الجزيرة:
2024-11-08@21:06:59 GMT

هوس المعبد الثالث يصل الكونغرس

تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT

هوس المعبد الثالث يصل الكونغرس

في صباح 31 من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وفي خضم الحرب الإسرائيلية الطاحنة على قطاع غزة، كان عدد من القادة الدينيين والسياسيين الأميركيين يجتمعون في متحف الكتاب المقدس في العاصمة واشنطن، ضمن برنامج بدأ تنفيذه سنويًا ابتداءً من عام 2022 في هذا المكان باسم (التجمع الوطني للصلاة والتوبة)، تنفذه مؤسستان أميركيتان هما (مجلس بحوث الأسرة) و(وبل فيرسد) اللتان يديرهما عدد من أتباع التيار المسيحي اليميني المتشدد في الولايات المتحدة.

ومن أهم الشخصيات التي حضرت هذا البرنامج كان رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري مايك جونسون المعروف بانتمائه للتيار اليميني المحافظ. إضافةً إلى عدد من أعضاء مجلس النواب، ومجلس الشيوخ الأميركي من المحافظين الجدد المنتمين للحزب الجمهوري كذلك.

هذا التجمع السنوي بدأ حديثًا مع تصاعد قوة التيار اليميني في الولايات المتحدة، وخاصة في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لكن اللافت في هذا التجمع هذا العام أنه خصص النصف الثاني من البرنامج الممتد لخمس ساعات لصالح إسرائيل، حيث تم تقديم عدد من الفقرات اللافتة للنظر، فقد قدم البرنامجُ ضيفَ شرفٍ غير مألوف، وهو الحاخام يتسحاق (تساحي) مامو، وهو حاخام متطرف يسكن في مستوطنة عوفرا بالضفة الغربية، ويعد أحد أهم المسؤولين عن محاولات شراء وتسريب العقارات في القدس، ولا سيما في حي الشيخ جراح، حيث يعتبر مامو أحد عرابي طرد سكان الحي منه بالقوة.

تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل يعد امتدادًا لتيار الحاخام المتطرف مائير كاهانا الذي صنفته الولايات المتحدة الأميركية تنظيمًا إرهابيًا عام 1997 في عهد إدارة كلينتون الديمقراطية، التي كانت من خلال ذلك تحاول الحفاظ على حليفتها إسرائيل من هذا التيار وآثاره التخريبية على إسرائيل نفسها

وللمفارقة، فإن مامو تم تقديمه خلال البرنامج باعتباره أحد المسؤولين عن رعاية البقرات الحمراء التي يتم إعدادها لإجراء عملية الحرق والتطهير الدينية التي يعول عليها تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل لإلغاء فتوى منع اليهود من دخول المسجد الأقصى المبارك، ومعه صديقه الأميركي بايرون ستينسون، وهو مسيحي أنجليكاني متطرف من ولاية تكساس الأميركية، وهذا الشخص هو الذي كان مصدر البقرات الحمراء التي نقلت إلى إسرائيل قبل عامٍ ونصفٍ.

وتبين خلال البرنامج أن هذين الشخصين هما المسؤولان المباشران عن عملية إنتاج خمس بقرات حمراء بالهندسة الجينية واستقدامها إلى إسرائيل؛ تمهيدًا لذبحها وحرقها وإجراء طقوس التطهير الدينية التي تتيح لتيار الصهيونية الدينية فتح الباب أمام إلغاء فتوى الحاخامية الكبرى لإسرائيل بمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى المبارك، وفتح الباب على مصراعيه بالتالي لاقتحام عشرات الآلاف للمسجد.

على مدار 35 دقيقة، قدم الحاخام مامو مرافعةً طويلةً حول الإجراءات التي قام بها هو وصديقه المسيحي الأنجليكاني بالتعاون مع عدد من المسؤولين الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ودول أخرى لتجهيز الأدوات والمواد والاحتياجات اللازمة؛ لإجراء أعمال التطهير وبناء المعبد الثالث مكان قبة الصخرة المشرفة.

والرجل الذي يشغل الآن منصب القنصل الفخري لدولة بابوا غينيا الجديدة القريبة من إندونيسيا، كان قد لعب دورًا مركزيًا في إقناع هذه الدولة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بل وفتح سفارةٍ لها في القدس في الخامس من سبتمبر/ أيلول عام 2023، أي قبل شهر واحد فقط من إطلاق عملية "طوفان الأقصى" والحرب الحالية على غزة.

في ذلك الوقت لم أستوعب سبب الحماس الذي كان لدى بابوا غينيا الجديدة لفتح سفارة لها في القدس هكذا دون مقدمات، حتى استمعت لخطاب مامو الذي كشف أن جيمس مارابي رئيس وزراء بابوا غينيا الجديدة يعتبر من المسيحيين الأنجليكانيين المتشددين، وأن أعضاء حكومة هذا البلد يعتقدون أن بابوا غينيا الجديدة كانت مصدر الذهب الذي غطى معبد سليمان الأول المذكور في التوراة!

وبناء على ذلك فإنهم وقعوا اتفاقًا مع شركات يبدو أنها إسرائيلية، يتم من خلالها التنقيب عن الذهب في بابوا غينيا الجديدة على أن يخصص ثلث الحصص المستخلصة لصالح الحكومة، والثلث لصالح الشركة المنقبة، ويخصص الثلث لصالح بناء المعبد الثالث في القدس.

إضافةً إلى هذا الحاخام المتطرف، فإن البرنامج المذكور استضاف ضيف الشرف التالي، وهو عضو الكنيست أوهاد تال، وهو – للمفارقة – عضو في الكنيست عن حزب الصهيونية الدينية الذي يرأسه بتسلئيل سموتريتش، ويسكن في مستوطنة إفرات في الضفة الغربية كذلك.

وحضر هذا الشخص في هذا البرنامج خصيصَى ليكرر كافة الكذبات التي نشرتها إسرائيل منذ بداية الحرب حول الاغتصاب، وإحراق الناس، وقطع رؤوس الأطفال، وغير ذلك، والتي تبين كذبها بالكامل.

وكذلك خصصت كلمة لدومينيك بيرمان، وهي شخصية إسرائيلية أميركية جدلية تدعو إلى ما تسميه "عودة المسيحية إلى أصولها اليهودية" مع زوجها الحاخام باروخ بيرمان، وهذه الشخصية تدعو علانية لضرورة تطهير الأرض بين النهر والبحر من الفلسطينيين وجعلها يهوديةً بالكامل.

والعجيب أنها دعت الساسة الأميركيين خلال هذا البرنامج إلى تحقيق "الوعد الإلهي" بتسليم الأرض من الفرات حتى النيل إلى اليهود، بل ونفخت البوق اليهودي بالرغم من أن البرنامج يعد مسيحيًا بالدرجة الأولى.

ما يلفت النظر في هذا البرنامج ليس مجرد وجود هذه الشخصيات الإسرائيلية المتشددة التي تتبع جميعها لتيار الصهيونية الدينية في هذا البرنامج باعتبارهم ضيوف الشرف وفتح الباب واسعًا لهم لتقديم رؤيتهم الدينية التي يبنون عليها قراراتهم وحركتهم السياسية المليئة بالنبوءات الدينية حول نهاية العالم ومجيء المسيح، وغير ذلك، وإنما كون مثل هذا البرنامج المتخم بالتعصب الديني يتم برعاية كاملة من الكونغرس الأميركي الذي يسيطر عليه الجمهوريون حاليًا.

فحضور شخصيات بحجم رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، وهو الرجل الثالث في سُلم الحكم حسب الدستور الأميركي بعد الرئيس ونائبه، برفقة أكثر من عشرين من نواب وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في الكونغرس الأميركي، ومشاركتهم في الصلاة بكلمةٍ لكل واحد منهم، يعطي إشارةً واضحةً إلى طبيعة الشخصيات التي توجد اليوم على رأس سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية وتوجهاتها.

ففي الوقت الذي يرى فيه العالم أن تيار الصهيونية الدينية الخَلاصي في إسرائيل بات يشكل خطرًا كبيرًا على العالم كله باعتباره ينظِّر للحرب المقدسة ونهاية العالم وقدوم المسيح، ويرسم سياسات حكومة نتنياهو التي يحكم سيطرته عليها بناءً على هذه التصورات والأساطير الدينية، فإن هذه الشخصيات التي تتبوأ عددًا من أهم المناصب التي ترسم السياسة الخارجية الأميركية تَعتبر تيار الصهيونية الدينية الإسرائيلي حليفًا لها في الحقيقة.

وهذا يمثل تحولًا مهمًا في السياسة العامة للحزب الجمهوري الأميركي الذي بات فيما يبدو تجمعًا للمتعصبين دينيًا من أقصى اليمين إلى حد كبير.

لا ننسى في هذا الصدد أن تيار الصهيونية الدينية في إسرائيل يعد امتدادًا لتيار الحاخام المتطرف مائير كاهانا الذي صنفته الولايات المتحدة الأميركية تنظيمًا إرهابيًا عام 1997 في عهد إدارة كلينتون الديمقراطية، التي كانت من خلال ذلك تحاول الحفاظ على حليفتها إسرائيل من هذا التيار وآثاره التخريبية على إسرائيل نفسها، وذلك بعد ثلاث سنوات من تنفيذ أحد أتباعه، وهو باروخ غولدشتاين، مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل.

لتأتي حكومة بايدن الديمقراطية – للمفارقة – وترفع هذا التيار من لوائح الإرهاب الأميركية في شهر مايو/أيار عام 2022؛ بزعم مرور فترة طويلة من الهدوء وعدم لجوء أتباع هذا التيار إلى العنف.

في نظري، لا يمكن أن تصل علاقات تيارٍ كانَ – إلى ما قبل عامين فقط – مصنفًا على لوائح الإرهاب إلى هذه الدرجة من القوة والتحالف العميق مع تيار المحافظين الجدد المتدين الأميركي خلال سنتين فقط، إذ لابد من أن الروابط بين تيار المحافظين الجدد المتدين في الولايات المتحدة والتيار الكاهاني – الذي أنتج الصهيونية الدينية في إسرائيل بدوره – تعود إلى فتراتٍ أقدم من هذه، ولم تكن متأثرةً بتصنيف هذا التيار على لوائح الإرهاب الأميركية.

وهذا الأمر يعطي مؤشرات خطيرة حول التحولات التي تجري لدى الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية.

إن التعصب الديني والجري وراء النبوءات الخَلاصية التي تميز تيار الصهيونية الدينية الحاكم فعليًا في إسرائيل قد تغلغل -الآن كما يبدو- في أروقة الكونغرس الأميركي، وإن لم تتمكن هذه النبوءات الخلاصية بعدُ من إحكام سيطرتها على الحكم في الولايات المتحدة.

لكن ما حصل في واشنطن نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي ينذر بأننا قد نكون على أعتاب مرحلة خطيرة ربما لم تشهد لها المنطقة مثيلًا، وهذا يحتم على أصحاب العقول – لا في منطقتنا فقط، بل في العالم كله – تفهم خطورة أن يمسك هؤلاء المتعصبون بمفاتيح الأرض، ويجب أن يعمل ساسة العالم على كبح جماح هذا التطرف الديني الذي يجرّ المنطقة والعالم كله إلى كارثة محققة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الولایات المتحدة الأمیرکیة بابوا غینیا الجدیدة فی الولایات المتحدة هذا البرنامج هذا التیار الدینیة ا فی القدس عدد من فی هذا

إقرأ أيضاً:

مصير الصهيونية في فكر عباس العقاد

 

محمَّد عبد الشَّافي القُوصِي **

يُعدُّ كتاب "الصهيونيَّة العالميَّة" -المُكوّن من 24 فصلًا- مِن أبرز الكُتب الفكريَّة التي ألّفها الكاتب المصري الكبير عباس العقّاد؛ إذْ يستمدّ قيمته من ناحيتين، نوضحهما في السطور التالية.

الناحية الأولى: موضوع الكتاب وعنوانه الدالّ عليه، فقد أحاط بأسرار الحركة الصهيونية من مختلف جوانبها، حسبُنا ما قاله عنه الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسْل "إنه أهم كتاب صدر في القرن العشرين". وقال الفيلسوفُ الفرنسي روجيه جارودي: "هذا أشمل كتاب تناول دعوى الصهيونية منذ مَنشئِها إلى التنبؤ بزوالها".

ومع أنَّ هذا الكتابُ" صدر منذ قرابة ثمانين عامًا (1956)، لكن لا يستطيع أحد أن يضيفَ إليهِ شيئًا بعد مرور تلك السنين، فلا غِنى عنه للذين يعملون في مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد والقانون والفكْر والأدب، وفي مجالات عِلم النفس والاجتماع أيضًا.

أما الناحية الثانية التي يستمدّ الكتابُ قيمته منها، فهي ترجع إلى مؤلّف الكتاب العقَّاد، عميد المثقّفين العرب؛ الذي اجتمعت فيه كلّ صفات العبقريّة؛ مِن صفاء الذهن، وقوة الإلهام، والحضور الفكري، وسِعة الأُفُق، وتعدّد المواهب.

وقد استعمل منهج "التحليل النفسي" كمنهج لسبر أغوار سلوكيات الصهاينة الشائنة وأفعالهم المتناقضة ... وقد استهلَّ كلامه قائلًا: "ليس هناك أبغض للناس من كلمة "الصهيونية"، فهي بغيضة من كل بلد، بغيضة في كل زمن، لا يُحبّها ولا يَعطف عليها أحد، سوى أنصارها المستعمرين والمتعصبين. فالصهاينة لم يألفوا أحدًا ولم يألفهم أحدٌ منذ عُرِف اسم العبريين في التاريخ، فالخُلُق الذميم الذي تأصَّل فيهم منذ أقدم العصور، جعلهم بُغضاء منبوذين في كل مكانٍ أقاموا فيه، وهم يَعرفون أنهم مَبغضون ولا يَستغربون، وخصومهم –أيضًا- يَعرفون أنهم يبغضونهم ولا يستغربون؛ لأنهم يعرفون جذوره وأسبابه".

الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر

استطاع العقّاد أن ينبش في حفريات التاريخ وأغواره، بحثًا عن جذور الصهيونية، إلى أن توصّلَ إلى أنها لم تكن في الماضي عقيدةً دينية، بلْ كانت نزعة سياسية، لهذا نشأت أول الأمر في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، حيث بلغ الضغط على اليهود أشده في القرن التاسع عشر، ثمَّ نشأت مع المسألة الشرقية واستخدمها الساسة لتحقيق مطامعهم في بلاد "الرجل المريض" أيْ: الدولة العثمانية كما سمَّاها رواد الاستعمار.

الصهيونية وليدة السياسة والسياسيين، وجملة أسبابها هي: الاضطهاد وظهور الفكرة القومية ومطامع الاستعمار، فهي مسؤولة عن كل فاصلٍ تقيمه بينها وبين أُمَم العالَم؛ لأنها من قديم الزمن تُقسّم العالمَ إلى قسميْن متقابلين: قِسم إسرائيل وهم صفوة الخَلْق وأصحاب الحظوة عند الله لغير سبب إلاَّ أنهم أبناء إسرائيل، وقِسم آخَر يسمّونه قِسم الأمم أو «الغوييم» ويشملون به جميع الناس من جميع الأقوام والأجناس".

ويؤكد العقاد أنَّ التاريخ يَشهد بأنَّ الصهاينةَ لا يَعرفون دينًا، ولا يعترفون بقانونٍ ولا شريعة، ولم يَعرفوا الولاءَ والإخلاص في الطاعة لمن يتولى شؤونهم، وكل ما عرفوه وعرفوا به في تاريخهم الطويل طبيعة التمرد والالتواء والعصيان! ومِمَّا يؤيد تلفيق الدعوى الدينيَّة في مسألة الصهيونية الحديثة، أنَّ زعيم الصهيونية "تيودور هرتزل" كانت فكرته الأولى تحويل اليهود إلى المسيحية".

"الصهيونية ودعوى الاضطهاد"

تحت هذا العنوان، يرى العقّاد أنَّ الصهاينة يستغلونَ دعوى الاضطهاد، ويتخذونها وسيلةً لتخيُّر الأمم باسم الإنسانية والغيرة على الحرية، كما أنهم يتوقعون الاضطهاد ويستثيرونه بوقوفهم موقف المقاومة له، سواء تعرضوا له أو حرضوه بالعزلة والتآمر على استغلال الآخرين، مع أنهم أشدّ الناسِ اضطهادًا لغيرهم إذا مَلكوا القدرة الظاهرة أو الخفية، بلْ إنَّ الصهيونية هي المسؤولة عن كل اضطهاد تجرُّه على نفسها وعلى أبناء دينها ... إنه مرض نفسي في الصهاينة على نحو لا يقبل المراء... ومن أعراض ذلك المرض أنهم يُسمُّونَ ربَّ العالَم «رب إسرائيل» ويَحسبون أنه خَلَقهم وحدهم له، وخلق الأمم جميعًا لخدمتهم إلى آخر الزمان! وتراهم يتدرَّجونَ مِن طمع إلى طمع كلَّما أنِسُوا التشجيع أوْ الإغضاء من دول الاستعمار.

فهم يقولون: إنَّ الاضطهاد هو علَّة الصهيونية الأولى، وإنَّ قيام الصهيونية يقضي على هذه العلة أو يمنع تجديدها. والحقيقة التي نريد أن نُقررها هي أنَّ الاضطهاد نتيجة لداء مُزمن في اليهود سيبقى معهم في كيانهم الجديد كما كان معهم في دولتهم القديمة ... فمَن الذي اضطهد اليهود في مملكة سليمان حتى انقسمت على أهلها، ثمَّ انقسم كل شطر من شطريْها على أهله؟ ومَن الذي اضطهدهم يوم تمردوا على كل نبيٍّ من أنبيائهم، وكل قائدٍ من قادتهم، وهم بعيدون من سلطان غيرهم؟

عصبية الصهيونية

يقول العقَّاد: إنَّ تقلُّبات السياسة هي مادة وجود الصهيونية وبقائها، فهي حالة لم تُعرف لها سابقة في التاريخ. فالدول الكبرى تُعين الصهاينة تعصبًا على الإسلام والعرب، فلم نسمع أنَّ "إسرائيل" تُدان في أيّ جريمة تقترفها، لكنها تتجنَّى على غيرها وتشكوه. فتنفتح الآذانُ والصدور لاستماع شكواها .. ولكن البِنيَة لا تستمد الحياة من معونة غيرها إن لم يكن فيها قوام الحياة، ومتى وقفت "إسرائيل" في جانب من عزلتها وعصبيتها، ووقف العالَمُ كله على سِعته في جانب الحذر منها؛ فذلك هو المصير الذي لا مراء فيه، وذلك هو الختام.

وإذا كان في وُسِع الدول الكبرى أن تصنع كثيرًا لإسرائيل، لكنَّ شيئًا واحدًا لا تستطيعه لأنه لا يستطاع. فليس في وسعِها أن تُغنِيها عن معونتها، وإنْ طال صبرها على معونتها فليس في وسِعها أن تضمن لها دوام التقلّبات السياسية في مصلحتها، ولا أن تقتلع من طباع أبنائها جذور ذلك الداء الذي شكاه أنبياؤها قديمًا: داء الرقبة الغليظة، وليس له دواء.

مصير الصهيونية وبنيتها المتناقضة

تحت هذا العنوان، ذكَر العقّاد جُملة من التناقضات تضرب بمعولها في كيان إسرائيل من أساسه، ويقول: إنها قد أُنشِئت لتكون وطنًا قوميًّا لليهود، فهل هي كذلك الآن؟ وكيف يمكن أن تكون وطنًا قوميًّا لهم بأيّ معنى من معاني الوطنية؟ إنها لا تسع يهود العالَم، ولا يهود العالم يرغبون جميعًا في الانتقال إليها. قد صدف عنها من رحلوا إليها، وتبيَّنَ للكثيرين منهم أنَّ مقامهم في الديار الأجنبية أنفع لهم من محاولتهم العقيمة في البلاد التي يزعمون أنها وطنهم المختار. وإذا طال بإسرائيل عمرها وجاء اليوم الذي يتكرر فيه اضطهاد النازية والفاشية فليس من البعيد أن تصدَّ إسرائيلُ سيولَ الهجرة إليها كما تصدَّها الأممُ الأخرى؛ لأنها لا تستطيع أن تأويهم، بلْ لا تريد إيواءهم باختيارها، سواء قصدوا إليها للإقامة الدائمة أوْ للإقامة الموقوتة.

يَخلُص العقاد في نهاية الكتاب إلى أنَّ إسرائيل هي القضاء المبرم على إسرائيل وعلى الصهيونية بعدها بأمدٍ قصير. وقريبًا، سيأتي اليوم الذي يعلم فيه الصهاينة أنَّ قيام إسرائيل نكبة عليهم ونكسة بهم إلى عزلتهم الأولى وعصبيّتهم الباطلة التي يعاديهم الناس من أجلها ويعادون مِن أجلها كل إنسان لا يحسبونه من خلق الله، ولا في عداد "شعب الله المختار".

ويؤكد أنَّ العامل المهم في بقاء الصهيونية بفلسطين يتوقَّف على إرادة الدول العربية في نهاية المطاف –كما يقول العقّاد- فلن تدوم الصهيونية في الشرق الأدنى إذا عملت الدول العربية على أن تموت ولا تدوم، ولن تحيا إسرائيل إذا بقيت مقاومة العرب راصدة لها في كفة انحلالها وفنائها ولو دامت لها معونة الثقليْن، وهي لا تدوم. ليس للأمم العربية من خيار إلاَّ مقاطعة حلفاء إسرائيل، والكفّ عن معاملتها.

الحقَّ أقول: إنَّ هذا الكتاب من أروع ما خطَّته أنامل الكاتب المبدع عبَّاس العقَّاد الذي فنَّد مآرب الصهيونية وأكاذيبها.

** أديب ومترجم وباحث في مقارنة الأديان

** يُنشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية بلبنان

مقالات مشابهة

  • "أهل مصر".. معبد الدير البحري يستقل أطفال المحافظات الحدودية بالأقصر
  • 4 نواب من أصول عربية يحتفظون بمقاعدهم في الكونغرس الأميركي
  • الحزن يخيم على قرية كامالا هاريس في الهند
  • مصير الصهيونية في فكر عباس العقاد
  • نعيم قاسم: الميدان هو الذي سيوقف العدوان وصواريخنا ستصل لكل إسرائيل
  • السبت القادم.. انطلاق البرنامج التدرببي TEA للعام الثالث بمنطقة الشرقية الأزهرية
  • زيارة لمعبد الأقصر ضمن أسبوع "أهل مصر" لأطفال المحافظات الحدودية
  • انتخابات 2024 تزيد نسبة التنوع في الكونغرس الأميركي
  • انتخابات الكونغرس الأميركي.. كفة راجحة للجمهوريين
  • فوز أول متحولة جنسيا بعضوية الكونغرس الأمريكي