موقع النيلين:
2024-12-23@18:48:31 GMT

عادل عسوم: ليلة القدر وجعفر الدريويش ونوال

تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT


أيقنت بأن هؤلاء الدراويش ماخلقهم الله الا لخير فيهم يفيض على من حولهم، ولغاية يعلمها هو جل في علاه…
فما من قرية أو مدينة الا وتجد فيها درويش، وكم لهذه الشخصية من أثر وبصمات في وجدان الناس…
في صباي كنت أظن السبب في وجود الدراويش انتفاء العناية الطبية، لكنني أستبعدت ذلك لاحقا وفي ثنايا أسفاري العديدة وجدت هذه الشخصية في العديد من دول العالم التي لاتفتقر إلى عناية طبية، فتبين لي بأن الأمر ماهو إلا قدر مقدور من رب العباد، فما كان مني إلا أن جلست أسائل نفسي بين يدي حديثٍ شريف لنبينا صلى الله عليه وسلم يفيد بأن الله لأرأف بعبده من الشاة بوليدها، فامتلأتُ يقينا بأن هؤلاء الدراويش أحبابٌ للّه، وفيهم من الأسرار والخبايا ما الله به عليم.


لقد قرأت في صباي كتابا وجدته في مكتبة الوالد رحمه الله للكاتب جان بول سارتر إسمه (عبيط القرية)، يتحدث هذا الكتاب عن رجل مفعم بالروحانية، تجد الإيجاب في كل حراك يقوم به وهو يتفاعل مع الناس من حوله، ثم قرأت زين طيبنا الصالح رحمه الله في روايته (عرس الزين)، الزين الذي ما ان تقع عيناه علي صبية من صبايا القرية إلا ويُلقي الله حبها في قلوب الشباب، فينفتح لها باب الزواج علي مصراعيه!…
واذا بي من بعد ذلك كلما قرأت سورة الكهف، ومررت على قصة الرجل الصالح وموسي عليهما السلام؛ أتوقف مَلِيّا بين يدي أفعال الخضر عليه السلام؛ من خرق للسفينة، وقتل للغلام، ثم إقامة للجدار!، بالرغم من يقيني بأنها تحكي عن تفاصيل القضاء والقدر والفرق بينهما؛ إلا إنني تبينت في ثناياها أسرارا ممتدة، وعوالم من أنوار ترفرف في فضاءاتها الأرواح، ارتقاء في درب مدارج السالكين…
واسمحوا لي بأن أحكي لكم عن قصة نوال وجعفر الدريويش، إنها قصة حدثت في إحدى القرى التي تقع على شاطئ النيل في اتجاه الشمال من قريتي البركل.
نوال هي الثانية من بعد شقيق يكبرها، وتليها شقيقات خمس،
وآخر العنقود جعفر، خرج إلى الدنيا بضمور في المخ ليعتاد الناس على تسميته بالدريويش منذ طفولته.
نشأت الأسرة كسواها من الأسر في شمالنا الحبيب على الكفاف، ولم يكن مصير نوال بأفضل عن العديد من بنات جيلها خلال السبعينات ممن تركن الدراسة في مراحلها المختلفة، أو لم يدرسن منذ البدء، فهي إن تساوت معهن في سمت المسغبة؛ إلا إنها تزيد عليهن بطول ملازمتها لأمها طريحة الفراش جرّاء مرض عضال، وما لبث أن سافر شقيقها الأكبر إلى ليبيا وانقطعت أخباره، وعندما طالبتها أدراة المدرسة الثانوية إيفاء مصاريف الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية (على قلتها)؛ لم تستطع لذلك سبيلا، فأخوها الأكبر -قبيل سفره- لم يدع لهم شيئا ليباع ويُنتفع بثمنه، وما بقي بيد والدها من مال لم يعد يكفي قيمة الدواء الذي يبتاعونه كل شهر لأمها…
في ذلك اليوم بكت نوال ما شاء الله لها أن تبكي، فإذا بالدريويش ينظر إليها في محبة مواسيا ويقول:
– ماتبكي يانوال، الله في…
وظل يهزج بها:
اللّه فيه …
اللّه فيه…
اللّه فيه…
أراح ذلك ذلك نوال كثيرا، فظلت تردد (اللّه في)، إلى أن نامت.
نوال منّت نفسها بأن تصبح يوما معلمة تنير عقول النشئ، ثم تستعين بما تتحصل عليه من مال لرفعة شأن أسرتها، لكن ذهب كل ذلك ادراج الرياح، ومات الأمل، وتراجعت الميم لتذيّل وتقبر الأمل إلى الأبد…
قالت لها أمها يوما:
جعفر دا مااااا تستهونوا بيهوا يانوال يابتي، جعفر دا فيهو سر كبيييير والله!…
وَدّعت نوال المدرسة مكرهة لتتفرغ لأشغال البيت، ولم تكلّ أو تملّ، بقيت كالشمعة تذوب لتضئ لبقية أفراد الأسرة حياتهم، وانشغلت بممارضة والدتها المصابة بالسرطان، ولم تألُ جهدا في تلبية احتياجات والدها السبعيني، والذي ظل يعمل في أرضه الصغيرة التي بقيت، تناست نوال نفسها مع حراك حياة شقيقاتها الخمس، يضاف إلى ذلك إهتمامها بحياة شقيقها الأصغر جعفر الدريويش، فكانت تحرص على البحث عنه كل مساء لضمان مبيته في المنزل، ظلت تفعل كل ذلك بقلب محب ورؤوم…
وما أن مر عام حتي تزوجت شقيقاتها الخمس، ولكن شاب الأفراح شئ من حزن برحيل والدها.
وانتقلت شقيقاتها مع أزواجهن إلى مناطق أخرى في أرجاء السودان،
ولم تسع نوال إلى الاثقال على شقيقاتها للصرف على المنزل وقد اعتدن إنجاب التوائم، ولم يكن ازواجهن ميسوري الحال.
سعت نوال للبحثت عن عمل للصرف على نفسها وأمها وجعفر، فوجدت ضالتها في نسج الطواقي وعمل السلال والبروش من سعف النخيل، تعينها والدتها طريحة الفراش بالتوجيه، وشرعت كذلك في صنع الطعمية والزلابية لبيعها لطلبة مجمع المدارس القريب، وساعدها أهل القرية بابتياع مستلزمات العمل، ووجدت صبيا من الأعراب الوافدين للإهتمام بالأرض الصغيرة، وظل جعفر بجوارها يعينها بهمة ونشاط، وانفرج الحال قليلا، فامتدت هبات نوال وعطاياها إلى شقيقاتها الخمس من خبيز وتمور واحتياجات رمضان كل عام، أصبحت لهم أُمًَّا كي لا تشعرهن بمنقصة دون الأخريات، وبقيت أها ترقب كل ذلك وهي على فراشها غترفع يديها تدعو الله لها بظهر الغيب، وبرغم كل هذا الجهد والحراك لم تكن الأبتسامة تغادر وجه نوال، وعندما يأتي الليل تنشغل نوال بامها المريضة، فلاتنام إلا النذر اليسير منه، قال لها جعفر يوما وهو يهزج:
نومك قليل…
نومك قليل…
نومك قليل…
فسألته، لكن أسوي شنو ياجعفر؟!
أشار بيده إلى منزل شيخ وراق المجاور، والذي اعتاد قيام الليل والتلاوة، حيث يصلهم صوته قبيل الفجر.
بدأت تقيم الليل وتقرأ صفحة من كتاب الله كل ليلة، ثم تدعو الله ماشاء لها من دعاء وهي تبلل حِجْرها بدموع الرجاء، وظل الدريويش يرصدها من تحت غطائه وهو يشارك أمه الفراش…
وأكملت نوال حفظ كتاب الله خلال سنوات ثلاث، وجاء رمضان الرابع فتفيئت كما اعتادت ظلال العشر الأواخر منه تزيد من عبادتها وتلاوتها، وفي ليلةٍ وترٍ من لياليه العشر؛ إذا بها ترى كل شئ يخر ساجدا لله، والملائكة تُحَوِّم داخل الغرفة يقرأون سورة الرحمن! …
هتف بها هاتف:
– يانوال، يانوال…
هذه ليلة القدر، ادعي الله بماشئت.
فاشتد وجيب قلبها، وتعالت منها الأنفاس وكأنها هاجر تهرول المسافات الطوال بين الصفا والمروة، وتلعثم منها اللسان، فإذا بصوت الدريويش يأتيها من عَلٍ:
– نوال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، فرددت من خلفه ذلك مرات ثلاث، ونظرت إلى فراش امها فإذا هي نائمة لوحدها، ولم يكن للدريويش من أثر!
قفذت نوال وجِلَة إلى خارج الغرفة، فإذا به يرتفع عن الارض على مستوى بصر الرائي، وقد اعتمر له جناحين!..
ياللنور الباهر الذي يشع من وجه شقيقها جعفر!، وياااااللابتسامة الوضيئة التي ترتسم على شفتيه!…
قال لها جعفر -من علٍ- بلغة فصحى لم يعتد الحديث بها وهو يرفرف بجناحيه:
– يانوال، أنا ذاهب إلى ربي لأجاور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنان، وقد سبقتني أمنا قبل قليل، فلا تحزني ياأختاه…
فصاحت به:
– سوقوني معاكم…
قال لها وقد تهلل وجهه أكثر:
– لا تحزني يانوال، أدعي الله ياشقيقتي، فإن الله قد كتب لك الرضى والسعادة في الدارين.
فأجابته وهي تبكي:
– لكن حتخلوني براي؟!
– لا لن تصبحي وحيدة، ستتزوجين بإذن الله، وستنجيبين البنين والبنات، ولكن عديني بأن لا تنسين تسمية ابنك البكر باسمي، ثم علا واختفى…
عادت نوال مهرولة إلى الغرفة لتجد والدتها فارقت الحياة، فثقل خطوها، وسقطت على الأرض ترتعش من هول الموقف، وتذكرت الدعاء الذي أوصاها به الدرويش، فدعت الله به مرارا، واظلمت الدنيا في عينيها…
فتحت نوال عينيها فوجدت نفسها طريحة الفراش وحولها بعض نساء الحي:
– أنا وين؟!
فأجبنها بأنها في مستشفى كريمة، وأن الله كتب لها عمرا جديدا بعد أن بقيت غائبة عن الوعي لأيام، وقمن بتعزيتها لوفاة أمها، ثم سمعت بهن يتهامسن بان الناس قرروا أن لايخبروها بالدريويش الذي أختفى ولا يجدون له أثر، فلم تعر ذلك اهتماما، فهي تعلم مكانه يقينا…
واجتمع شملها بشقيقاتها الخمس اللائي جئن لتلقي العزاء ومواساتها في وفاة أمهن،
ثم أقبل عيد الفطر…
وقبل أن تسافر شقيقاتها تقدم لها قريب لهم يعيش في بورتسودان قد توفيت زوجه قبل عام…
قال (فيصل) الذي قُدِّر له أن يكون زوجا لنوال:
– والله منذ أول ليلة أفضيت فيها إلى نوال؛ بارك الله لي في كل شئ!!!…
كان لي كشك صغير فقط، فأصبح لي من المحال التجارية ثلاثا، وما شرعت في صفقة الاّ وبارك الله لي فيها أضعافا مضاعفة!!…
أصبحت نوال زوجا لأغنى تجار بورتسودان، وأنجبت العديد من الأبناء والبنات، ولم تنس أن تسمي أولهم بأسم جعفر…
ومافتئت يدها ندية بالعطايا إلى شقيقاتها، بل إلى أهل القرية جمعاء.
adilassoom@gmail.com

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الل ه فی

إقرأ أيضاً:

خطاب السيد جعفر الميرغني ؟: من وراء رسالة الختمية!

(1)
قرأت أكثر من مرة خطاب السيد جعفر الميرغني نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ، ونادرا ما أفعل ، لان بيانات زعيم الختمية ذات طابع واحد ، وهدف واحد ومفردات متقاربة ، ولكن الخطاب جاء هذه المرة بصورة مختلفة وسرد مختلف مما استدعى الوقوف عنده ، وليس البيان ولغته ومحتواه وإنما بعض مواقف وتصرفات السيد جعفر الميرغني وهو رئيس الكتلة الديمقراطية..
جاء الخطاب حاويا كما اشار ثلاث مناسبات (ذكرى 19 ديسمبر 1955م ، واعلان الاستقلال من داخل البرلمان) و (ذكرى الاستقلال) و ذكرى (ثورة ديسمبر) ، ومنذ العام 2019م ، فهذه اول مرة يحتفي فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بثورة ديسمبر من خلال بيان مكتوب ومنشور..
والنقطة الثانية الجديرة بالملاحظة : هى تأسيس البيان لحيثيات ومراجعات ، ومن النادر كذلك حديث الاتحاديين عن المراجعات ، واستخلاص العبر ، فالاتحادى لا يتعجل المواقف وانما ينتظر إلى أن تستبين الوقائع ، ولكن ثمة خيط آخر ، أو طرف آخر بدأ فى تحريك شرايين الحزب الواهن ، وظهر ذلك فى بيان احتمل نقاط اولا وثانيا وثالثا ، وتضمن اشارات ومقترحات..
والنقطة الثالثة: أن بيان الحزب جاء مقرونا بمواقف اخرى ، ومنها مشاركة السيد جعفر الميرغني ودون موافقة كتلته فى لقاء المنظمة الفرنسية بالسويد للحوار مع (تقدم) .. وتزامن مع زيارات خاطفة للسيد جعفر إلى بورتسودان ولقاءات مع أطراف السلطة دون غيره من القوى السياسية ، كانت الأبواب مفتوحة له..
والنقطة الرابعة: هى الحديث الكثيف عن اتفاقية السلام ما بين مولانا الميرغني وجون قرنق عام 1989م ، وهى محاولة لإضفاء قيمة سياسية للحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ولمولانا الميرغني ، وهو فعل علاقات عامة لا أكثر ، فهذه اتفاقية لم تدم لايام ، ولم تكن تتضمن سوى نوايا لا أكثر ، وكانت قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي حينها تتنازع حول وزارة الشؤون الانسانية للحصول على أكثر حصة من الاغاثة ، وبالتالي فإن الحديث عنها واعادة تسويقها لا يمكن أن تصبح قاعدة للتصالح بعد ما يقرب 40 عاما..
وعليه ، فإن مرامي البيان ومجمل الاشارات والتحركات هو توفير بيئة وخلق مناسبة..
(2)
جاء فى خاتمة البيان – وهى النقطة المهمة – (كيف سنستثمر هذا الانتصار ؟) ، كيف سنتحضر لسؤال اليوم التالي فى الخرطوم ؟ هل سيحاول البعض مرة اخري إقصاء الآخرين ومزاحمة الجيش والدولة بإسم المدنيين والثوار والمقاومين وغيرها ؟ام سننفتح نحو سؤال البناء وسؤال المواطنة وقبل هذا كله الوطنية الراشدة ؟)..وهنا مربط الفرس..
والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل جزء من الفعل السياسي وجزء من الكتلة الديمقراطية ، وهو ليس (ألفة) ، ومطلوب منه بالاجابة على هذا السؤال ، ومقتضى ذلك تأسيس قاعدة تراضى وطنى تتحاور فيه القوى السياسية والمجتمعية ، لأن ما بعد التحرير معركة اخرى للبناء ولرتق النسيج الإجتماعي وأشد مرارة من المقاتلة بالسنان واللسان ، ويقتضى ذلك ترك خيارات التشكل السياسي للمواطن ، ولا داعى لفرض اجندة أو تحديد مسارات..
فقد تلاحظ – عن مقربين – من السلطة محاولاتهم تأسيس منابر سياسية ، ومؤتمرات ، وتيارات ، ولدرجة تبني بعض الولاة تعيين (امين عام تنسيقية سياسية) قبل أن يتم التراجع عنها لاحقا ، هذا العمل لا يخدم القضية الوطنية ولن يوفر قاعدة جماهيرية..
وخلاصة القول ، أن هناك من يحاول تحريك بعض الأطراف السياسية لتشكيل غطاء مستقبلي أو لعب دور محورى ، وهذا تصرف يفتقر للرشد السياسي ، ففى اوقات التناصر الوطنى الواسع من الأفضل التعامل مع الجميع على قاعدة المساواة وتوفير المناخ الملائم وفتح الافق للحوار ، ولا يمكن الدعوة لعدم المحاصصة بينما السلطة توفر مسالك العودة إلى أطراف بعينها وتراسل آخرين وتخطب ودهم..
لقد التف الشعب السوداني حول قضايا الوطن ، فأجعلوا تلك القضايا اهدافكم وليس الاشخاص والكيانات..
ومرحبا بعودة الاتحادي..

د.ابراهيم الصديق على

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عمر أفندي الأفضل في 2024 بالإجماع وأشرف عبد الباقي وأحمد حاتم يتنافسان
  • لهذا السبب.. عفاف مصطفى تتصدر تريند "جوجل"
  • رحلة العمل يقطعها القدر .. تفاصيل حادث دار السلام بسوهاج
  • نوال في جلسات موسم الرياض.. الخميس
  • وائل جسار ونوال الزغبي يجتمعان في حفلة واحدة ليلة رأس السنة بالقاهرة
  • أذكار النوم من القرآن وفضلها.. أسباب تجعلك لا تفوتها ليلة
  • خطاب السيد جعفر الميرغني ؟: من وراء رسالة الختمية!
  • قطر تهدد بوقف إمدادات الغاز إلى أوروبا بسبب غراماتها على شركة “قطر للطاقة”
  • دعاء النبي في صلاة الوتر .. 22 كلمة داوم عليها كل ليلة بعد العشاء
  • الجزائر تجدد التزامها بدعم كل الجهود الرامية إلى حماية الأطفال في خضم النزاعات المسلحة