اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

استكمالاً لما كنا قد بدأنا الحديث عنه، على ضوء الآيات القرآنية المباركة، في قصة نبي الله آدم "عَلَيْهِ السَّلَام"، وبداية الوجود البشري، في سياق أن نقدِّم بعض المحاضرات والدروس على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، من القصص الذي فيه الدروس والعبر المهمة والمفيدة، سبق لنا الحديث على ضوء ما ورد من الآيات المباركة في (سورة البقرة)، وفي (سورة الأعراف)، ونتحدث اليوم باختصار على ضوء ما ورد من الآيات المباركة في بعض السور الأخرى.

يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في الآيات المباركة من (سورة الحجر): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: من الآية26]، فالله بيَّن لنا كيف ابتدأ خلق الإنسان، وهذه مسألة مهمة؛ لأنه- كما قلنا في المحاضرات السابقة- يحاول أهل الضلال والباطل من أولياء الشيطان، وبالذات الذين لهم ارتباط بالصهيونية واليهودية، يحاولون أن يقدِّموا بداية الوجود البشري على أنها بداية مجهولة، ثم أن يفترضوا لها افتراضات تخمينية، قائمة على التخمين، والهواجس، والظنون، والأوهام، وليست مبنيةً على حقائق، وبناءً على ذلك قدَّموا تصوراً خاطئاً جداً عن بداية الوجود البشري، مجرداً من التكريم، وهم يركزون على هذه المسألة.

التوجه اليهودي هو قائم على الامتهان لكرامة البشر، وتقديم تصورات خاطئة، تُرَسِّخ لدى الإنسان أنه مجرد حيوان، متطور عن قرد، وأنه لا كرامة له، ولا تكريم له في خلقه ودوره؛ فالله بيّن لنا بداية الوجود البشري، وأنَّ الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" ابتدأ خلق الإنسان ككائن مستقل في نفسه، يعني: ليس فرعاً عن مخلوقٍ آخر، أو نتيجةً للتطور من حيوان إلى حيوان آخر، بل ابتدأ خلقه مباشرةً من طينة الأرض.

سبق لنا الحديث عن أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" خلق الإنسان ككائن أرضي، من طينة الأرض، ومهمة هذا الإنسان مرتبطة بالاستخلاف في الأرض، والمسؤولية في هذه الحياة، وبيّن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" المادة التي خلق الإنسان منها، وهي: من طينة الأرض، طينة الأرض التي كانت حمأً: تراب أسود متغير لكثرة ما بقي مبتلاً بالماء، وهذا الطين الذي هو بهذا الشكل: ابتلى بالماء حتى تغير، واتجه لونه إلى الأسود، سنَّه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بمعنى: أنَّ الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" حرَّكه كثيراً حتى تمازج أكثر وأكثر، وسوَّى منه هيكلًا وشكلًا إنسانيًا، فتحول إلى صلصال، والصلصال عندما ييبس الطين الذي كان طيناً رطبًا آسناً، فييبس تمامًا، يتحول إلى صلصال، يجف وعندما ينقره شيء، أو يصطدم به شيء، يُصَلْصِل، يصدر منه صوت، كما نراه في آنية الفخار، وكما قدَّم التشبيه في الآية القرآنية في (سورة الرحمن): {كَالْفَخَّارِ}[الرحمن: من الآية14]، لكن الفخار طُبِخ بالنار، ويُبِّس بالنار؛ أمَّا الصلصال فلم يُيبس بالنار، بل يبس إمَّا جف نتيجةً للشمس والرياح والعوامل الأخرى. فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" خلق الإنسان من هذه المادة، وبيّن لنا كيف ابتدأ خلق الإنسان من طينة الأرض.

{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}[الحجر: من الآية27]، يعني: من قبل خلق الإنسان، فَخَلْقُ الجان قبل خلق الإنسان، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر: من الآية27]: من مادة مختلفة عن المادة التي خلق الله الإنسان منها، (نَارِ السَّمُومِ) السَّمُومِ: الهواء الحار، وفي (سورة الرحمن) قال: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: من الآية15]، فهو مخلوقٌ من اللهب، اللهب الناري الذي ينقطع من النار.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 28-29]، وتحدثنا عن مسألة تقدم خلق الملائكة قبل خلق البشر بدهرٍ طويل، وعن الدور المرتبط بالملائكة، وعن عبادتهم، وعن علاقتهم بمستقبل الإنسان، علاقتهم بمستقبل الإنسان في مهام ترتبط بوجود هذا الإنسان، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أعلمهم، وبيَّن لهم أنه (خَالِقٌ بَشَرًا): بشراً من طينة هذه الأرض، والإنسان كائنٌ بشريٌ، في تكوينه، وجلده، وجسمه، (مِنْ صَلْصَالٍ): أصل هذا البشر مخلوقٌ من الصلصال، والصلصال هذا صنعه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وسواه (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).

{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، عندما يسوِّيه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يسوِّيه بشكله، وتصميمه، وهيكله، فينفخ فيه الروح، الروح التي بها حياة الإنسان، وهي سرٌ من أسرار الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء: من الآية85]، لا يعرف البشر ماهية هذا الروح، ولا يعرفون تفاصيل عنه، ولكن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" إذا نفخه في الإنسان؛ بعث فيه الحياة، بعث فيه الحياة، وأضافه إليه في قوله: {مِنْ رُوحِي}؛ لأنه خالقه ومالكه، ولتشريف الروح، فهو آيةٌ عجيبةٌ، وله سره العجيب في الإنسان، في تكوين الإنسان، مكوّنٌ مهمٌ في تكوين الإنسان، الإنسان الذي كوَّنه الله وخلقه وأوجده من التراب أضاف إليه الروح، فهو إضافة مهمة في تكوين الإنسان، ولها أثرها فيما يتعلق بالإنسان في حياته، في تفكيره، في مداركه، في أشياء كثيرة، خصائصه، طاقاته... أشياء كثيرة تتعلق به، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، وهو سجود تكريم، تكريم لآدم، وعبادة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأنه تسليمٌ لأمر الله، وطاعةٌ له "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر: الآية30]، امتثلوا أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" دون تردد، وبكلهم، وهم أصناف كثيرة (الملائكة)، ومستويات في مقامهم، في منازلهم، لكنهم سجدوا.

{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر: الآية31]، إبليس الذي كان يعبد الله في صفوف الملائكة، وبين أوساط الملائكة، امتنع عن السجود بشدة، لم يسجد معهم، وامتنع من السجود معهم، {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر: 31-32]، وسبق لنا أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أراد بهذا السؤال لإبليس: أن يكشف لنا نحن السبب والدافع، الذي ليس بمبرر لإبليس في امتناعه عن السجود؛ إنما هو دافعٌ سيء، وليس مبرراً مشروعاً، فلما كانت المسألة ذات أهمية بالنسبة لنا في أن نعرفها، أراد الله أن نعرفها باعتراف مباشر من إبليس نفسه: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر: الآية33]، فهو بيَّن أن السبب وأن الدافع الذي دفعه لتلك المعصية هو: الكبر، عقدة الكبر، وهي عقدة خطيرة جداً، حيث اعتبر أنه في عنصره الذي خُلِق منه، وهو النار، أعلى شأناً وقدراً من أن يسجد لمخلوقٍ من التراب، فكانت عنده عقدة الكبر، وهو بهذه العقدة تجاهل أشياء كثيرة:

في مقدِّمتها: أنَّ أي مخلوق من مخلوقات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، من الجن، والملائكة، والإنس، عليه أن يُنَفِّذ أوامر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بالنظر إلى أنها أوامر من الله، وليس بأي اعتبارات أخرى، فأي أمرٍ من أوامر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، مقتضى العبودية لله أن نُنَفِّذه، وأن نطيع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهذا شرفٌ عظيم، وليس فيه أي هوان لأي مخلوق، أن يطيع أمر الله، وأن يُنفِّذ أمر الله؛ لأن حق الله على عباده بكلهم (من الجن، والملائكة، والإنس) حقٌ عظيم، حق الألوهية على العباد، والبقية كلهم عبيد لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولذلك ليس هناك أمام أوامر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أي اعتبارات أخرى تبرر لأي مخلوق أن يعصي أمر الله، هذا أولاً.
ثانياً: حتى في تصوره الخاطئ، هو نظر إلى هذه المسألة نظرة ليس له فيها مبرر، حتى في المفاضلة، التراب يخلق الله منه النباتات، التراب فيه الكثير من المعادن النفيسة والرائعة، التراب ليس شيئاً ممتهناً، مبتذلاً؛ فليس له تبرير حتى في نظرته، هي نظرة أصلاً خاطئة.
ولكن العنوان الأول هو الأهم: أنَّ مقتضى العبودية لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" طاعة أوامر الله، وتنفيذها بالنظر إلى أنها أوامر من الله، وليس بالنظر إلى ما تتعلق به، فأوامر الله حقٌ، وحكمةٌ، وخيرٌ، وهو "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" العليم الحكيم، والمسألة بنفسها- يعني: ما أمرهم الله به من السجود تكريماً لآدم، عبادةً وخضوعاً لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"- ليست المسألة مرتبطة بإصدار أحكام، في من هو الخير، ومن هو الأفضل، ومن هو... المسألة مسألة التزام بأوامر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفيها دروس تربوية هامة جداً، وحيثياتها لا تعود إلينا، أن الإنسان بحاجة إلى أن يُفلسف له الله في كل أمرٍ ونهيٍ ، وأن يُصدر له ما يقنعه في ذلك، كذلك بقية المخلوقات.

الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أيضاً نفخ في الإنسان من روحه، الروح التي هي أيضاً عنصر آخر تجاهله إبليس تماماً.
وكذلك تجاهل ما زوَّد الله به الإنسان من مدارك، من طاقات، من قدرات.
تجاهل أن الله علَّم آدم الأسماء كلها.
تجاهل كل شيء، وهي من نتائج الكبر، من نتائج عقدة الكبر: أنَّ المخلوق (سواءً من الإنس، أو الجن) يعمى عن الكثير من الحقائق، وينظر من جانبٍ واحدٍ فقط، ولاعتبارات محدودة، وينسى بقية الأشياء، أو يتجاهل بقية الأشياء ولا يلتفت إليها.

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر: من الآية34]، طُرِد من بين صفوف الملائكة؛ لأن مقام الملائكة هو مقام عبادة، مقام مُقدَّس، ليس فيه إلَّا الطاعة لله، والعبادة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ليس مكاناً للعصاة؛ فَطُرِد من بينهم مهاناً، وهي نتيجة التكبر، نتيجة التكبر: الهوان والصغار، {فَاخْرُجْ مِنْهَا}، وقد خسر مقامه، خسر عبادته، خسر كل شيء، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، يعني: مطرود، مطرودٌ ويرجم، ويمنع عليه منعاً باتاً العودة إلى الملائكة، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر: من الآية35]، هو سبَّب لنفسه بعصيانه لله، وبتكبره، ومعصيته معصية خطيرة جداً؛ لأنها بدافعها، وبما كان سبباً لها، وبشكلها وحقيقتها وفي جوهرها، جمعت جوانب خطيرة جداً من المعصية لله، فهو اتهم الله في حكمته وعلمه، وأساء إلى الله بذلك إساءة عظيمة، هذا من الكفر: الاتهام لله في عدله وفي حكمته، والاعتراض على الله في أمره، فهو جمع بين:

المعصية الفعلية التي هي: الامتناع من السجود.
مضافاً إليها: الاعتراض على أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
مضافاً إليها: الاتِّهام لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في عدله وحكمته.
وحتى التخطئة للملائكة، هو خطّأ الملائكة في سجودهم، واعتبرهم مخطئين في ذلك، وأنَّ عليهم أن يمتنعوا كما امتنع هو عن السجود لآدم.
فجمع أشياء كثيرة في معصيته والعياذ بالله، معصية خطيرة، كلها تفرَّعت عن عقدة الكبر، وبعض المعايب يتفرَّع عنها معاصٍ كثيرة وخطيرة جداً.

{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" غضب عليه، وطرده، ليس فقط من صفوف الملائكة، بل طرده من رحمته، فلن يمنحه أي توفيقٍ منه أبداً، أصبح مطروداً من رحمة الله، هذا معنى اللعنة: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}، نعوذ بالله! وهو استحق الطرد من رحمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، لم يبق جديراً بالرحمة من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الرحمة التي يحظى من خلالها بالتوفيق، بالتثبيت، بالهداية، بالتسديد، بالتوبة عليه، ولذلك أصبحت الحالة بالنسبة له حالة خطيرة جداً، تعزز في نفسه الخبث، الشر، الإجرام، فسد أكثر، وابتعد عن ساحة الرحمة الإلهية، وهي حالة خطيرة جداً والعياذ بالله، ولعنة مستمرة، مستمرة إلى يوم الدين، يوم الجزاء؛ أمَّا عندما يأتي الجزاء فهو سيتجه إلى جهنم والعياذ بالله، إلى مستقر لعنة الله، جهنم هي مستقر لعنة الله، مثلما- في المقابل هناك- الجنة مستقر رحمة الله.

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر: 36-38]، طلب الإنظار، الإنظار؛ ليبقى على قيد الحياة من جهة، وليتم إمهاله، فلا يُعاجل بالعقوبة المهلكة قبل ذلك؛ لأنه خاف أن يعاجل بالعقوبة المهلكة، عندما لعنه الله، وطرده من رحمته، وغضب الله عليه، وهي حالة خطيرة جداً، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر: 35-36]، هو معترف بالله، معترف بربوبية الله، معترف بالقيامة، بالجزاء، بالحساب، بالجنة والنار، يعرف كل هذه الحقائق، ولكنه لم يستفد من معرفته تلك في زكاء نفسه، هو تورَّط بشكلٍ خطيرٍ جداً في التمحور حول ذاته، ونمت في نفسه الأنانية والغرور والعجب؛ فتولَّد عن ذلك الكبر والعياذ بالله، حالة خطيرة جداً.

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، كشف الله له أن في تدبير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وفي حكمته أن يُنْظِرَه؛ ولذلك فهو سيبقى على قيد الحياة، لا يعاجله الموت، ولا العقوبة المهلكة، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}، إلى وقتٍ محددٍ معلومٍ في تدبير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وحكمته وعلمه، البعض يقولون أنه: في النفخة الأولى يوم الوقت المعلوم، البعض يتصورون أنه ما قبل ذلك، والله أعلم متى هو بالتحديد، هل في النفخة الأولى، أم قبل ذلك؟! لكن تفيد الآية المباركة: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، أنه سيبقى على قيد الحياة دون أن يفاجئه أو يعاجله الموت ما قبل، أو العقوبة المهلكة، إلى مرحلة متأخرة من حياة البشرية.

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر: الآية39]، تحدثنا سابقاً ما يعنيه بقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}، أنَّه يحمِّل الله مسؤولية وقوعه في الغواية، هو أوقع نفسه في الغواية، بذنبه، بعقدته، التي هي عقدة الكبر، ولكنه يريد أن يحمِّل الله المسؤولية في ذلك؛ احتجاجاً عليه لماذا أمره بالسجود لآدم، وكأنها مهمة مستحيلة، لن يطيق تنفيذها، وسيتَّجه الاتجاه الذي هو اتَّجاه المعصية والغواية، والخروج عن طريق الحق، وهذا ذنبٌ آخر مضافاً إلى ذنوبه التي تتابعت، ومعصية كبيرة وفظيعة؛ لأنه هو الذي أوقع نفسه في الغواية، وهو السبب حتى فيما وصل إليه، حتى في أن يكون في نفسه عقدة الكبر، تنمو في نفسه، وتتجذر إلى تلك الدرجة والعياذ بالله.

فهو يريد أن يقول: أنه سيتَّجه ومن موقع وبدافع الحقد على الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والحقد على البشر، أصبح في نفسه حقد على الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وحقد على عباد الله، وهي أيضاً من الحالات الخطيرة التي قد تنشأ نتيجةً لبعض المعاصي والعقد الخطيرة جداً: أن يصل مخلوق معين (من الإنس، أو الجن) إلى درجة أن يحقد على الله، وأن يحقد على البشر أيضاً! فهو يؤكِّد ويقسم قسماً بأنه سيتَّجه للإغواء، العمل الأساس الذي سيتَّجه له في كل الفترة التي يُنظِرُه الله فيها، ويمهله فيها، أنَّه سيتَّجه للإغواء: لإخراج الناس عن طريق الحق، عن صراط الله المستقيم، وصدهم عن صراط الله المستقيم، والسعي لإغوائهم عنه، وإخراجهم عنه، كمهمة أساسية، يريد أن يركِّز عليها، ويرى أنها أكبر وأهم طريقة للانتقام، أصبحت عنده عقدة الانتقام، مع أنه لا ذنب لآدم فيما وقع فيه، ولا لبني آدم فيما وقع فيه إبليس، الذنب ذنبه هو، فهو اتَّجه هذا الاتِّجاه، والله كشف خطته للناس، التي سيعمل على أساسها، وماذا سيركز عليه في عدائه الشديد جداً، هذا عداء فوق ما نتخيل؛ لأنه يريد أن يبقى في حالة انتقام، وحالة استهداف لبني آدم بالإغواء جيلاً بعد جيل، وأمةً بعد أمة، وفي كل قطرٍ وبلد، يريد أن يستهدفهم استهدافاً شاملاً، {أَجْمَعِينَ}، فتوجهه بالاستهداف هو استهداف شامل لبني آدم.

ويعتمد- مثل ما كشف الله للناس- يعتمد أساليب الإغواء والتزيين، {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}[الحجر: من الآية39]، التزيين الذي يحاول من خلاله أن يجرَّهم إلى المعاصي، فهو يزيِّن لهم سواءً فيما يتعلق بالأرض، أو في واقع الحياة، حياتهم المرتبطة بما أنعم الله به عليهم من النعم، فيكون تعاملهم مع ما أنعم الله به عليهم من النعم في هذه الأرض، تعاملاً بعيداً عن شكر النعم، بسوء الاستخدام لنعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومعصية الله في نعمه، الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أنعم على البشر نعماً عظيمة، ونعماً واسعة، فهو سيزين لهم سوء الاستخدام لنعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وسوء التصرف فيها؛ لأن نعم الله علينا بدءاً في أنفسنا: ما وهبنا من طاقات، من قدرات، من حواس، من أعضاء، من جوارح، ثم ما منَّ به علينا في هذه الأرض؛ فالشيطان سيعمل على أن يدفع بالإنسان لسوء التصرف، وسوء الاستخدام لنعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ما كان منها في نفسه، وما كان منها في الأرض، في كيفية التعامل معها تعاملاً فيه معصية لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وإساءة إلى الله "جلَّ شأنه".

وتوعُّده بأنه سيستهدفهم جميعاً، وسيعمل على إغوائهم، باعتبار- وسبق في (سورة الأعراف): {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف: من الآية17]- أنَّه سيبحث عن كل ما يمكن أن يؤثِّر به على الناس، بحسب اختلاف المؤثرات عليهم، واختلاف رغباتهم، واختلاف طموحاتهم:

فالبعض من الناس قد يكون التأثير عليه عن طريق الشهوات المادية، متعلقة بالطعام، بالشراب، البعض الشهوة الجنسية.
البعض من الناس الطموحات في المناصب، والأمر، والنهي، والسمعة... وهكذا.
البعض من الناس الشهرة، ولو بشيءٍ آخر: الشهرة بالعبادة، الشهرة بكمالات معينة يسعى الإنسان إلى أن يحصل عليها عند الناس بأي وسيلة، بأي طريقة، حتى بما فيه معصية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
حالات الغضب والانفعال، وهي مدخل آخر، ويتولَّد عنها أحقاد، وتتولَّد عنها معاصٍ كثيرة، مظالم، وأشياء كثيرة جداً.
فيما يتعلق بأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والتقصير في أوامر الله، أو العصيان لله فيما أمرنا به، في مسؤولياتنا في هذه الحياة، وتجاه أوامر الله، كذلك هو يشتغل في مسألة الأمر والنهي الإلهي، ويستخدم أسلوب التزيين، الذي يحاول أن يغري به، وأن يجذب من خلاله، وأن يستدرج الإنسان بواسطته إلى المعصية، وإلى المخالفة: إمَّا لأمرٍ من أوامر الله، أو نهيٍ من نواه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، بالرغم من حقده على الجميع، وسعيه لاستهدافهم بكلهم، والإيقاع بهم في الغواية بأجمعهم؛ من شدة حقده عليهم، يريد أن يغويهم بكلهم، من آدم إلى آخر كائنٍ بشري، ولكنه يدرك أنَّ ذلك ليس بممكن، وأنه لا يستطيع أن يحقق لنفسه تلك الرغبة الشيطانية؛ ولذلك استثنى هو، فقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فهو يدرك أنه لا قدرة له عليهم، وعلى التأثير عليهم، وعلى إغوائهم، لماذا؟ هو وصفهم بالمُخْلَصين.

وعباد الله المُخلَصين: الذين عبَّدوا أنفسهم لله، وأخلصوا أنفسهم لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، واتَّجهوا في حياتهم على هذا الأساس: من منطلق العبودية لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

وحالة الإخلاص لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، حتى يكون الإنسان خالصاً من الشوائب، التي هي ثغرات للشيطان عليه، هي في إطار البرنامج الإيماني، التربية الإيمانية، يتربى الإنسان فيها على التخلُّص من الشوائب الخبيثة، التي يستغلها الشيطان في التأثير على الإنسان، وهناك شوائب خطيرة جداً تتفرَّع عنها المعاصي، مثلما هو الحال- مثلاً- بالنسبة للكبر، من الشوائب الخطيرة جداً، إذا وُجِدَت في الإنسان؛ يتفرَّع عنها الكثير من المعاصي، مثلما هو الحال بالنسبة للطمع، الطمع حالة خطيرة جداً، إذا وُجِدَت في الإنسان، وتحكمت بالإنسان، ونمت في الإنسان، وتجذرت في الإنسان؛ كانت ثغرةً خطيرةً للتأثير عليه... وهكذا الحالات التي يتجاوز الإنسان فيها توازنه ورشده، فهي حالات خطيرة جداً، يستطيع الإنسان؛ لأنها حالة طغيان، يستغلها الشيطان، ويحاول من خلالها الإيقاع بالإنسان في المعاصي.

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر: 40-43]، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" بيَّن أنه سيرسم لعباده الصراط المستقيم، الذي فيه نجاتهم، وفلاحهم، وفوزهم، ويمكِّنهم من السير في هذا الصراط، بحيث لا يتمكَّن الشيطان من منعهم من أن يسيروا في ذلك الصراط، ولا يمتلك القدرة، ولا السلطة، ولا التأثير لأن يمنع أحداً منهم على طريق القسر، أو يعيقه عن السير في الصراط المستقيم.

ولكن تكون المشكلة عند الإنسان نفسه: إذا اتَّبع الشيطان، إذا قام هو ابتداءً باتِّباع الشيطان، واستجاب له، الشيطان فقط يوسوس، فإذا كان الإنسان هو بعد وسوسة الشيطان بادر للاستجابة للشيطان، واتَّبعه، وأطاعه، وهو في هذه الحالة يزداد تأثير الشيطان عليه، كلما أطاع الشيطان أكثر؛ كلما ازداد تأثير الشيطان عليه أكثر، فنفسه تخبث، كلما خبثت نفسية الإنسان؛ ازداد ميلاً واتجاهاً مع الشيطان، وقرباً من الشيطان، الشيطان هو خبيث، ورجس، ونجس، خبثت نفسه، خبثت إلى درجة رهيبة جداً، فعندما يكون الإنسان هو الذي استجاب للشيطان؛ فنفسه تخبث، وهو يُبعِد نفسه أكثر وأكثر من رحمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بل البعض من المعاصي لخطورتها، عليها لعن، عليها لعن، نجد في القرآن الكريم قائمة من المعاصي، الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يلعن من يرتكبها؛ لخطورتها، وسوئها، وفظاعتها، الإنسان إذا ارتكبها؛ طُرِد من رحمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتركه الله من توفيقه، تركه للشيطان، والشيطان يزداد تأثيره عليه.

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، فهو لا يملك- الشيطان- لا يملك السلطة، ولا التأثير لإجبار الناس على السير في طريقه، في طريق الغواية، وصدهم عن الصراط المستقيم، لا يتمكَّن من منع أي أحد من السير في الصراط المستقيم.

{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، فهو يمتلك التأثير فيهم؛ نتيجةً لمعصيتهم لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وخبث نفوسهم، وابتعادهم عن رحمة الله، عن هدايته؛ لأنه يزيد من اهتدى هدىً، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، فنفسية الإنسان تخبث بالمعصية، وتأثير الشيطان عليه يزداد، ويتعوَّد هو أن يستجيب للشيطان، أن يتَّجه في نفس تلك الميول التي تكبر في نفسه، تلك المؤثرات بنفسها تكبر وتنمو في نفسه أكثر وأكثر، فيستغلها الشيطان عليه.

{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}، كل الغاوين الذين يخرجون عن طريق الحق، يخرجون عن صراط الله المستقيم، ويتَّجهون مع الشيطان، كلهم موعدهم جهنم، والله غنيٌ عنهم، لا تضره معصية من عصاه، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ}، جهنم التي هي مستقر العذاب الأبدي، العذاب الرهيب، العقوبة الإلهية الرهيبة جداً، {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}؛ لأن أسباب الغواية متنوعة ومختلفة في واقع البشر، والبشر الغاوون أصناف وفئات كثيرة في أسباب غوايتهم، ولكن بكلهم موعدهم هو جهنم والعياذ بالله.

{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية44]، فهم سبعة أصناف، أهل نار جهنم يقسَّمون إلى سبعة أصناف، بحسب أنواع معاصيهم، وأسباب غوايتهم، ونوع غوايتهم، ومستوى العذاب هو بحسب ذلك: بحسب أعمالهم السيئة، وانحرافهم، ومعاصيهم.

{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}، فالنتيجة في الاتِّباع للشيطان، والغواية، الغواية عن طريق الحق، عن صراط الله المستقيم، نتيجتها الخسران، والشيطان هو خاسر، إبليس هو خاسر، ويريد أن يوقع الآخرين معه في الخسارة الرهيبة، يريد أن يوقع البشر معه في تلك الخسارة الرهيبة جداً، وأن يكون مصيرهم معه إلى ذلك العذاب الشديد، ويعتبر أنَّ هذه أكبر طريقة في حربه على البشر، وفي الانتقام منهم، في عقدته عليهم، يرى أنَّ أهم طريقة هي تلك الطريقة التي يوصلهم بها إلى جهنم والعياذ بالله، {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} والعياذ بالله! وهذه حالة خطيرة جداً.

ولذلك نستفيد من الآيات المباركة، إضافةً إلى ما قد سبق لنا في (سورة الأعراف)، وفي (سورة البقرة)، نستفيد الدروس المهمة، والعبر المهمة، فيما يتعلق بهذه القصة المباركة المهمة جداً، والتي أتت في بداية الوجود البشري، ولو استفاد منها البشر؛ لكفتهم الكثير والكثير مما وقعوا فيه من الشقاء والخسران، ولكانت من أهم الدروس التي تساعدهم على الاستقامة في هذه الحياة.

الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" كرَّم الإنسان في خلقه، خلقه في أحسن تقويم، بما منحه من طاقات، وقدرات، وقابليات، والإنسان هو مخلوقٌ مكرَّم، ليس كأيِّ حيوانٍ آخر، وفق ما تقدَّمه النظرة الغربية، هي تقدِّم الإنسان كأيِّ حيوان آخر، وتجعل متطلبات حياته مقتصرة على المأكل، والمشرب، والمسكن، والزواج، مثل بقية الحيوانات فحسب، وتبعده عن دوره، وعن مسؤولياته، وعن مقامه الذي هيَّأه الله له عندما نفخ فيه من روحه؛ بينما هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يقدِّم للإنسان البرنامج الصحيح، المتكامل، المتوازن، الذي يلبِّي احتياجات الإنسان العائدة إلى جسمه، واحتياجاته العائدة إلى روحه، وينظِّم للإنسان التوازن ما بين احتياجات الروح واحتياجات الجسم، وما يسمو به الإنسان في هذه الحياة.

يتبين لنا بكل وضوح حاجتنا الضرورية جداً إلى هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، إلى تعليماته، وأنَّ الإنسان إذا انفصل عن تعليمات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتجاهلها، أو تناساها؛ فهو يفتح على نفسه ثغرةً للتأثير الشيطاني، مهما كان ذكاء الإنسان، مهما كان فهمه، مهما كان يمتلك من خلفية معرفية وغيرها، إذا لم يرتبط بهدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ فهو قابلٌ للإغواء والتأثير الشيطاني، على مستوى الفكر والتصور؛ لأن الشيطان يحاول أن يغوي الإنسان في فكره، وتصوره، ونظرته للأشياء؛ فيزيِّن له القبيح حتى يراه حسناً، ويقدِّم له فهماً خاطئاً عن الأمور، يشجِّعه أو يورِّطه بسببه إلى أن يدخل في معصية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فيخالف ما أمره الله ونهاه.

كذلك هو يلعب على رغبات الإنسان وانفعالاته، والإسلام وبرنامج الهدى الإلهي هو يزكي النفس البشرية، ويرسِّخ الرشد فيها، والنظرة الصحيحة، وتأتي التعليمات الحكيمة من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، التي إن تمسك بها الإنسان فهي تحميه حتى من أن يتأثر بأي تصوُّرٍ خاطئ؛ لأنه لا يفتح مجالاً أصلاً لأن يكون لديه تصورات مختلفة عن هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، عن تعليمات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يؤمن بتعليمات الله أنها هي القيِّمة، هي الحكيمة، التي فيها رشده، وفلاحه، ونجاته، فلا يفتح مجالاً لأن يكون لديه تصورات أخرى، أفكاراً أخرى، ولا يفتح المجال أيضاً لأن يضرب الشيطان توازنه فيما يتعلق بغرائزه، ودوافعه، وانفعالاته، بل من خلال هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يكتسب زكاء النفس، الذي يرشِّد، وينظِّم، ويوازن غرائزه وانفعالاته، ويضبطها من خلال هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وتعليماته؛ فيغلق بذلك الثغرة التي يستغلها عليه الشيطان لإغوائه والعياذ بالله.

نكتفي بهذا المقدار...

وَنَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الصراط المستقیم فی هذه الحیاة الشیطان علیه من رحمة الله ت فی الإنسان أشیاء کثیرة خلق الإنسان الإنسان من الإنسان فی فیما یتعلق أوامر الله على البشر الإنسان م الإنسان ف أ ج م ع ین ت ع ال ى س ب ح ان ه على الله هدى الله أمر الله السیر فی البعض من ص ل ص ال التی هی أن یکون الله فی على ضوء ع ب اد ک من الله فی نفسه یرید أن م س ن ون ه الله ن الله ة الله ما کان التی ی د الله أنه لا لله فی إلى أن ى الله فی ذلک حتى فی

إقرأ أيضاً:

المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص + فيديو)

(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 04 رمضان 1446هـ 04 مارس 2025م

???? المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 04 رمضان 1446هـ 04 مارس 2025م#ويزكيهم pic.twitter.com/yE0ivtnAu2

— قناة المسيرة (@TvAlmasirah) March 4, 2025


أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في بداية قصة نبي الله وخليله ورسوله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، تحدثنا عن المسيرة البشرية، وما اعتراها من مخالفات وانحرافات كبيرة جدًّا، وصلت إلى مستوى الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانصراف التام عن نهجه ورسالته وهديه.

وبَيَّنَّا أن الأساس في مسيرة المجتمع البشري هو التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإيمان به، والتَّمسُّك بنهجه، فالمجتمع البشري لم يترك منذ بداية وجوده بدون هدىً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل إن أبا البشر الذي هو آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو نبيٌ بنفسه، نبيٌ من أنبياء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حظي من الله بالهداية، وأتاه الوحي الإلهي، والتعليمات الإلهية؛ وبالتالي لم تكن المسألة في واقع البشر أن الأساس هو الانحراف، هو الشرك هو الكفر، هو الضلال، هو الباطل، وأنهم تُرِكوا، ثم كان مجيء الأنبياء إليهم وبعثة الرسل إليهم حالةً طارئةً على واقعهم، وحالةً مخالفةً للحالة الطبيعية التي هم عليها، بل العكس هو الصحيح.

الذي هو طارئٌ على حياة المجتمع البشري، وشاذٌ في مسيرة حياتهم، ومخالف للمسار الصحيح الطبيعي الفطري، هو: الانحراف عن نهج الله ورسالته بما فيه، يعني: الانحراف على المستوى الأخلاقي، على المستوى الشرعي، على مستوى الحلال والحرام… وصولاً إلى مستوى الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي هو في نهاية حالة الانحراف، أسوأ حالة من الانحراف الكبير، والتنكر للحقائق الكبرى، والانقلاب على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

فهذه مسألة مهمة؛ لأن الكثير من الكُتَّاب، والأسلوب في المجتمع الغربي في الأبحاث والدراسات، يصوّر الحالة وكأن المجتمع البشري كان منذ البداية مجتمعاً بدائياً في دينه، بدائياً في مسألة الدين إلى درجة الجهل التام بالله، وإلى درجة التنكر التام لمبدأ التوحيد، ويجعلون الأساس في واقع المجتمع البشري هو الشرك، هو الكفر، هو الانحراف، هو الاعتماد على مبدأ الشرك، الذي هو تعدد الآلهة، فهذه مسألة جوهرية في هذا الموضوع.

وفي نفس الوقت يجب أن ندرك أن المجتمع البشري كانت كل خسارته، التي هي خسارة رهيبة جدًّا: الخسارة على المستوى الفكري والثقافي، وعلى مستوى الأخلاق والقيم، وعلى مستوى التوجه الصحيح في مسيرة الحياة، ناتجةً عن المخالفة للرسل والأنبياء، وعن الانحراف عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

وهكذا هي المسألة على امتداد الزمن، كلما وجدنا حالة الانحراف في المجتمعات البشرية، والأفكار المِعْوَجَّة، والضلال بكل أشكاله، والاتِّباع للباطل، والتمسك بالخرافات، هذا كله ناتجٌ عن الانحراف عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن المخالفة للرسل والأنبياء، والابتعاد عن الرسل والأنبياء، وعن مسيرتهم.

والضلال والباطل ليس منحصراً في حالة معتقدات جامدة، باقية في الذهنية، ليس لها نتائج في واقع الحياة، ولا في حالة الطقوس في المعابد، حالة الضلال تمتد إلى واقع الحياة، مع الشرك والوثنية، هناك انحراف على مستوى الأخلاق والقيم، هناك انحراف يتعلق بالمعاملات في حياة الناس؛ ولـذلك فالامتداد لحالة الشرك هو: الانحراف الأخلاقي، الانحراف في القيم، والمظالم، والجرائم، والمفاسد، والطغيان، الذي يملأ واقع الحياة، فتتحول مسيرة المجتمع البشري في مثل تلك الحالة إلى حالة ظلمات، ظلمات بكل ما تعنيه الكلمة؛ يستحكم الجهل، تستحكم الخرافة، يستحكم الضلال، يستحكم الباطل، تسيطر على الناس القوى الظلامية الظالمة، المفسدة، المتكبرة؛ فيشقى الناس في حياتهم، لهذا آثاره على مستوى الواقع، على مستوى حياة الناس، وتكون النتيجة هي: الانحطاط الكبير بالمجتمع البشري حتى عن مستواه الإنساني؛ ولـذلك فليست المسألة مجرد معتقدات هناك لوحدها، أو طقوس منحصرة على واقع المعابد التي كانوا يبنونها؛ بل تمتد إلى حياة الناس، إلى واقعهم، يطالهم الظلم، الفساد، تفقد البشرية الأهداف الصحيحة لمسيرة حياتها، وتتَّجه الاتِّجاه المعوج، بعيداً عن صراط الله المستقيم، وتسبب لنفسها سخط الله، غضب الله، عذاب الله، والعياذ بالله.

مسألة التوحيد، المبدأ العظيم، كذلك هو ليس مجرد مبدأ يتحول إلى معتقد يُعبِّر عنه الإنسان بكلمة، مثلاً: (أشهد أنْ لا إله إلا الله)، وانتهى الأمر، أو تلحق به- كذلك- شعائر دينية محدودة، مثلاً: في المساجد، أو شعائر متنوعة، مثل ما هي أركان الإسلام، التي هي أساسٌ ليبنى عليها كل الدين، في الشرع الإلهي، في الأخلاق، في القيم، في المعاملات، في مسيرة الحياة؛ فالمسألة في مبدأ التوحيد لله هو مبدأٌ يبنى عليه نهجٌ عظيمٌ لمسيرة الحياة؛ ولـذلك فالخطأ عندما يُجَمَّد هذا المبدأ، وتكون هناك تصورات أنه يكفي مع هذا المبدأ العظيم الإقرار به، التعبير عن هذا الإقرار بالشهادة، شعائر دينية محدودة، ثم يتَّجه الإنسان في مسيرة حياته بعيداً عن ذلك، ليُعَبِّد نفسه لغير الله، هذه حالة انحراف، وعدم استيعاب لهذا المبدأ العظيم: مبدأ التوحيد لله.

إيماننا بأنه (لا إله إلا الله)، وأنه وحده الإله، وأن علينا أن نتَّجه بالعبادة له وحده، هذا يعني العبادة بمفهومها الشامل، بمفهومها الكامل، في التزامنا في مسيرة الحياة بنهجه، بتعليماته، بالطاعة المطلقة له “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بتوجهنا إليه “جَلَّ شَأنُهُ” بالخضوع التام لأمره ونهيه، هذه ثمرة مبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولهـذا يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ” عن هذه المسألة: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2]، هكذا هي الثمرة: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، الله يخاطبنا هكذا، فيُبنى على ذلك التقوى لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في آيات أخرى يؤكِّد على العبادة كذلك، على الرهبة… على بقية ما يرتبط بهذا المبدأ المهم والعظيم.

الإنسان بفطرته هو يدرك أنه عبدٌ، ويستشعر حالة العبودية في نفسه، وفي واقعه؛ ولـذلك حالة الافتقار عند الإنسان، حالة الشعور بالعجز والضعف، حالة الشعور بالحاجة، هي حالة متجذرة في الإنسان؛ لأنه هكذا في تكوينه وخلقه، الله خلقنا كبشر، وخلق بقية الكائنات وهي مفتقرةٌ إلى الله، في حالةٍ من العجز، والضعف، والافتقار التام إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولـذلك فالعبودية هي متجذرة في بُنية الكائنات والمخلوقات، هي بفطرتها، وتكوينها، وخلقها، في حالة عبودية، وافتقار تام، واحتياج إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولأنها حالةٌ فطرية؛ فالإنسان يتَّجه أساساً، يعني: لا يبقى في حالة فراغ، إذا انحرف عن التوجه نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن العمل بمقتضى هذه الفطرة في الاتِّجاه الصحيح الحق، في الاتِّجاه الصحيح الحق، في التوجه بالخضوع لله، والعبادة لله، سواءً على مستوى الرجاء، على مستوى الالتجاء، على مستوى الخوف، على مستوى أن يتوجه الإنسان باحتياجه إلى الله في دفع الضر، في الحصول على النفع… في غير ذلك مما هو مفتقرٌ إليه كإنسان، أو في الاتِّجاه الآخر: الاتِّجاه للتعبير عن حالة العبودية بالطقوس العبادية بأشكالها المتنوعة، من مثل: حالة الصلاة في شرع الله ودين الله، حالة الصيام، حالة الحج، حالة الدعاء والتضرع… وغير ذلك.

الإنسان إذا لم يتَّجه الاتِّجاه الصحيح، فهو ينحرف بهذه الفطرة في الاتِّجاه الخاطئ، يعني: يُعبِّر عن عبوديته لغير الله تعالى، وهذا ما حصل في واقع المشركين، حيث كانوا مع إقرارهم بالله، وهذه من الحقائق المهمة التي أكَّد الله عليها في القرآن كثيراً، وقدَّم عليها استبياناً من تاريخ الأمم، الأمم والأقوام كانوا يقرُّون بالله، ولكن مع إقرارهم بالله، كانوا يعتقدون أن هناك شركاء، يشركونهم مع الله في الألوهية، يعتبرونهم آلهة مع الله، ثم يتَّجهون بعبادتهم إليهم، يطلبون منهم النصر، يطلبون منهم مطلب العبودية، يعني: يعتبرونهم آلهة، يقدرون على أن يمنحوهم ذلك، يتقرَّبون إليهم بالقرابين، يؤدُّون لهم طقوساً معيَّنة، وشعائر معيَّنة، كما قال الله عنهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}[مريم:81]، قال أيضاً: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}[يس: 74-75]، فهذه هي الحالة، كانوا ينحرفون عن الفطرة، بالدافع الفطري يتَّجهون اتِّجاهاً معاكساً، اتِّجاهاً مخالفاً؛ لأنهم يشعرون بحاجتهم إلى ذلك.

مع أنهم كانوا في حالة الشدة الشديدة، والمخاطر الكبيرة، يعودون إلى الفطرة، مثل ما أكَّد الله في مواضع كثيرة في القرآن الكريم في عدة آيات، أنهم كانوا في البحر إذا غشيهم الموج، وهددهم بالغرق، وأصبحوا يستشعرون الخطر على حياتهم، في تلك الحالة يعودون إلى فطرتهم بالدعاء لله وحده؛ لأنهم يدركون في عمق فطرتهم أن كل أولئك الذين يعتقدونهم آلهة، ويتقربون إليهم كآلهة، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يتمكنون من أن يفعلوا لهم شيئاً، فيدعون الله وحده، هنا عادوا إلى الفطرة، عندما كانوا في حالة أزمة شديدة وخطر كبير، يقول الله عنهم: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[لقمان:32]، فهم كانوا يعودون إلى الفطرة.

فالانحراف في حالة الشرك، الانحراف عن نهج الله بكله، وصولاً إلى هذا المستوى، كما قلنا: الباطل يزداد، الضلال ينمو، فيصل الإنسان في معتقداته، في أفكاره، إلى مستوى فظيع جدًّا وسيء للغاية؛ لأنه ابتعد عن قنوات الهداية، وعن مصدر الهدى، فكلما ابتعد أكثر؛ ضل أكثر في تصوراته، معتقداته، أفكاره، يتحول إلى ظلاميٍ، ظلاميٍ بكل ما تعنيه الكلمة.

ما وراء هذا الانحراف الكبير في مسألة الشرك هو: عدم الإيمان، أو نسيان المبدأ المهم، الذي هو: الكمال المطلق، مبدأ الكمال المطلق أنه هو المبدأ الأساس في مسألة الألوهية، وأن ما سوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ناقصٌ، عاجزٌ، مخلوقٌ، مُدبرٌ، في إطار تدبير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن الله وحده هو الخالق، هو رب العالمين، هو الرازق، هو المحيي، هو المميت، هو مدبر شؤون السماوات والأرض، وله أيضاً الحق وحده في هداية عباده، في جانب الهداية والتشريع الذي تُضبط به مسيرة حياتهم، هذه المسألة مسألة مهمة جدًّا، يعني: كان تقبُّل المشركين لأن يعتقدوا في غير الله أنه آلهة، هو لغفلتهم عن هذا المبدأ، مع أنه مبدأٌ فطري؛ ولـذلك وصل بهم الحال إلى أن يتَّجهوا في أن يؤلِّهوا من هو حتى دون مستواهم كبشر، من مثل حالة الأصنام؛ لأنهم نسوا هذا المبدأ، فاتَّجهوا إلى الكائنات، أو الجمادات، أو مخلوقات حالها حالهم، في افتقارها إلى الله، في عجزها، في ضعفها، في عبوديتها لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه هي المسألة الخطيرة جدًّا، الإشكالية الكبيرة، التي كانت مؤثِّرةً في مستوى تَقَبُّلهم وانحرافهم إلى هذه الدرجة.

عندما نعود إلى نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، قلنا بالأمس: أن البيئة التي نشأ فيها، والمجتمع الذي نشأ فيه، كان قد سيطر عليه الضلال والانحراف والشرك إلى حدٍ كبير، إلى درجة محيطه الأسري، فيما يتعلق بأبيه (أبيه آزر)، سواءً على مستوى ما يقوله البعض من المفسرين والمؤرخين بأن المقصود عمه، أو غير ذلك، أو أنه الأب نفسه (والده)، على كُلٍّ وصل الحال إلى مستوى محيطه الأسري، فهو في غربة في ذلك المجتمع.

ولـذلك في حركته لإنقاذ ذلك المجتمع، والسعي لهدايته، بدأ من محيطه الأسري، وسعى مع أبيه آزر لإقناعه، لهدايته، لاستنقاذه من هذا الضلال الرهيب جدًّا، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74].

نلاحظ في هذا السؤال، الذي هو سؤال توبيخ واستنكار: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}؟! مستوى الانحطاط والتخلف الفكري والثقافي، لدى المجتمعات والشعوب التي وصلت إلى هذه الحالة، إلى أن تتَّخذ من الأصنام، ما هي الأصنام؟ هي التماثيل المنحوتة بأشكال معينة: سواءً من الحجارة، البعض ينحتونها من الصخور، أو من الأخشاب، أو من مواد أخرى يتم تصنيعها منها، المواد الأولية متنوعة يعني، وصل الحال ببعضهم أن كانوا يصنعونها من العجين والتمر، فيما إذا دهمتهم أزمة شديدة، وحصل لهم مجاعة، يقومون بأكلها، بدلاً من عبادتها.

هذه الحالة من التخلف والانحطاط الكبير انتشرت في مجتمعات كثيرة، وعلى مدى عصور كثيرة، ولا زالت في عصرنا هذا، بالرغم من كل التقدم في هذا العصر، عصر الفضاء، والتكنولوجيا، والأقمار الصناعية… وبقية الأشياء، من نفس تلك المجتمعات لا يزال هناك من هم في هذا المستوى من التخلف، والانحطاط الفكري، بحيث يتقبَّلون أن يعتقدوا تلك الأصنام التي تُصنع، إمَّا تُنحت من الحجارة كما قلنا، أو من أي مواد أخرى، في هذا العصر هناك البلاستيك أيضاً، هناك… بحسب الحالة والظروف لدى المجتمعات والأقوام، البعض من الذهب يصنعونها، لكنهم وهم يصنعونها وينتجونها هم، أو يشترونها ممن أنتجها من أمثالهم بالمال، يشتروها بالمال، يعني: هي ملكهم، ثم يعتقدونها آلهة، ويعتقدونها شريكةً لله في الألوهية، ويعتقدون أنفسهم عبيداً لها، يعني: أسوأ مستوى من التخلف الفكري والانحطاط لدى البشر، وتجاه أكبر قضية!

يعني: لاحظوا أين يمكن أن يصل الضلال بالإنسان! في أكبر قضية يفترض أن تكون بالفطرة واضحةً تماماً للإنسان، لا تحتاج إلى نقاش، لا تحتاج إلى جدل، لا تحتاج إلى تعب في الإقناع، أن تتحول هي ملتبسة على الإنسان إلى هذه الدرجة، ويقبل فيها كل ما هو متنافٍ تماماً مع الفطرة، مع الرشد، مع البديهيات؛ لا هي تملك القدرة، ولا هي تملك النفع، ولا هي تملك الضر، ولا هي تملك أي تأثير.

وهكذا كانوا على مدى أجيال كثيرة من المجتمعات البشرية، ومجتمعات كثيرة، وأمم وأقوام، يعتكفون عليها، يطلبون منها شفاء أمراضهم، يتعبدون لها بطقوس معينة، يُعبِّرون عن أنهم عبيد لها، يشهدون لها بالألوهية، وقد يحتاجون في مرحلة معيَّنة إلى أن يبدلوا الصنم بصنم جديد، أو إلى ترميمه إذا تعرض لحالة معينة، في بعض المجتمعات كانت تحصل زلازل مثلاً، ويتحطم الصنم، فيقومون بإنتاج صنم آخر، أو يأتي نحَّات ليصنع شكلاً أجمل من ذلك الصنم، ويحصل على مبلغ مالي أكثر من الذهب والفضة، ويُستبدل ذلك الصنم بصنم آخر، بل تصل الحالة إلى مستويات في غاية السخافة، في غاية السخافة!

في الواقع العربي في الجاهلية، في حالة السفر، عندما يكونون مسافرين، وابتعدوا في أسفارهم عن أصنامهم، التي هي في بلدانهم، فهم بحاجة إلى إله سفري، إلى صنم يعني مع حاجة السفر في ظروف السفر، يصلون إلى وادٍ معين، أو إلى منطقة مُقفرة، يبحثون عن أي صخرة تختلف عن بقية الصخور، صخرة ملساء مثلاً، أو لها شكل ملفت، ثم يقومون بالطواف عليها، والعبادة لها، والتقرب إليها، أو يذبحون لها، ويقدمون لها القرابين، ثم يتضرعون إليها، ويطلبون منها أن تحميهم، وأن تحفظهم، وأن تحفظ ما معهم في سفرهم من البضائع، أو المتاع… أو غير ذلك، هكذا، يعني سخافة إلى أنهى مستوى!

هذا التوبيخ الذي وجَّهه نبي الله إبراهيم، والاستنكار في خطابه لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}؛ لأن المسألة في بطلانها في منتهى الوضوح، باطل واضح يعني، كيف تنحت صخرةً، أو خشبةً، أو عوداً، أو أي شيءٍ آخر، أو تصنع أنت، أنت تصنع من مواد معيَّنة ما تعتقده إلهاً لك، وتعتقد نفسك عبداً له، ثم تطلب منه كل شيء: تريد أن ينصرك، أن يحفظك، أن يرزقك، أن يعينك، وقد يتغير الحال وتستبدله بصنم آخر، أو حالة أخرى!

فهذه الحالة الغريبة جدًّا ما الذي وراءها؟ ما الذي يصل بالناس إلى هذا المستوى، ووصل بالمليارات من البشر؟ يعني: الآن، في هذا العصر، في عصرنا وزمننا، العصر الذي هو- ربما- من أزهى عصور الدنيا، هناك نسبة كبيرة من البشر لا يزالون مشركين، المعابد في كل مكان، وهناك أشكال أخرى سنتحدث عنها أيضاً من حالة الشرك.

الحالة التي تصل بالبعض من الناس، على مستوى أمم والشعوب، إلى هذا المستوى من الانحطاط والتخلف الفكري هي ماذا؟ هي الضلال والمضلون، والابتعاد عن الهدى والهداة، فهي نتيجة لهذا؛ ولهـذا قال نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، الضلال هو الذي يصل بالناس إلى أن يتقبلوا أي باطل، مهما كان سخيفاً وسيئاً، ومهما كان فظيعاً، فظيعاً جدًّا، يعني: فيه تَنَكُّر لحق عظيم، لحق مهم، لمبادئ عظيمة ومقدَّسة؛ لأن هذا الضلال الذي يصل بالناس إلى الشرك بالله، هو- مع سخافته، ومع وضوح بطلانه- هو تنكُّر لأعظم مبدأ، وهو مبدأ: أن الله وحده الذي هو ربُّ العالمين، وخالق السماوات والأرضين، والمالك لكل شيء، هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو، يجب أن نتوجه بالعبادة إليه وحده، فيما نرجوه، فيما نخشاه، فيما نرغب فيه، كذلك بالتعبّد وفق شرعه، ونهجه، وتعليماته، والالتزام بهديه… وغير ذلك.

حالة الضلال هي التي تهيئ الإنسان لتقبّل الباطل، لتقبّل السخافات، لتقبّل أي شيء مهما كان سيئًا جدًا؛ ولهـذا يأتي في القرآن الكريم التحذير الواسع من الضلال والمضلين، الذين ينحرفون بالناس، ويجعلونهم يتقبلون أفكاراً خاطئة، تصورات خاطئة، مفاهيم خاطئة وسخيفة، وتتحول إلى دين يتدينون به، ولهـذا عندما نتأمل في هذه المسألة، وهي مسألة مهمة؛ لأن تأثيرها في واقع البشر كبيرٌ جدًّا، فهناك فئة المضلين، الذين لهم الدور.

يعني مثلاً: الصنم الحجري، ليس هو الذي بنفسه، مثلاً بشكله قام ينطق ويتحدث، ويقنع الناس أنه إله؛ المُضِل الآخر، هناك إنسان مُضِل، هو الذي وصل بهم إلى أن يعتقدوا أن تلك القطعة من الحجر التي نحتوها، أو من الخشب، أو من الذهب، أو من أي معدنٍ آخر، أو من العجين والكعك… أو من أي شكلٍ آخر، أنها هي الإله، وأنهم عبيدٌ لها، وأن عليهم أن يتقربوا لها بكل شيء، وأن يطلبوا منها كل شيء، المُضِل، المُضِلون خطيرون جدًّا على الناس، والفئة المضلة هي فئة محدودة من الناس، لكنها تخدع الكثير، ينخدع لها الكثير من الناس، مُضل قد يضل أُمَّةً بأسرها، مُضِل واحد، فالمسألة خطيرة جدًّا.

مثلاً: في قصة الأصنام، ما الذي كان يحدث؟

في مجتمع نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، كان هناك سلطة ظالمة، على رأسها طاغٍ متكبر، وصل به الطغيان إلى أن يدَّعي لنفسه الربوبية، هذه واحدة.
ثم هناك أيضاً معه فئة نافذة في المجتمع، أصبح لها تأثير في المجتمع، وأصبح المجتمع مرتبطاً بها، وبناء على هذه الروابط تريد أن تحافظ على ذلك الوضع؛ لأنها تستغله هو في التأثير على البقية.
هناك فئة مستفيدة على المستوى المعنوي والمادي، مثل: منتجي الأصنام، الذين يصنعونها، ويبيعونها بأثمان غالية، سعر الإله حقهم سعر غالي يعني، وإذا كان بشكل معيَّن يرفعون السعر! فئة مستفيدة.
كهنة المعابد أيضاً، كهنة المعابد الذين هم من يستفيد مما يقدَّم من نذورات، وقرابين، ومأكولات، لتلك التي يسمونها بالآلهة… وهكذا.
تلك الفئة لأنها مستفيدة؛ تُصِرّ على ترسيخ ذلك، ثم في واقع الناس يرسخون هالة من الأساطير المعينة عنها، أنها: [فعلاً فلان قدَّم لها قرابين وشفي مريضه، وفلان قدَّم قرابين وعاد قريبه الذي كان مسافراً بسلام، وفلان كذا…]، أساطير تُحاك حولها، [وفلان لم يُقدِّم لها القرابين الجيدة فحصل له مصيبة…]، ومن هذه الأساطير، وتعُمّ الحالة، ثم تستمر- أحياناً- لأجيال، حتى تتحول من المُسَلَّمَات الراسخة، وتحاط بحساسية شديدة، تجاه مسألة الانتقاد لها، أو التشكيك بها، أو طرح تساؤل عنها، يتحول هذا إلى أمر خطير جدًّا، ومحظور للغاية، بحيث قد يتعرض الإنسان للاستهداف بشكلٍ مباشر، وهكذا تتحول الحالة العامة إلى حالة يحكمها ذلك الضلال، وذلك الباطل.

ولهذا يقول نبي الله إبراهيم: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[عنكبوت:25]، هذه العلاقات، والروابط، والنفوذ، والصداقات، التي تُجَذِّر مثل ذلك الباطل، وتحمي ذلك الباطل، وتقدمه محمياً.

ثم من أخطر أنواع الضلال: ما يُقدَّم ديناً، يعني: الضلال واسع: ضلال في أفكار الناس، في تصوراتهم، في مفاهيمهم، التي هي بعيدة عن الهدى، وعن قنوات الهداية ومصدر الهداية، ولكن عندما يكون هناك- مثلاً- ما هو باسم معتقدات دينية، ما هو باسم دين، وهو من الضلال، ليس من دين الله الحق، فالمسألة خطيرة جدًّا، أكثر خطورة؛ لأن الناس في مسألة التدين والالتزام الديني، ولاسيَّما البعض منهم، يعني: التدين عندهم قويٌ جدًّا، إن تدين بالباطل، كان شديداً؛ وإن تدين بالحق، كان قوي الالتزام ومتمسكاً، ما يتحول إلى معتقدات دينية، وهو من الضلال، يصبح الكثير من الذين يؤمنون به، يعتنقونه، يتقبّلونه، يقتنعون به، أكثر التزاماً وتمسكاً، وأشد تشبثاً به، ويصعب إقناعهم عن تركه، ويتعصبون له بشدة.

وهذا ما حصل في معتقدات المشركين، كانوا يتعصبون جدًّا لأصنامهم، إلى درجة أن يقاتلوا من أجلها، وأن يعادوا من يعترض على عبادتهم لها، أو ينتقد ذلك، أو يطرح علامات الاستفهام، وكانوا يخلصون إخلاصاً كبيراً فيما يقدمونه لها، يعني: إلى درجة أن البعض منهم- من شدة الإخلاص- كان يُقدِّم ابنه وفلذة كبده قرباناً لها، ويذبح ابنه عند الصنم، قرباناً إلى الصنم، ابنه، وهو عزيزٌ عليه.

حتى العرب في جاهليتهم، مع اهتمامهم بمسألة الأبناء الذكور، في صراعاتهم وموقفهم في الجاهلية المعروف من الإناث، معروفٌ جدًّا، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:58]، قد يكون له ابن عزيزٌ عليه جدًّا، من شدة معزة ابنه عليه، يرى أنه أحسن قربان يقدِّمه لتلك الخشبة التي يعتقدها إلهاً، ذلك الصنم، الذي هو إمَّا من صخر، أو من عود… أو غير ذلك، يذهب بابنه، يأخذ السكين ويذبحه، قرباناً لذلك الصنم؛ ولهـذا قال الله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:140]، يصل بهم الحال إلى هذا المستوى، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}[الأنعام:137].

يحكي لنا القرآن الكريم عن مدى تشبثهم، عصبيتهم، في قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، يقولون عن رسول الله: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42]، يعني: يصل بهم الحال إلى أنه يغضب لصنمه أكثر مما تغضب أنت كمسلم من أجل الله، من أجل دينك، من أجل مقدساتك، إذا لم يكن انتماؤك الإيماني قوياً، هذا هو بسبب الضلال؛ ولهـذا قال إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.

نكتفي بهذا المقدار، ونواصل الحديث- إن شاء الله- عن هذا الموضوع في المحاضرة القادمة.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص + فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (4) للسيد القائد
  • نص المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد 1446هـ
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي : المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد
  • مقتطفات من المحاضرة الرمضانية (2) .. للسيد القائد