توطئة: لماذا هذا الكتاب ولماذا الان؟

كان ينبغي أن يصدر هذا الكتاب في غُرّة الألفية الثالثة عام 2000 ولصدوره هذا العام قصة جديرة بان تروى.

يرجع اهتمامي بالشؤون اليمنية الى دراستي الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت. اخترت حينذاك أطروحة الجدارة في الأنتروبولوجيا عن أصول العامليين ومعتقداتهم في جنوب لبنان، لأكتشف فرضية هجرتهم من اليمن إلى بلاد الشام بعد خراب سد مأرب، وانتمائهم إلى عاملة بن سبأ.



ما زال العامليّون يتوارثون حتى اليوم اللقب العاملي مع تحريف مستجد للاسم، فيقال عن جبلهم الواقع في الجنوب، جبل عامل بدلا من عاملة. وإذ يختلف المؤرخون اللبنانيون حول نسبة جماعات وأماكن لبنانية أخرى، فانهم يتفقون على عاملية الجنوب اللبناني، بل يمكن أن نلاحظ تسميات مرتبطة بهذا النسب مثل: الكلية التربوية العاملية او الشاعر العاملي او الزعيم العاملي.

جاءتني صدفة غير متوقعة لزيارة اليمن في بداية عملي الصحفي في باريس، في ثمانينات القرن الماضي، حيث كنت بين قبضة من المساهمين في تأسيس مجلة " اليوم السابع " الفلسطينية.

تَلَقّتْ المجلة دعوة رسمية لزيارة شمال اليمن فأبتعد عنها الجميع، ذلك أن صورة هذا البلد في الخارج ما كانت جذابة. ناهيك عن هامشيته في تصنيفات تلك الحقبة، فهو بالكاد خرج من مَقاتِل رؤسائه ويسير رئيس الدولة في شوارع عاصمته بمواكبة آليات مدرعة.

التقطتُ الدعوة برغبة جامحة، رغم أني لم أعرف يمنيا واحدا من قبل وكانت معلوماتي حول هذا البلد سطحية للغاية، لكن فضولي لزيارة سد مأرب والاطلاع على سيرة القبائل التي هاجرت بعد خراب السد، طغى على ما عداه. كانت تلك الزيارة الأولى وكانت فاتحة تواصل مع هذا البلد وناسه لم ينقطع حتى اليوم.

 بعد احتجاب "اليوم السابع" في تسعينيات القرن الماضي، انتقلتُ إلى العمل في أسبوعية" الوسط" اللندنية منذ صدور عددها الأول. تابعت الاهتمام بالشؤون اليمنية على صفحاتها، حتى احتجابها في العام 2003. ثم انتقلت من بعد إلى العمل على إعادة بناء بعض الصحف اليمنية وبخاصة "26 سبتمبر" ضمن استراتيجية إعلام واتصال جديدة ساهمتُ في وضع ملامحها. كنت أُطِلُّ على القراء اليمنيين من خلال عمود أسبوعي في الصحيفة تحت عنوان "عرب الألفية الثالثة" وذلك إلى أن أطاحت الأحداث بعقدي الموقع مع هذه المؤسسة في بداية العام 2011.

سبقت الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان ينبغي أن يصدر مُكَثفاً في بداية الألفية الثالثة، عندما كنت أعمل في مؤسسة الحياة السعودية وذلك ضمن كتابي المعروف " اليمن ـ الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة" الصادر في طبعته الأولى عام 1999 عن دار الجديد في بيروت وفي طبعته الثانية عام 2000 عن الدار نفسها وهو نافد اليوم.

في هذا الكتاب الذي يغطي زمن اليمن السياسي بين 1962 و1994، اعتمدت تحقيباً للسيرة السياسية اليمنية بالاستناد إلى عهود الرؤساء اليمنيين الذين تعاقبوا على الحكم شمالا وجنوبا خلال تلك الفترة. وكان عليّ أن أنشر سيرة الرئيس علي عبد الله صالح وسيرة نائبه علي سالم البيض كما نشرت سير الرؤساء السابقين.

اعترضتني صعوبات جمّة منذ مقاربتي الأولى لهذه السيرة، ذلك أن الرئيس الذي عرفته عن قرب وحمّلني ـ بعيدا عن جهازه الدبلوماسي ـ رسائل و"معاتبات" أنقلها إلى زعماء وشخصيات مهمة داخل وخارج اليمن، لا يحب الحديث عن نفسه، اما سيرته الرسمية المنشورة فهي تتضمن إشارات وتواريخ مختصرة، رقمية، باردة لا تتيح الاحاطة بظروف انتقاله من قاعدة المجتمع إلى قمة الدولة، فيما شطر من  المحيطين به وليس الكل، يفضلون الحديث الدعاوي الرسمي المتحفظ، بل عبارات المديح والتقريظ الثقيلة الظل، والبعض الآخر لا يحب الافصاح عن هويته والإشارة إليه كمرجع جدير بالثقة يمكن اعتماده حجة في حكم أو مقاربة أو استنتاج.

بالمقابل لا يمكن الاستناد حصرا إلى روايات هجومية ومعادية يتناولها خصوم الرجل ويُرَاد منها شيطنته وإلقاء النتائج السلبية للتاريخ اليمني المعاصر على عاتقه. الأمر الذي أضفى على مهمتي صعوبات جدية، تمكنت من تذليل بعضها بمساعدة الجنرال علي محسن الأحمر الذي يُعتبرُ واحدا من بين قلة من اليمنيين الذين عرفوا الرئيس صالح عن كثب وعاشوا معه منذ الطفولة إلى ما يسمى بـ الربيع العربي، (قبل القطيعة في العام 2011 التي تسببت بأذى كبيرا للدولة اليمنية).

كانت للرئيس صالح في حينه علاقات وثيقة للغاية مع الجنرال الأحمر، فاستندت إليه في تحضير القسم الأول من سيرة الرئيس الشخصية وعرضت الفصل على أستاذ جامعي يمني ليساعدني في ضبط بعض الأسماء والتواريخ والمعلومات فما كان منه، سامحه الله، إلا الاتصال بالمحيطين بالرئيس وأعاد لي الفصل مدججا بملاحظات اعتراضية من نوع " عدم جواز التطرق إلى حياة الرئيس الخاصة" علما أن المعلومات "المشتبهة" مسنودة إلى الجنرال الأحمر وإلى رئيسي الوزراء الراحلين عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الإرياني وآخرين.

عرضت الأمر على المقربين من الرئيس وحدثته شخصيا عما جرى، فأحالني إلى شخصية سياسية قريبة منه. طيّبَ الرجل خاطري وقال لي إن الرئيس لا يحب الكاذبين وإن الصحفي الفلاني الذي كتب سيرته بتملق ومنهج دعاوي يستحق كتابه الاستقرار في سلة المهملات، وأكد لي هذا الشخص المحترم أنه يفضل أسلوبي ومنهجي لكن غالبية المنتمين إلى البيئة الرئاسية تحبذ نصا مصاغا بأفعال التفضيل وأوصاف المبالغة.

حملني اللقاء مع هذه الشخصية الهادئة والعقلانية على التخلي عن فكرة السيرة بانتظار فرصة أخرى، لذا غابت سيرة الرئيس علي عبد الله صالح عن كتابي المذكور وغابت أيضا سيرة نائبه علي سالم البيض فالحديث عن الوحدة والانفصال لا يتم بازدواج المعايير.

استعدت فكرة الكتاب بعد اغتيال الرئيس علي عبد الله صالح في ديسمبر ـ كانون الاول عام 2017. كنت في هذا الوقت قد جمعت ملاحظاتي واستنتاجاتي في دفاتر مستقلة لكنني لم أنكبّْ على العمل إلا في العام 2019 وصولا إلى العام 2023 تاريخ صدور هذه السيرة، التي سبقتها سِيَرٌ لنائب الرئيس علي سالم البيض وجارالله عمر ونصوص صحافية حول الشيخ عبد الله الأحمر وعبد العزيز عبد الغني ويحيى المتوكل.

التقيتُ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للمرة الأولى في العام 1987. اتصل بي الدكتور عبد الكريم الارياني قبل ساعتين من اللقاء" لا تتحرك من الفندق من الآن فصاعدا. سأمرُّ عليك ونخرج معا في سيارتي" اتجهنا إلى منزل الرئيس الشخصي، انتظرنا دقائق في صالون قوسي الشكل أو هكذا بدا لي، ثم جاء الرئيس مرحبا بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد "كيف حالك؟ كيف رأيت اليمن؟" اقتصر اللقاء على الجنرال عبد الله البشيري وربما الجنرال القاسمي ما عدت أذكر جيدا. كان مهتما بمعرفة نتائج المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية في الجزائر التي شاركت بتغطيتها ونشرت تفاصيلها في مجلة "اليوم السابع". كان بعض أطفال الرئيس يلعبون بالقرب منا، يركضون في المكان ويحدثون ضجيجا. لم يعبأ بهم. بدا الأمر طبيعيا بالنسبة له وللحاضرين. من جهتي كنت اكتشف للمرة الأولى مسؤولا سياسيا لا يقيم وزنا للبروتوكول الذي يرسم هرمية وحواجز وحدود ونمط سلوك رجل السياسة. طلبت منه إجراء مقابلة خاصة للمجلة قبل سفري وافق على الفور وبدا مستغربا عندما اعتذر مني الإرياني بقوله إن ما تبقى من اللقاء مخصص لبحث قضايا حكومية. فانصرفت على وقع عبارة الرئيس "ملتقيين".

في هذا اللقاء طرحت السؤال الذي رافقني أكثر من ربع قرن. كيف صار هذا الرجل رئيسا للجمهورية مختلفا عن الرؤساء الذين قابلتهم، بل القسم الأعظم من رجال سياسة التقيتهم وكنت أسخر من حرصهم الشديد على تعظيم البروتوكول وأتقزز من جملهم الخشبية وعباراتهم الفارغة.

لم يطلب مني علي عبد الله صالح أن أكتب سيرته أو كتابا عنه ولعله كان يحتقر المنافقين: قال لي ذات يوم ممتعضا من أحد رجال السياسة: انظر إلى ابتسامته الصفراء. لقد أنقذته من الوحل في المرة الأولى والثانية والثالثة وفي كل مرة كان يعود للتآمر عليّ".

نعم لم يطلب مني علي عبد الله صالح أن أكتب شيئا. كان يقول لي باللهجة اليمنية ما معناه "هذا البلد بلدك لك ان تفعل ما تشاء كما في بلدك".

هذا الكتاب هو ما شِئْتُ وما أتمنى أن يعيد إلى علي عبد الله صالح ما يستحقه في تاريخ بلده السياسي المعاصر. ولعل أفضل الختام ما ذكره الراحل عبد الله صالح عفاش. لعله لم يخطئ في قراءة مستقبل ابنه الأصغر، الذي خرج حقا من صخر الصوان ولعب أدوارا تاريخية في بلاده، يشهد عليها جبل نقم في شرق صنعاء وجبل عيبان في غربها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب اليمنية تاريخ اليمن كتاب تاريخ عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة علی عبد الله صالح هذا الکتاب الرئیس علی هذا البلد فی العام

إقرأ أيضاً:

السفير أحمد علي عبدالله صالح.. حديث الساعة واللحظة عند اليمنيين

*وسام عبدالقوي الدبعي

رب ضارة نافعة.. مقولة لا تكاد تتطابق مع حال كما هي مع حال السفير أحمد علي عبدالله صالح، وقرار مجلس الأمن بتطبيق العقوبة بحقه، منذ بدء الأزمة اليمنية وانقلاب المليشيا وحربها مع قوى الشرعية والتحالف العربي.. ففي حين يشهد لهذا الرجل قبل الأزمة بكونه رجل دولة من الطراز الرفيع والنادر، وبالانضباط في أداء مهامه سواء في السلك العسكري أو المدني أو الدبلوماسي، وعدم الإخلال بأي من الأنظمة أو التجاوز لأي من القوانين، منذ ظهر اسمه على الساحة الوطنية، تأتي الأزمة السياسية الحالية فيكون من أول قرارات المجتمع الدولي تطبيق هذه العقوبة بحقه وحق والده الشهيد المرحوم علي عبدالله صالح، الرئيس الذي وحد اليمن وشهدت البلاد، خلال فترة حكمه 33 عاماً، أفضل مراحلها على امتداد التاريخ..

نعم لقد كان هذا القرار وما يزال بحق الزعيم الشهيد وابنه السفير ظالماً بكل المقاييس، ومنعدماً للأسباب والمبررات، خصوصاً وتحديداً فيما يتعلق بالأخ السفير أحمد علي عبدالله صالح، الذي لم يشهد تاريخه العسكري والسياسي أية لوثة أو تهمة أو حتى شائعة مسيئة، تبرر اتخاذ موقف بحقه وتجاهه من قبل أحد، وبالرغم من ذلك صدر ذلك القرار المجحف بحقه، وما يزال مستمراً منذ عشر سنوات.. فكلما حضر هذا الاسم وحضر ذكر هذه العقوبات، حضر عنوة وضرورة ذكر المكائد والمؤامرت التي يحيكها المجتمع الدولي ومؤسساته ومنظماته بحق البلدان والشعوب، خصوصاً في مجتمع بلدان العالم الثالث، الذي يتعامل معه الغرب ومن يقفون وراء هذه الكيانات والمنظمات، بعدائية واستهداف مستفزين للغاية..!!

هذه الأيام ومع تحريك الشرعية والتحالف ملف السفير أحمد علي عبدالله صالح، والمطالبة برفع العقوبات عنه، أصبح السفير هو العنوان الرئيسي لأي نقاش أو حوار سياسي يحضر في مجلس أو اجتماع أو تجمع في أوساط اليمنيين.. وما يميز كل حديث عن هذه الشخصية القيادية الفذة، أن معظم اليمنيين يبدون القبول والرضا عنه ويتوقون لإيقاف العقوبات بحقه، باعتباره الشخصية السياسية والعسكرية والدبلوماسية، التي لم يشهد أن يمنياً واحداً تأذى منها، بل على العكس من ذلك يشهد له كما أسلفنا بكونه شخصية وطنية ونموذجا أخلاقيا يشار إليه بالإعجاب والاحترام، وتمني الاقتداء به من قبل الشخصيات السياسية والعسكرية الموجودة على الساحة..

وفي حين يتم التعجب والاستغراب نحو العقوبات بحق السفير، يرى الكثيرون أن هذه العقوبات لم تضر به، بقدر ما خدمته، بأن وضعته جانباً وأقصته من دوائر سفك الدماء والمزايدات الوطنية والاستغلال السياسي، وغير ذلك من الحالات المزرية التي شهدها الوطن وما يزال يشهدها طوال الأزمة وحتى اللحظة الراهنة، لتنطبق عليه مقولة رب ضارة نافعة.. بل ويستبشر عدد غير قليل من اليمنيين بأنباء رفع العقوبات عن السفير، متمنين أن يكون لهذا الرجل يد في تغيير الحال الراكد الذي يخيم على البلد، ولديهم ثقة بأن نظافة سجله سابقاً ولاحقاً، وعلو رصيده ومكانته لدى العامة والخاصة، من أهم الأسباب والعوامل التي ترجح وجوده كورقة رابحة في أي تطور سياسي يمكن أن تعقد عليه آمال اليمن واليمنيين.

مقالات مشابهة

  • امتلاكُ اليمن الصواريخَ فرط صوتية.. ما أهميتُها وكيف ستغيِّــرُ خارطةَ المواجهة؟
  • حرم الرئيس الفلبيني تزور جامع الشيخ زايد الكبير في أبوظبي
  • قرينة الرئيس الفلبيني تزور جامع الشيخ زايد الكبير
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (4/5)
  • كتاب جدد حياتك للشيخ محمد الغزالي
  • الرئيس الأرجنتيني يواصل مسلسل إهاناته للرؤساء والقادة ويطلق وصفا جارحا على نظيره البرازيلي
  • خالد صالح وجلال الشرقاوي.. أبرز المكرمين في احتفالية وزارة الثقافة بذكرى 30 يونيو
  • نصوص في الذاكرة.. الغريب من كتاب أبي حيان التوحيدي
  • تحليل أمريكي: الحوثيون يكسبون والغرب يخسر وعاجز عن ردعهم.. حكومة الشرعية في خطر
  • السفير أحمد علي عبدالله صالح.. حديث الساعة واللحظة عند اليمنيين