د. عبدالله الغذامي يكتب: أوروبا وحدها الحرب أو السلام
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
تحولت فكرة الأمان والحرية وأم الحضارة من أوروبا إلى أميركا التي هي في أصلها أرضٌ مسروقةٌ وتنشأت فقط على يد المستعمرين ثم المهاجرين وكانت بمثابة تجميع بشري مستعار من كل أرجاء المعمورة، ولكل أمة بعض نصيب يزيد أو ينقص حسب أعداد من هاجر منها وحسب قوة المهاجرين بل حسب ألوان المهاجرين، وفاز بها اللون الأبيض بينما ظلت بقية الألوان الأخرى بمثابة مواطنين من الدرجة ما دون الأولى، وأميركا رغم صيغتها المفتعلة أصبحت وطناً آمناً تجاه ما هو خارجها (وليس تجاه داخلها) بمعنى أنه لا وجود لأي قوة تستطيع تهديدها أو تحدي مناعتها أو اقتحام حدودها الجغرافية، حيث هي بعيدة جغرافياً عن كل القوى الكبيرة، ولكنها هي تتعمد مصارعة غيرها من القوى ومنابزة العالم كله قويه وضعيفه لكي تظل وحدها المتحكمة والقوية بإطلاق، وبعد أن أجهزت على الاتحاد السوفييتي وفرغت من همه ها هي اليوم تتحصن ضد أي تفوق صيني، كما تجهد في تطوير آلاتها العسكرية عبر تجريب هذه الآلة في الحروب الفرعية في دول أخرى، وهي حروب ليست عند أميركا سوى دورات تدريبية لعتادها ولرجالها، وتستخدم فكرة أن أي حرب في أي بقعة تهدد مصالحها هي حرب وقائية، أي حرب لمنع حرب أخرى ليست سوى حرب افتراضية، ولذا تنشط أميركا أكثر من أي دولة أخرى لكي تجعل نفسها طرفاً في أي نزاع مستخدمةً حججاً شتى كي تضمن تفويضاً من الكونجرس، تستند معظمها إلى دعوى حجة الأمن القومي، ومهما ضعفت هذه الحجة، فإن تجارة السلاح تقوي من عزيمة الموافقة على هذه المشاركات.
وفي المقابل، فإن أوروبا تشعر شعوراً عنيفاً أنها غير آمنة، وأن أي حرب فيها هي حرب عالمية تبعاً للغرور الأوروبي المتأصل، والذي يزعم مركزية أوروبا عالمياً وصورتها للعالم كما فعلت زمن الاستعمار حين أسندت إلى نفسها مهمة نشر الحضارة عبر نشر الجيوش واحتلال الأرض والبشر، وهذا ما جعل مصطلح السلام العالمي رديفاً وملازماً لمصطلح الحرب العالمية، ولا يكون ذلك إلا في أوروبا، وكل حرب أخرى أو سلام آخر فهو مسألة فرعية وغير مركزية، والعالم كله انجر وراء هذه الخدعة المصطلحية، وفي لقاء تم عام 1975 بين ماوتسي تونج وإدوارد هيث، الزعيم البريطاني، طرح ماوتسي تونج على هيث تساؤلاً هو: إلى متى سيستمر السلام العالمي، هل لعقدٍ أو اثنين أو ثلاثة أو …!! واستخدم تونج أصابعه لتعداد العقود، وفي المقابل ظهرت الحيرة على وجه هيث في ذاك اللقاء المتلفز، ولم يستطع إعطاء جواب، ولكن بدت على وجهه المخاوف، وهذا سؤال لم يكن مفهوماً حينها لأن الحروب كانت تعم مناطق لا حصر لها في العالم ولكنها ليست حروباً في أوروبا نفسها وهذا يؤكد غلبة مصطلح الحرب والسلم مقيدين بأوروبا تحديداً، وكل حرب تقع في أي بقعة من العالم تظل مجرد حرب جانبية ولا تكتسب معنى العالمية إلا إذا لامست أوروبا ولذا حين قامت حرب أوكرانيا بدأ التخوف من حرب عالمية ثالثة وظل هذا التخوف والتخويف منه يتردد تبعاً لما يحدث في أوكرانيا، بينما لم يظهر هذا قط في أي حرب أخرى في أي بقعة في العالم وكأن العالم كله غير مهم كما أهمية أوروبا.
وعلى الرغم من هذه المركزية المصطلحية، فإن أوروبا تشعر في أعماقها أنها لم تعد آمنةً ولا مستقرة، وأن مجدها القديم قد تم مسحه بفعل متعمد من أميركا التي مارست قمع أوروبا وحبستها في حلف الناتو الذي لا يعني سوى شيء واحد هو أن أمن أوروبا مربوطٌ بالقرار الأميركي، وكلما حاولت دولة أوروبية الاستقلال عن القرار الأميركي تعرضت للتعري في الفراغ الأمني والاقتصادي والسيكولوجي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة هجوم «داعش» في موسكو يثير مخاوف أوروبا يوهان هوتنيجر.. مستشرق رائد في الدراسات العربية والإسلامية
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي أوروبا الحروب السلام أی حرب
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: بعض تحديات الاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار
بروفيسور حسن بشير محمد نور
بعد تقدم الجيش السوداني وحلفائه في جبهات الحرب وقرب احكام السيطرة علي المركز في العاصمة القومية وولاية الجزيرة، يراود كثير من المواطنين السودانيين العودة الي منازلهم التي هجروا منها قسرا، علي امل معاودة الحياة بشكل طبيعي. لكن واقع الحال والدمار الكبير للبنية التحتية المتواضعة اصلا يضع كثير من التحديات، من حيث توفر الخدمات الاساسية ومقومات الحياة في حدها المقبول. لذلك هناك متطلبات وتحديات عديدة تواجه تحقيق تلك الامال المرتبطة بشكل اساسي بتوفر الاستقرار السياسي والامني الضروري للتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، التي تعتبر شروطا اولية نحو تحقيق مقومات العيش الانساني الطبيعي من سكن ومأكل ومشرب، علاج وتعليم، مواصلات سالكة وتوفر الماء والكهرباء، باعتبار ان هذه احتياجات اولية لا غناء عنها.
اول المتطلبات هي تحقيق السلام المستدام كخطوة حاسمة نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار. من منظور اقتصادي، يتطلب هذا السلام معالجة جذرية للأسباب الهيكلية التي أدت إلى الحروب والنزاعات، مع التركيز على الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حزم سياسية متكاملة ومتسلسلة.
من اهم تلك الأصلاحات او بالاصح المتطلبات، تحقيق العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب، اذ ان تاريخ السودان مليء بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم المنظمة، خاصة خلال فترة حكم نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير وما اضافته الحرب الحالية من تعميق لتلك الانتهاكات وتصعيدها لمستويات بالغة الخطورة علي الامن والاستقرار الاجتماعي. استمرار الإفلات من العقاب يقوض أسس الدولة ويؤدي إلى استمرار دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية. لذا، فإن تعزيز سيادة القانون وتحقيق العدالة والعدالة الانتقالية يُعَدَّان من الأولويات الاساسية لضمان مستقبل مستقر.
جانب اخر في غاية الاهمية هو معالجة الأزمة الهيكلية للدولة، فمن المعروف ان الدولة السودانية نشأت في ظل سلطة استعمارية وديكتاتوريات متسلطة، تعمقت أزماتها خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات والرشد الاداري أو غيابها. هذا أدى إلى ضعف قدرة الدولة على أنجاز التنمية وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية بشكل متراكم. لذا، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية وتعزيز سيادة القانون عبر اصلاح مؤسسي شامل يعتبر من الخطوات الضرورية لتحقيق الاستقرار الضروري للتعافي واعادة الاعمار.
كذلك الامر فيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية، اذ تسببت الحرب في أضرار كبيرة ودمار واسع النطاق للبنية التحتية والمرافق الحيوية يقدر بمئات مليارات الدولارات، مما أثر سلبًا على الاقتصاد السوداني. بالإضافة إلى ذلك، أدت السياسات الاقتصادية غير الفعالة إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن ايجاد حكم مقبول وحكومة تتبني وقادرة علي تنفيذ سياسات اقتصادية تعزز التنمية المستدامة وتوفر فرصًا اقتصادية للمواطنين، يُعَدُّ أمرًا حيويًا للتعافي الاقتصادي. هذا يحتاج لمقومات القبول الداخلي والخارجي للحكم الذي يفتح الطريق نحو وصول الاعانات الخارجية وجذب الاستثمار الاجنبي والوصول الي مؤسسات التمويل، وتيسير التجارة اقليميا ودوليا وامكانية الوصول دون عوائق للاسواق العالمية تصديرا واستيرادا.
من المهم اداراك ان مصير الاستقرار السياسي والأمني ومعالجة المشاكل الاجتماعية، اللازمة لتحقيق استقرار سياسي وأمني يعالج المشاكل الاجتماعية والتناقضات العميقة بين المكونات المجتمعية في السودان، يتطلب اتباع نهج شامل يتضمن:
- تعزيز العدالة والعدالة الانتقالية: اذ يجب تحقيق العدالة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات السابقة، لضمان عدم تكرارها وبناء ثقة المجتمع في النظام العدلي والقضائي. قد يعتبر البعض ان هذا امرا صعب التحقيق، وهو كذلك، لكن رغم صعوبته فهو شرط لا مناص من تحقيقه كشرط للتعافي الاجتماعي والاستقرار.
- الإصلاح المؤسسي الضروري لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، تضمن المشاركة الشعبية والشفافية والمساءلة واجتثاث الفساد الهيكلي المتوطن في مفاصل الدولة السودانية بجميع مؤسساتها.
- تبني سياسات اقتصادية موجهة نحو التنمية وتعزيز النمو المستدام وتوفر فرص عمل، مع التركيز على تنمية المناطق المهمشة والمتضررة من النزاعات.
- إدارة التنوع: الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان واعتماده كعامل قوة، من خلال سياسات تضمن التمثيل العادل والمساواة بين جميع المكونات الاجتماعية ووضع هذا الهدف ضمن المناهج التعليمية والتربية الوطنية.
- ضرورة تبني سياسات قطاعية مؤسسة باستراتيجات شاملة تستخرج منها خطط وبرامج ومشاريع تنموية مخططة بشكل واقعي ومنظم، يتفق مع المنهجيات المتبعة لاهداف التنمية المستدامة المعتمدة عالميا، ويشمل ذلك بالطبع السياسات التجارية والوفاء بشروط عضوية منظمة التجارة العالمية (WTO) للاندماج في النظام التجاري العالمي وامكانية الوصول لعضوية المنظمات الاقليمية والدولية بشكل فعال مفيد وليس عضوية شكلية.
- اطلاق الحريات العامة وسيادة حكم القانون واتباع سياسة اعلامية حرة ومنفتحة علي التطورات الكونية للاعلام المهني المتخصص، كعامل اساسي لتحقيق جميع ما تم ذكره.
- تبقي بعد ذلك اهمية الاصلاح العسكري والامني واتفاقيات السلام التي يجب مناقشتها ضمن حزم متكاملة للسلام المستدام وتحقيق الاستقرار المنشود واستدامته ولضمان عدم تكرار الحروب والنزاعات عبر عقائد مستحدثة.
في الختام، ما احدثته الحرب من دمار وتصدعات شاملة في الدولة السودانية يعتبر مهمة بالغة التعقيد، ويعتبر انجازها شرطا للاستقرار والتعافي الاقتصادي واعادة الاعمار، وهي مهمة لا يمكن ان يقوم بها طرف واحد او حتى عدة اطراف، دون توافق بثقل كبير ومشروع وطني يستوعب الغالبية المطلقة للمكونات السودانية. بذلك يتطلب تحقيق السلام المستدام في السودان، الذي يعتبر شرطا اوليا للاستقرار والتعافي، يتطلب نهجًا شاملاً يعالج الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على بناء دولة ديمقراطية تعزز سيادة حكم القانون، وتوفر فرصًا متساوية لجميع مواطنيها. بدون تحقيق تلك المطالب والجوانب المكملة لها، لن تمضي الامور الي الامام، ولا يتوهم البعض ان انحسار الصراع او تراجع مستويات القتال او احكام السيطرة علي مواقع استراتيجية، يمكن ان تؤدي وحدها بسلاسة لتوفير مقومات الحياة الطبيعية، ولا حديث الان بالطبع عن الازدهار والرفاهية علي شاكلة شعوب الامم المستقرة المتطورة.
mnhassanb8@gmail.com