كتاب جديد يؤرخ للرؤساء الذين تعاقبوا على حكم اليمن بين سنتي 1962 و1994
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
توطئة: لماذا هذا الكتاب ولماذا الان؟
كان ينبغي أن يصدر هذا الكتاب في غُرّة الألفية الثالثة عام 2000 ولصدوره هذا العام قصة جديرة بان تروى.
يرجع اهتمامي بالشؤون اليمنية الى دراستي الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت. اخترت حينذاك أطروحة الجدارة في الأنتروبولوجيا عن أصول العامليين ومعتقداتهم في جنوب لبنان، لأكتشف فرضية هجرتهم من اليمن إلى بلاد الشام بعد خراب سد مأرب، وانتمائهم إلى عاملة بن سبأ.
ما زال العامليّون يتوارثون حتى اليوم اللقب العاملي مع تحريف مستجد للاسم، فيقال عن جبلهم الواقع في الجنوب، جبل عامل بدلا من عاملة. وإذ يختلف المؤرخون اللبنانيون حول نسبة جماعات وأماكن لبنانية أخرى، فانهم يتفقون على عاملية الجنوب اللبناني، بل يمكن أن نلاحظ تسميات مرتبطة بهذا النسب مثل: الكلية التربوية العاملية او الشاعر العاملي او الزعيم العاملي.
جاءتني صدفة غير متوقعة لزيارة اليمن في بداية عملي الصحفي في باريس، في ثمانينات القرن الماضي، حيث كنت بين قبضة من المساهمين في تأسيس مجلة " اليوم السابع " الفلسطينية.
تَلَقّتْ المجلة دعوة رسمية لزيارة شمال اليمن فأبتعد عنها الجميع، ذلك أن صورة هذا البلد في الخارج ما كانت جذابة. ناهيك عن هامشيته في تصنيفات تلك الحقبة، فهو بالكاد خرج من مَقاتِل رؤسائه ويسير رئيس الدولة في شوارع عاصمته بمواكبة آليات مدرعة.
التقطتُ الدعوة برغبة جامحة، رغم أني لم أعرف يمنيا واحدا من قبل وكانت معلوماتي حول هذا البلد سطحية للغاية، لكن فضولي لزيارة سد مأرب والاطلاع على سيرة القبائل التي هاجرت بعد خراب السد، طغى على ما عداه. كانت تلك الزيارة الأولى وكانت فاتحة تواصل مع هذا البلد وناسه لم ينقطع حتى اليوم.
بعد احتجاب "اليوم السابع" في تسعينيات القرن الماضي، انتقلتُ إلى العمل في أسبوعية" الوسط" اللندنية منذ صدور عددها الأول. تابعت الاهتمام بالشؤون اليمنية على صفحاتها، حتى احتجابها في العام 2003. ثم انتقلت من بعد إلى العمل على إعادة بناء بعض الصحف اليمنية وبخاصة "26 سبتمبر" ضمن استراتيجية إعلام واتصال جديدة ساهمتُ في وضع ملامحها. كنت أُطِلُّ على القراء اليمنيين من خلال عمود أسبوعي في الصحيفة تحت عنوان "عرب الألفية الثالثة" وذلك إلى أن أطاحت الأحداث بعقدي الموقع مع هذه المؤسسة في بداية العام 2011.
سبقت الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان ينبغي أن يصدر مُكَثفاً في بداية الألفية الثالثة، عندما كنت أعمل في مؤسسة الحياة السعودية وذلك ضمن كتابي المعروف " اليمن ـ الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة" الصادر في طبعته الأولى عام 1999 عن دار الجديد في بيروت وفي طبعته الثانية عام 2000 عن الدار نفسها وهو نافد اليوم.
في هذا الكتاب الذي يغطي زمن اليمن السياسي بين 1962 و1994، اعتمدت تحقيباً للسيرة السياسية اليمنية بالاستناد إلى عهود الرؤساء اليمنيين الذين تعاقبوا على الحكم شمالا وجنوبا خلال تلك الفترة. وكان عليّ أن أنشر سيرة الرئيس علي عبد الله صالح وسيرة نائبه علي سالم البيض كما نشرت سير الرؤساء السابقين.
اعترضتني صعوبات جمّة منذ مقاربتي الأولى لهذه السيرة، ذلك أن الرئيس الذي عرفته عن قرب وحمّلني ـ بعيدا عن جهازه الدبلوماسي ـ رسائل و"معاتبات" أنقلها إلى زعماء وشخصيات مهمة داخل وخارج اليمن، لا يحب الحديث عن نفسه، اما سيرته الرسمية المنشورة فهي تتضمن إشارات وتواريخ مختصرة، رقمية، باردة لا تتيح الاحاطة بظروف انتقاله من قاعدة المجتمع إلى قمة الدولة، فيما شطر من المحيطين به وليس الكل، يفضلون الحديث الدعاوي الرسمي المتحفظ، بل عبارات المديح والتقريظ الثقيلة الظل، والبعض الآخر لا يحب الافصاح عن هويته والإشارة إليه كمرجع جدير بالثقة يمكن اعتماده حجة في حكم أو مقاربة أو استنتاج.
بالمقابل لا يمكن الاستناد حصرا إلى روايات هجومية ومعادية يتناولها خصوم الرجل ويُرَاد منها شيطنته وإلقاء النتائج السلبية للتاريخ اليمني المعاصر على عاتقه. الأمر الذي أضفى على مهمتي صعوبات جدية، تمكنت من تذليل بعضها بمساعدة الجنرال علي محسن الأحمر الذي يُعتبرُ واحدا من بين قلة من اليمنيين الذين عرفوا الرئيس صالح عن كثب وعاشوا معه منذ الطفولة إلى ما يسمى بـ الربيع العربي، (قبل القطيعة في العام 2011 التي تسببت بأذى كبيرا للدولة اليمنية).
كانت للرئيس صالح في حينه علاقات وثيقة للغاية مع الجنرال الأحمر، فاستندت إليه في تحضير القسم الأول من سيرة الرئيس الشخصية وعرضت الفصل على أستاذ جامعي يمني ليساعدني في ضبط بعض الأسماء والتواريخ والمعلومات فما كان منه، سامحه الله، إلا الاتصال بالمحيطين بالرئيس وأعاد لي الفصل مدججا بملاحظات اعتراضية من نوع " عدم جواز التطرق إلى حياة الرئيس الخاصة" علما أن المعلومات "المشتبهة" مسنودة إلى الجنرال الأحمر وإلى رئيسي الوزراء الراحلين عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الإرياني وآخرين.
عرضت الأمر على المقربين من الرئيس وحدثته شخصيا عما جرى، فأحالني إلى شخصية سياسية قريبة منه. طيّبَ الرجل خاطري وقال لي إن الرئيس لا يحب الكاذبين وإن الصحفي الفلاني الذي كتب سيرته بتملق ومنهج دعاوي يستحق كتابه الاستقرار في سلة المهملات، وأكد لي هذا الشخص المحترم أنه يفضل أسلوبي ومنهجي لكن غالبية المنتمين إلى البيئة الرئاسية تحبذ نصا مصاغا بأفعال التفضيل وأوصاف المبالغة.
حملني اللقاء مع هذه الشخصية الهادئة والعقلانية على التخلي عن فكرة السيرة بانتظار فرصة أخرى، لذا غابت سيرة الرئيس علي عبد الله صالح عن كتابي المذكور وغابت أيضا سيرة نائبه علي سالم البيض فالحديث عن الوحدة والانفصال لا يتم بازدواج المعايير.
استعدت فكرة الكتاب بعد اغتيال الرئيس علي عبد الله صالح في ديسمبر ـ كانون الاول عام 2017. كنت في هذا الوقت قد جمعت ملاحظاتي واستنتاجاتي في دفاتر مستقلة لكنني لم أنكبّْ على العمل إلا في العام 2019 وصولا إلى العام 2023 تاريخ صدور هذه السيرة، التي سبقتها سِيَرٌ لنائب الرئيس علي سالم البيض وجارالله عمر ونصوص صحافية حول الشيخ عبد الله الأحمر وعبد العزيز عبد الغني ويحيى المتوكل.
التقيتُ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للمرة الأولى في العام 1987. اتصل بي الدكتور عبد الكريم الارياني قبل ساعتين من اللقاء" لا تتحرك من الفندق من الآن فصاعدا. سأمرُّ عليك ونخرج معا في سيارتي" اتجهنا إلى منزل الرئيس الشخصي، انتظرنا دقائق في صالون قوسي الشكل أو هكذا بدا لي، ثم جاء الرئيس مرحبا بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد "كيف حالك؟ كيف رأيت اليمن؟" اقتصر اللقاء على الجنرال عبد الله البشيري وربما الجنرال القاسمي ما عدت أذكر جيدا. كان مهتما بمعرفة نتائج المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية في الجزائر التي شاركت بتغطيتها ونشرت تفاصيلها في مجلة "اليوم السابع". كان بعض أطفال الرئيس يلعبون بالقرب منا، يركضون في المكان ويحدثون ضجيجا. لم يعبأ بهم. بدا الأمر طبيعيا بالنسبة له وللحاضرين. من جهتي كنت اكتشف للمرة الأولى مسؤولا سياسيا لا يقيم وزنا للبروتوكول الذي يرسم هرمية وحواجز وحدود ونمط سلوك رجل السياسة. طلبت منه إجراء مقابلة خاصة للمجلة قبل سفري وافق على الفور وبدا مستغربا عندما اعتذر مني الإرياني بقوله إن ما تبقى من اللقاء مخصص لبحث قضايا حكومية. فانصرفت على وقع عبارة الرئيس "ملتقيين".
في هذا اللقاء طرحت السؤال الذي رافقني أكثر من ربع قرن. كيف صار هذا الرجل رئيسا للجمهورية مختلفا عن الرؤساء الذين قابلتهم، بل القسم الأعظم من رجال سياسة التقيتهم وكنت أسخر من حرصهم الشديد على تعظيم البروتوكول وأتقزز من جملهم الخشبية وعباراتهم الفارغة.
لم يطلب مني علي عبد الله صالح أن أكتب سيرته أو كتابا عنه ولعله كان يحتقر المنافقين: قال لي ذات يوم ممتعضا من أحد رجال السياسة: انظر إلى ابتسامته الصفراء. لقد أنقذته من الوحل في المرة الأولى والثانية والثالثة وفي كل مرة كان يعود للتآمر عليّ".
نعم لم يطلب مني علي عبد الله صالح أن أكتب شيئا. كان يقول لي باللهجة اليمنية ما معناه "هذا البلد بلدك لك ان تفعل ما تشاء كما في بلدك".
هذا الكتاب هو ما شِئْتُ وما أتمنى أن يعيد إلى علي عبد الله صالح ما يستحقه في تاريخ بلده السياسي المعاصر. ولعل أفضل الختام ما ذكره الراحل عبد الله صالح عفاش. لعله لم يخطئ في قراءة مستقبل ابنه الأصغر، الذي خرج حقا من صخر الصوان ولعب أدوارا تاريخية في بلاده، يشهد عليها جبل نقم في شرق صنعاء وجبل عيبان في غربها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب اليمنية تاريخ اليمن كتاب تاريخ عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة علی عبد الله صالح هذا الکتاب الرئیس علی هذا البلد فی العام
إقرأ أيضاً:
اليمن.. دمٌ يروي أرض القدس وقيادةٌ تُعيد للأُمَّـة كرامتها
محمد يحيى الملاهي
في زمنٍ تكالبتْ فيه قوى الظلم والجور على غزة، وتخاذلتْ فيه الأنظمة العربيةُ عن مساندة إخوانها في فلسطين، بل وسعتْ بعضُها للتطبيع مع العدوّ الصهيوني، وقفَ اليمنُ صُلباً كالجبل، معبِّراً عن ضمير الأُمَّــة المغيب، متجاوزاً حدودَ الجغرافيا والصراعات الداخلية ليُقدِّم الغاليَ والنفيسَ دعماً غيرَ مسبوقٍ للمقاومة الفلسطينية.
لم تكن حملاتُ التبرع الشعبي، والوقفاتُ الاحتجاجية، والخروجُ إلى الساحات، مُجَـرّد تعاطفٍ فحسب، بل كانت إرثاً ثقافيًّا ودينياً متجذِّراً في ضمير الشعب اليمني. فتحتَ قيادة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، تحوَّل هذا الإرثُ إلى فعلٍ مقاومٍ تجسَّد في استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وإطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ الفرط صوتية نحو المواقع الحيوية للعدو، لتكونَ رسالةً للعالم: أنَّ القضية الفلسطينية ليست قضيةَ شعبٍ واحد، بل قضيةَ أُمَّـة بأكملها.
وبينما تنهكُ الحربُ والحصارُ اليمنَ، وتدفعُ به إلى أصعب مراحله الاقتصادية، تُنفقُ دولٌ عربيةٌ ملياراتِ الدولارات على دعم الاقتصاد الأمريكي، وعلى حفلاتِ الغناء والراقصات، وكأنَّ غزةَ ليست جرحاً في جسد الأُمَّــة. لكنَّ اليمنَ، رغم وضعه المزري، قدَّمَ لغزة ما لم تقدِّمه تلك الدولُ، مؤكّـداً أنَّ التضامنَ والوقوف مع فلسطين واجبٌ لا يتوقفُ على القدرة المالية، بل على الإيمانِ والالتزام، وكأنه يقول “القضية أكبر من أن تُقاس بالمال، وأعظم من أن تُحصر بالحدود”.
هذا الموقفُ لم يكن ردَّ فعلٍ عاطفي، بل ثمرةُ إيمانٍ عميقٍ بأنَّ الأرض المقدسةَ حقٌّ لأهلها، وأنَّ التضحيةَ في سبيلها واجبٌ دينيٌّ وإنسانيٌّ، امتثالاً لأمر الله: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكمُ النَّصْرُ﴾. فالشعبُ اليمني، المتشبِّثُ بهويته الإسلامية، رأى في نُصرة غزة امتداداً لمسيرته الجهادية عبر التاريخ.
وهكذا، بين حصار غزة وعدوان إسرائيل، وبين تخاذلِ البعضِ وشجاعةِ القلّة، وقف اليمنُ وحيداً كرمزٍ للتضحية، موقِّعاً بدمائه على صفحات الجهاد في سبيل الله، مُرسِلاً رسالةً للتاريخ: “الحقُّ لا يموتُ ما دام هناك من يضحِّي لأجله”.
ولن يكتفيَ اليمنُ بهذا، بل سيظلُّ – بقيادة السيد عبدالملك الحوثي – جاهزاً بكل قواته وإمْكَانياته، فإذا عاد العدوانُ على غزة، عاد اليمنُ بقوةٍ أشدَّ، ليُكرِّسَ مقولته الخالدة: “نحن جندُ القضية.. وسنبقى في الخندق الأول حتى النصر أَو الشهادة”.