدةٍ، فينتهي من صلاتهِ ويستقلُّ سيارته ليشتكي من أخيه، أو جاره، دون أن يرفَّ له جفنٌ، أو يشعر ضميره بالاستحياء، أو يبينَ على وجهه الحرج!
وعلاجُ ذلك في وجهة نظري يجب أن يكون عبرَ ثلاثة مسارات:
أولًا: النصحُ من قِبَلِ أهل الرُّشدِ والرأي وهذا يستدعي وجود ما يشبه لجان التوفيق والمصالحة تُنشئها كلَّ بلدةٍ ومنطقة وتُمنح صلاحيات أشبه بتلك الممنوحة لهذه اللِّجان من قِبل المحاكم، لتعالج القضايا المحلية الناشئة بين أفراد مجتمع القرية، ويتم انتقاؤهم بالترشيح. فإذا كانت هناك إشادة بما تقوم به لجان التوفيق والمصالحة، فهذا يدلُّ على قيمة ما يُمكن أن تفعله اللجان المحليَّة لحلِّ القضايا الناشئة.
ثانيًا: تعزيز القيم الاجتماعية؛ فالمُجتمع العُماني مجتمعٌ مُحافظٌ متديِّن، على أنَّ البعضَ لا يفهم من الدين إلا القشور، أو يقتصرُ على العبادات في حين أنَّ "الدين المُعاملة"، وأن العبادات مقصدها استقامة العلاقات السوية بين أفراد المجتمع الواحد الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم كـ"الجسد الواحد"، والقيم التي أبانها الدين الحنيف لتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع كثيرة لا تعد على سبيل المثال ما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَحاسدُوا، وَلا تناجشُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَدابرُوا، وَلا يبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْوانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم: لا يَظلِمُه، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَا هُنا ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ بِحسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المُسْلِمَ، كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ". (رواه مسلم). ولتفعيل هذا المسار يجب أن يمكَّن الوعَّاظ والخطباء من التركيز على تدعيم القيم الاجتماعية المؤيَّدةِ بالنصِّ والسنة المباركة.
ثالثًا: المسار الإجرائي لأيَّة قضية شكوى؛ حيث لا يجب التجاوب مع أيَّة قضيَّة تافهة تُرفع، ولا يجب إيلاء الاهتمام بأيَّة قضية كيدية تصل الجهات المعنية، فبعض الأفراد قد استسهلوا الأمر فأصبحوا رسلُ فتنةٍ وباطل لا يعنيهم جارٌ ولا قريب، وهؤلاءِ يُفترض أن يردعوا بقوةِ القانون إن هم استمرأوا الادعاء الزائف، والشكاوي الكيدية.
إنَّ كلَّ "ظاهرةٍ" يجب أن تعالج جذريًا في المجتمع حتى لا تتشعب في المجتمع فيكون علاجها بعد استفحالها وعمقها مستحيلًا لأنها تنكثُ النسيج الاجتماعي الذي يصعبُ إعادتهُ إلى الحالة المترابطة التي كانَ عليها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تعزيز التعاون بين مصر وقطر في المجالات التنموية والرعاية الاجتماعية
بحثت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، سبل التعاون المشترك بين وزارة التضامن الاجتماعي، وهيئة تنظيم الأعمال الخيرية بدولة قطر وجمعية قطر الخيرية، في عدد من المجالات التنموية المتعلقة بالرعاية الاجتماعية وكفالة الأيتام وقطاعات الصحة والتعليم والتمكين الاقتصادي، حيث تتطلع كافة الجهات في كلا البلدين لمزيد من التعاون في تلك المجالات.
400 مليون دولار توزع على الـ70 دولةواطلعت وزيرة التضامن الاجتماعي على عرض تقديمي لكافة الأعمال التي تقوم بها هيئة تنظيم الأعمال الخيرية وجمعية قطر الخيرية داخل قطر وخارجها، حيث تقدم جمعية قطر الخيرية خدماتها في 70 دولة حول العالم، ولديها 33 مكتبا ميدانيا في عدد من الدول، ويبلغ سنويًا حجم الإنفاق 400 مليون دولار توزع على الـ70 دولة، وتتطلع هيئة تنظيم الأعمال الخيرية وجمعية قطر الخيرية للتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي.
وأكدت الدكتورة مايا مرسي، على تعزيز التعاون بين البلدين في عدد من المجالات التنموية، فضلا عن تبادل الخبرات في مجال العمل الأهلي وأنظمة الحوكمة التي يتم تطبيقها في تنفيذ المشروعات.
جاء ذلك خلال لقاءها بطارق علي، سفير دولة قطر لدى مصر، ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، وإبراهيم الدهيمي المدير العام لهيئة تنظيم الأعمال الخيرية بدولة قطر، ويوسف الكواري الرئيس التنفيذي لجمعية قطر الخيرية، والوفد المرافق لهم، بحضور السفير إيهاب فهمي مساعد وزير الخارجية للشئون العربية، وذلك بمقر الوزارة بالعاصمة الإدارية الجديدة.
واستهلت وزيرة التضامن الاجتماعي اللقاء بالترحيب بزيارة سفير دولة قطر والوفد المرافق له، مشيرة إلى العلاقات المتميزة التي تجمع بين البلدين الشقيقين حكومة وشعبًا، والرغبة المشتركة بين كلا البلدين في تعزيز مجالات التعاون واستدامة الأعمال وتحقيقها نجاحات بما يعود بالفائدة على البلدين الشقيقين.