مكسيم رودنسون.. نظرة منصفة إلى الإسلام وتأثيره الإيجابي
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
فاطمة عطفة (أبوظبي)
أخبار ذات صلةيمتاز المستعرب الفرنسي مكسيم رودنسون (1915-2004) بثقافة موسوعية وخبرة عميقة بشؤون العرب والإسلام لأنه أمضى خدمته العسكرية بين سوريا ولبنان خلال الحرب العالمية الثانية، ثم عمل في مصلحة الآثار في بيروت نحو سبع سنوات، وبنى علاقات جيدة مع نخبة من المثقفين.
وخلال عمله الأكاديمي أستاذاً للغة الإثيوبية القديمة واللغة الحميرية في معهد الدراسات العليا في السوربون، حافظ على استقلاله الفكري.
ونظرة رودنسون للإسلام وتأثيره الإيجابي الفعال في إحداث التحولات التاريخية، ومقالاته التي كتبها في هذا المجال جاءت في فترة تاريخية امتازت بنضال الشعوب في المشرق العربي وشمال أفريقيا للتحرر من الاستعمار وتصفيته. وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي أصدر كتابه (الإسلام والرأسمالية)، مبيناً أن الغرب هو الذي صدّر الرأسمالية إلى البلاد العربية، وهي ليست من جوهر الإسلام.
وهو يؤكد أن الإسلام لا يتوافق مع الرأسمالية الغربية، لأن القرآن يدعو إلى تحريم الربا ويحض كثيراً على الأعمال الخيرية.. وفي مجال الفكر السياسي، يرى رودنسون أن العالم الإسلامي لم يشهد علمانية مماثلة لتلك التي عرفتها أوروبا الحديثة، لا لأن الإسلام منع ذلك التحول، ولكن السبب في رأيه ناتج عن تأخر التصنيع في العالم الإسلامي، وهو يبين أن الانتماء الديني يشكل سمة من سمات الانتماء المجتمعي.
وفي ضوء علم الاجتماع السياسي والعمل لتحقيق العدالة المثالية، رأى رودنسون أن تسييس الإسلام وصعود الأصولية الإسلامية كانا نتيجة حتمية لخضوع الدول الإسلامية لضغوط القوى الرأسمالية الأوروبية، وشكل ذلك عائقاً كبيراً للعلمنة، وكان ذلك حافزاً لنشوء أفكار التشدد في الأصولية الدينية ومحاولة تغيير المجتمع وبناء دول وفق أيديولوجيتها في تسسيس الدين. وهذا المفكر الملتزم بالعدالة لم يتنازل أبداً عن العقلانية التي اكتسبها من دراسة عصر التنوير الفرنسي، وهو يرى تشابهاً كبيراً بين تسييس الدين المسيحي وسيطرة الكنيسة في أوروبا خلال العصور الوسطى، وبين تسييس الإسلام لدى الحركات والأحزاب الأصولية المتشددة، وكانت النتيجة وخيمة حسب رأيه.
وحسب ما كتبه الكاتب والباحث هاشم صالح في مقال سابق له بجريدة «الاتحاد»: (يعتبر مكسيم رودنسون أحد كبار الاختصاصيين في الدراسات العربية والإسلامية واللغات السامية. وهو أحد كبار المستشرقين إضافة إلى لويس ماسينيون، وهنري كوربان، وجاك بيرك، وكلود كاهين، وروجيه أرنالديز، ومونتمغري واط، وسواهم. ولد في باريس في السادس عشر من يناير 1915 من والد روسي وأم بولندية. وعمل فى مطلع حياته كمستخدم جوال في أحد المكاتب. ونجح رودنسون العصامي في السابعة عشرة في مباراة الدخول إلى معهد اللغات الشرقية، ونجح لاحقاً في شهادة البكالوريا. وفي 1937، تزوج ودخل إلى المركز الوطني للبحوث العلمية وانتسب إلى الحزب الشيوعي. وأصدر قبيل موته عدة كتب نذكر من بينها: «الإسلام: السياسة والعقيدة»، كتاب «من فيثاغورث إلى لينين»، «مقالات عن الحركات الأيديولوجية»، ثم كتاب مقابلات بالتعاون مع الباحث اللبناني جيرار خوري بعنوان: «مكسيم رودنسون – بين الإسلام والغرب».
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الإسلام
إقرأ أيضاً:
محمد أسد المُهتدي اليهودي الذي غيرته سورة التكاثر
"لم يجد من يكتب عنه، فكتب عن نفسه"
أنيس صايغ عن أنيس صايغمن مقتضيات الشهادتين عند عدد غير قليل ممّن دخلوا الإسلام في العصر الحديث، كتابة سيرة ذاتيّة.
ولعل أوّل السِّيَر التي يتعرض لها القارئ المهتمّ بهذا الموضوع، الباحثُ عن سيرة روحية ترشده وتقيه عثرات اليقين في أزمنة القلق والمأساة والهزيمة، هي سيرة محمّد أسد، التي لا تزال هي الأشهر رغم الفترة الزمنية الطويلة التي تفصلنا عنها، ورغم تبدّل أحوال كثيرة في هذا العالم منذ نشرها أوّل مرة عام 1954.
اقرأ أيضا list of 3 itemslist 1 of 3ما الذي جرى لليابان بعد أن اكتشفت الإسلام؟list 2 of 3"خاوة".. العالم كما يراه يحيى السنوارlist 3 of 3الطوفان والنبوءة والساعة … مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!end of listتطالعنا عناوين شهيرة إلى جانب "الطريق إلى مكة"؛ كتلك التي كتبها مراد هوفمان "الرحلة إلى الإسلام"، والشيخ الأميركي والمترجم نوح كلر "لهذا أسلمت"، والسيرة الذاتية لمالكوم إكس، وهذه الأخيرة مع سيرة محمّد أسد هما الأشهر على الإطلاق في هذه الفئة.
لكنّ السيرة الذاتية لا تقدم إلا صورة واحدة وحسب من حياة كاتبها، ولا يمكن الاكتفاء بها وحدها لتشكيل فهم موضوعي ومعقول عن ذلك الكاتب وعصره والشخوص الذين تحدث عنهم والذاكرة الجماعية لعصره، ولهذا يندفع الباحثون إلى تأليف السير الغيرية حتى عند وجود السيرة الذاتية، أو ربما بسببٍ من وجودها، لما تثيره من إشكالات وتتركه من فجوات. فواجبات مؤلّف التراجم (الغيرية) غير واجبات من يدوّن سيرته أو طرفًا منها، شخصية كانت تلك السيرة أو فكريّة، كما أنّ منطلقات الأول وأهدافه تختلف عن تلك التي تكون لدى الآخر.
إعلانهدف هذه الملاحظة التمهيدية هو أن أذكّر نفسي والقارئ، بضرورة تفعيل المجسّات النقدية عند قراءة أي سيرة ذاتية، وطرح الأسئلة الأساسية بشأن كل تفاصيلها الموضوعية والشكلية، وكيف تهمّنا هذه السيرة ولماذا؟ وبأي عدسة نقرؤها ونقاربها؟ ما الخفايا وأوجه القلق التي زامنت كتابتها، وما أوجه الرقابة المباشرة وغير المباشرة التي عيّنت حدودها؟ وما الذي يميزها ويفصلها عن غيرها؟ وما الذي مثّلته لمعاصريها حين طبعت ونشرت، وما الذي ينبغي أن تمثّله لنا نحن؟
تكمن أهمية هذه الأسئلة وما يدور في حكمها أنها تضع السيرة الذاتية في إطارٍ تساؤليّ يثير الفضول ويدفع إلى المزيد من البحث والتفكير، بمعزل عن الاحتفاء العام بالكتاب، كما هي الحال غالبًا مع السير الروحيّة تحديدا، وبالتحديد كتاب "الطريق إلى مكّة"، الذي نال من ذلك الاحتفاء ما لم ينله سواه.
وكان قد أغراني استعراض موجز لسيرة محمّد أسد، كتبه الباحث المصري محمد عبد العزيز بإعادة سؤال ظل فترة يحوم في ذهني: أليس محمّد أسد، رغم سيرته الشهيرة، شخصية نجمها آفلٌ في العالم الإسلامي اليوم، وبالأخص في شقه العربي؟ ما الذي نعرفه عن محمّد أسد غير الذي أخبرنا به عن نفسه؟ ما الذي كان يعني تركه وسواه اليهودية بداية القرن العشرين؟ وما الذي جعل لقصة إسلامه ومعايشته لنا كل هذا الإغراء والحضور؟
هل يكمن جزء من سرّ تلك الجاذبية في شخصية الكاتب وأصله وفصله، وأنّه أتانا عبر الترجمة وهو ما يزيد التحمس لاستقباله والولع برأيه؟ أم هل صارت الإنجليزية لغةً "إسلامية" مع الانتشار الواسع لهذا الدين في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا، والإرث المديد والضخم للترجمات الإنجليزية للتراث الإسلامي ومئات الترجمات للقرآن الكريم وكتب السنّة؟ ثم ما مفتاح "الطريق إلى مكّة" حقًّا؟ وهل تراه يكون أكثر تمهيدًا وأمنًا لو كان السالك من أوروبا الحديثة المستعمِرة أبيضَ ينطق عدّة لغات وله صلة بالصحافة الغربية؟
إعلاناهتديت إلى طرف من الإجابة في مقالٍ سِيريّ مطوّل عن الرجل، يخبرنا فيه الباحث الألماني المسلم يوسف لينهوف (Josef Linnhof)، بنبرة عاتبة، كيف أنّ محمد أسد، لا يزال شخصيّة مهمّشة في تاريخ الإسلام المعاصر، متعجبًا من ضياع اسمه من قائمة كبار المفكّرين المسلمين في القرن الماضي، وكيف أنّ الأكاديميا [الغربية] لا تزال، وربما ستظل إلى أجل غير معلوم، تفتقر إلى دراسة شاملة عن منبت الرجل وحياته ومنجزه الفكري ودوره الثقافي والسياسي.
فأي مشروع لدراسة وافية ومستفيضة عن محمّد أسد، كما يقترح لينهوف، سيتطلب عدّة يصعب التوفّر عليها عند باحث واحد: معرفة بأربع لغات على الأقل (الألمانية، والإنجليزية، والأردية، والعربية)، وقدرة على تتبع مسيرة الرجل ورحلاته عبر العالم، من أوروبا إلى آسيا وشبه القارة الهندية، ثم إلى أميركا الشمالية، ثم عودته الأخيرة إلى أوروبا بعد عبوره شمال أفريقيا.
يؤكّد لينهوف في غير موقع من دراسته التجاهل الكارثي الواقع بحق الرجل، ولا سيما في الدوائر الإسلامية؛ فمن الصعب، بحسبه، "العثور على طلاب دكتوراه أو أكاديميين مسلمين يشتبكون مع أفكاره، أو معاهد إسلامية تحمل اسمه، ولا يكاد المرء يسمع اسم أسد في خطبة جمعة".
وهذا صحيح، غير أنّه أكثر صحّة عند اعتبار الدراسات القليلة التي تُعنى بالرجل وسيرته وأعماله في الأدبيات العربية.
تخبرنا دراسة أخرى عن محمد أسد تستعرض سيرته الفكريّة أثناء إقامته في باكستان أنّ سيرةً وحيدة قد كُتبت عنه (بالألمانية)، تغطي حياته من مولده حتى إسلامه عام 1926 ثم سفره إلى الحجاز في العام التالي، كما تشير إلى صدور عملٍ في مجلّدين يضمّ جمهرة من المقالات التي كتبت حول أعماله.
إعلانلكن هذا لا يكاد يكون شيئًا مقابل تركة الرجل الكبيرة وأعماله المتعددة وطبعاتها العديدة والمجلات والنشرات التي حررها والمئات من المقابلات المكتوبة والمسجّلة التي أجريت معه والمحاضرات التي ألقاها والندوات التي اشترك فيها.
ولذلك فقد حاول لينهوف وآخرون، من بينهم مارتن كريمر، ومظفر إقبال، وزاهد منير أمير، ويوشوا تول، قول ما لم تقله سيرة أسد عنه، خاصة ما تعلق منها بفترة إقامته في شبه الجزيرة العربية، وعلاقته مع الملك عبد العزيز، ثم الملك فيصل، أو بفترة بقائه في باكستان وعلاقاته في الحلق الأكاديمية وأروقة السياسة هناك، ولا سيما مع محمّد إقبال، وفترة سجنه الطويلة في الهند، وعمله في الخارجية الباكستانية.
أو فيما خصّ ترجمته لصحيح البخاري، أو للقرآن الكريم، أو عن رحلة إيابه التدريجية إلى الغرب، التي ابتدأت بانتقاله إلى نيويورك وزواجه من بولا حميدة، وطلاقه من زوجته منيرة، وما جرّه عليه ذلك من متاعب في باكستان، أو فترة إقامته في طنجة في المغرب حين أتمّ ترجمة القرآن الكريم، أو انتقاله بعدها إلى البرتغال.
وغيرها العديد من المحطّات المثيرة العديدة في حياة الرجل، التي لا يمكن لكتاب "الطريق إلى مكّة" الإحاطة بها.
ليبولد فايس، الذي ولد عام 1900، في 12 يوليو/تموز مع مطلع قرن جديد، وعُمّر حتى بلغ 91 عامًا، عاش 66 منها باسم "محمّد أسد" بعد أن نطق الشهادتين عام 1926 في مسجدٍ في برلين.
في سيرته ينقل محمّد أسد لحظة روحية فارقة قال إنّها كانت ممّا عجّل باتخاذه قرار التحوّل إلى الإسلام، وهي قصّة إنسانية بسيطة، ليست بعيدة عن الحسّ الصحفي الواقعي العميق الذي امتلكه أسد وبلغ ذروته مع "الطريق إلى مكة" الذي نشر عام 1954 في نيويورك. إنّها قصّة القطار، في شهر سبتمبر/أيلول من سنة 1926، وسأترك الحديث هنا لأسد كي يرويها:
"في ذات يوم من أيام شهر أيلول من سنة 1926 كنت راكبًا مع زوجتي في قطار برلين تحت الأرض، فوقفت عيني اتفاقًا على رجل أنيق الملبس جالس قبالتي. كان، على ما بدا لي، تاجرًا، تبدو عليه آثار النعمة والثراء، على ركبتيه حقيبة صغيرة جميلة وفي إصبعه خاتم ماسي كبير. وأخذت أفكر بتكاسل كيف أن مظهر هذا الرجل الحسن كان يعكس الرخاء الذي كان المرء يقع عليه في كل مكان من أوروبا الوسطى في تلك الأيام: ذلك الرخاء الذي عقب سنوات التضخم التي كانت فيها الحياة الاقتصادية كلها رأسًا على عقب، ورثاثة المظهر هي القاعدة.
إن معظم الناس كانوا آنذاك يلبسون جيدًا ويأكلون جيدًا، ومن هنا لم يكن الرجل قبالتي خلاف غيره من الناس. إلا أنني عندما نظرت إلى وجهه خُيل إليَّ أنني لم أكن أنظر إلى وجه سعيد. فقد بدا لي قلقًا، لا قلقًا فحسب، بل شقيًّا بصورة حادة، ترسل عيناه نظرات فارغة إلى الأمام، وزاويتا شفتيه متقلصتان ألمًا، ألمًا غير جسماني.
إعلانوإذ لم أرد أن أكون وقحًا، فقد أشحت بوجهي فرأيت إلى جانبه سيدة على شيء، من الظرف. لقد كان وجهها هي أيضًا يعبر تعبيرًا غريبًا عن عدم سعادتها، كأنما كانت تعاني أو تفكر في شيء يسبب لها الألم. ومع ذلك كان ثغرها يفترّ عما يشبه ابتسامة جامدة، لم أشك في أنها لا بد أن تكون عادية لديها، وعندئذ أخذت أجيل بصري في جميع الوجوه الأخرى، وجوه أناس كانوا جميعهم دون استثناء يرتدون الملابس الحسنة ويقتاتون بالغذاء الجيد. وفي كل وجه منها استطعت أن أميز تعبيرًا عن الألم الخبيء، إلى درجة أن صاحبه بدا وكأنه لا يشعر به.
والحق أن هذا كان غريبًا. فأنا لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا العدد من الوجوه التعسة من حولي… أو لعلي لم أبحث من قبل عما كان ينطق فيها بمثل تلك الجهارة. كانت الانطباعة قوية إلى درجة جعلتني أذكرها لزوجتي، فأخذت هي أيضًا تنظر حولها بعيني رسام حريص اعتاد دراسة القسمات البشرية. ثم استدارت إليّ دهشة وقالت: "أنت على حق… إنهم جميعًا يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم…". وإنني لأتساءل: هل يعرفون هم أنفسهم ماذا يعتمل في نفوسهم؟
لقد عرفت أنهم لم يكونوا يعلمون… وإلا لما كان باستطاعتهم أن يستمروا في إضاعة حياتهم وتبديدها كما كانوا يفعلون، دون أيما إيمان بالحقائق الرابطة، دون أيما هدف أبعد من الرغبة في رفع مستوى معيشتهم، دون أيما أمل غير حيازة المزيد من الملذات المادية والمزيد من الممتلكات، وربما المزيد من القوة.
واتفق عندما عدنا إلى البيت أن ألقيت نظرة على مكتبي، وكان عليه نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرأ فيها من قبل. وبصورة آلية، رفعت الكتاب لأضعه جانبًا، ولكن ما إن هممت بإغلاقه حتى وقعت عيني على الصفحة المفتوحة أمامي وقرأت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ. ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
واعتـراني الصمت لحظة، وإني لأعتقد أن الكتاب كان يهتز في يدي. ثم قلت لزوجتي: "أصغي إلى هذا. أليس هو جوابًا عما رأيناه في القطار؟".
أجل لقد كان. كان جوابًا قاطعًا إلى درجة أن كل شك زال فجأة. لقد عرفت الآن، بصورة لا تقبل الجدل، أن الكتاب الذي كنت ممسكًا به في يدي كان كتابًا موحى من الله. فبالرغم من أنه حضر بين يدي الإنسان منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا فإنه توقع بوضوح شيئًا لم يكن بالإمكان أن يصبح حقيقة إلا في عصرنا هذا المعقد الآلي".
سيذكر من طالع "الطريق إلى مكة" عديد المواقف التي جعلت محمد أسد يفكّر في أمر دين المسلمين ودفعته لعقد المقارنات وطرح الأسئلة والنظر والدرس والمطالعة فيما توفر له من مصادر إسلامية مترجمة، لكن شكل الاجتماع في البيئة العربية كان أكثر ما أثّر فيه. فقد أعجبه "صفاء" العرب والبدو منهم خاصة، وأدهشه كرمهم وتخففهم من القلق المفرط بأمر الدنيا (في أيام الجمعة مثلًا كما يذكر).
وحتى لو عدنا إلى كتابه "الإسلام في مفترق طرق" الذي صدر عام 1934 وصدرت ترجمته العربية عام 1946 بقلم عمر فرّوخ**، فسنراه يتحدث بصراحة مبكّرة عن تلك الحال المعنوية التي تلبّسته بشأن الإسلام والمسلمين فيقول: "يُلقى هذا السؤال عليّ مرّة بعد مرّة: لماذا اعتنقت الإسلام، وما الذي جذبك إليه خاصّة؟ وهنا يجب أن أعترف بأنني لا أعرف جوابًا شافيًا".
ثم يتابع بعد حديث عن "البناء المجموع المتراص" للشريعة الإسلامية وتعاليمها الأخلاقية والعملية ليقول شيئًا عن "الحبّ"، الذي يشير إليه كعامل من تلك العوامل التي يصعب تحليلها:
"لقد كان ذلك [دخوله الإسلام] قضية من قضايا الحب، والحب يتألف من أشياء كثيرة: من رغباتنا وتوحدنا ومن أهدافنا السامية وعثراتنا ومن قوتنا وضعفنا، وكذلك كان شأني. لقد هبط عليّ الإسلام كاللص الذي يهبط المنزل في جوف الليل، ولكنه لا يشبه اللص، لأنه هبط عليّ ليبقى إلى الأبد".
ذلك الحب قاده إلى مكّة المكرّمة حيث قضى ستة أعوام تناول بعضًا من مجرياتها في "الطريق إلى مكّة"، ووجد له مكانًا رحبًا وحظوة استثنائية عند الملك عبد العزيز، فقدّم له خدمات جليلة، وكان ذلك كما يذكر مارتن كريمر جزءًا من الجهود المبكّرة للدولة السعودية في مجال العلاقات العامّة والاستفادة من "الدبلوماسية الأدبية" بالاعتماد على كتّاب وصحفيين أجانب.
تزوّج أسد في مكّة، في علامة على طيب المقام له ورغبته في الاستقرار وبناء حياة في ذلك المكان. فزوجته الأولى، إيلسا -التي أحبّها وكان شديد التعلق بها ولم يذكر في سيرته اسم زوجةٍ غيرها- توفّيت بعد أيام قليلة من أدائها الحجّ (في 10 يونيو/حزيران 1927)، بسبب مرض غامض ألمّ بها.
ثم في عام 1930 تزوّج منيرة بنت حسين الشمري (1915-1978)، التي لم يذكرها باسمها في الكتاب، وهي التي أنجبت له طلالًا، وقد طلّقها عام 1952، ليتزوّج الأميركية بولا حميدة.
لكنّ لقاء ليبولد (محمد أسد) مع الإسلام يعود كما يفصّل في ثنايا كتابه إلى عام 1922، في المكان الذي هو قبلة المسلمين الأولى. وأصل تلك الحكاية أنّه تلقى دعوة من خاله، أصغر أشقاء أمّه، وهو دوريان فايغنباوم، لزيارة القدس، وخاله هذا كان منشغلًا في التحليل النفسي وتلميذًا لفرويد، وكان له أثر في ليبولد الشاب حين كان يلتقيه قبل بضع سنوات في فيينا.
أما في عام 1922، فصار خاله يعمل في مصحة عقلية في القدس. قبل ليبولد(أسد) الدعوة من خاله الشاب الذي كان بمثابة قرينٍ له، فسافر إلى فلسطين عبر الإسكندرية، ووصل إلى القدس حيث منزل خاله في المدينة القديمة على بعد خطوات من بوابة يافا.
إعلانلم يكن يدري أنّ محطته في القدس ستكون فاتحةً لعهد جديد له في حياته، ومنطلقًا لمغامرة روحيّة استثنائية لم تكن تخطر له على بال: "لو أن أحدًا قال لي في ذلك الحين إن معرفتي الأولى بعالم الإسلام ستذهب إلى أبعد جدًّا من حدود عطلة اختيارية، وإنها ستصبح في الحق نقطة تحول في حياتي، لو أن أحدًا قال لي ذلك لضحكت من الفكرة واعتبرتها بعيدة عن الصواب بالكليّة".
تأثر الصحفي النمساوي المندفع بمعايشته للعرب في المدينة من سكانها وزوارها الكثيرين، واختلاطه بالمسلمين، وملاحظته لشعائرهم، وعاداتهم وسماتهم التي تفترق عن كلّ ما عهده في أوروبا وتفترق عن كلّ صورة مسبقة حملها عنهم.
لكنه في الآن ذاته لاحظ أيضًا وبعين الموضوعية والتجرّد، تجاوزات أولئك القادمين الجدد من أهل دينه من اليهود الأوروبيين، واستفزازاتهم للعرب، فقال عنهم: "أوحوا إليّ منذ البداءة أنهم أصحاب الأرض، أصحابها الذين نشؤوا من ترابها وتاريخها وكانوا جزءًا لا يتجزّأ من الهواء الذي يحيط بها".
أما أولئك اليهود الأجانب، القادمين من بولندا وروسيا، فبدا لأسد أنهم أتوا إلى فلسطين وكأنهم "يحملون معهم كثيرًا من تفاهة حياتهم الماضية في أوروبا وضيقها"، ورآهم "غير منسجمين إلى حد بعيد مع الصورة المحيطة بهم"، وشكّل ذلك حكمًا بسيطًا مفاده أن أولئك الأغراب كانوا هم "المسؤولين عن الاحتكاك الذي كاد يكون ظاهرًا جليًّا بين اليهود والعرب".
ما يغيب في "الطريق إلى مكّة" أن من بين هؤلاء اليهود خالًا آخر لأسد، متعصبًا للصهيونية، يُدعى آريه فايغنباوم (1885-1981)، وآريه هذا كان طبيب عيون ماهرًا، هاجر إلى فلسطين عام 1913. افتتح عيادة هناك صار يقصدها الآلاف من العرب واليهود، وخاصة للعلاج من التراخوما، كما أسس أول مجلة علميّة طبيّة باللغة العبرية، وصار لاحقًا رئيسًا لقسم طب العيون في مستشفى هداسا. وينبهنا مارتن كريمر في دراسته إلى أن محمّد أسد حذف في طبعة لاحقة من "الطريق إلى مكّة" عدة فقرات تحدثت عن خاله الصهيوني.
إعلانلم يذكر كريمر سببًا قاطعًا لقرار أسد حذف هذه التفاصيل، باستثناء أن ذلك ربما كان لرغبته في النأي بنفسه عن أي تهم بالتأثر بالصهيونية. إلا أن الألماني جوزيف لينهوف يقدّم تفاصيل تتيح لنا فهم الحالة الشعورية التي كان يعيشها أسد واضطرته إلى المناورة والتعديل في هذه السيرة التي حققت نجاحًا باهرًا.
يقول لينهوف إن محمّد أسد لم يكن بمنجًى عن التوجهات المعادية للسامية في العالم الإسلامي، التي ارتبطت بطبيعة الحال بقيام دولة إسرائيل وتهجير الفلسطينيين وجرائم التطهير العرقي التي قامت بها الحركة الصهيونية إبان تلك الفترة، وما نجم عن ذلك من حالة معاداة لليهود عمومًا، تعززت بحالة خطابية شعبوية في عدد من البلدان العربية مثل مصر والعراق.
ففي باكستان مثلًا، ظلّ أسد ضحية حملات تشويه ضدّه في الصحافة، تتهمه بتنكّب طريق الإسلام، والعودة إلى اليهودية، واستغلال نفوذه في الخارجية الباكستانية لمصلحة اليهود، وأنه من الدعاة إلى التطبيع مع دولة الاحتلال.
تلك الاتهامات تركت أثرًا كبيرًا في علاقة أسد بمحيطه الإسلامي، حتّى إنه في الفترة التي عكف فيها على تأليف كتابه، اضطر إلى إرسال مكتوب إلى وزير الخارجية الباكستاني حينها، ظفر الله خان، جاء فيه: "هذه النقاط القلائل التي أشرتُ إليها آنفًا تضُرُّ بسُمعةٍ بنَيتُها لنفسي على مدار خمسٍ وعشرين سنةً من العمل للإسلام ولفكرة باكستان. ولك أن تتصوّر حجمَ الألم الذي أشعرُ به إذ يتهمني بعدمِ الولاء ذلك المجتمعُ الذي كرَّستُ له حياتي كلَّها".
ومثلما يؤكّد كريمر في تقديم كتاب عن "الاكتشاف اليهودي للإسلام"، فإنه يصعب إهمال أثر التكوين الديني اليهودي لدى أسد في فهم تحوّلاته نحو الإسلام، سواء فيما ارتبط بتلك العلاقة بين اللغتين العبرية والعربية أو بتلك الأوجه من الاتفاق والافتراق بين الشريعتين، أو فيما ارتبط أيضًا بوقع معاداة الساميّة على بعض يهود أوروبا، ممّن تراءى لهم في الشرق وذلك الدين الذي كان مهده في جزيرة العرب جوابٌ على رفض أوروبا لهم، بحسب كريمر.
إعلانأمّا لينهوف فيلحظ أنّ مسألة الساميّة ومعاداتها في أوروبا، ظلّت أمرًا مسكوتًا عنه إلى حد بعيد في حياة أسد وسيرته الذاتية، وأن ذلك واحدٌ وحسب من الجوانب المغفلة التي تعزّز ضرورة عدم الاكتفاء بكتاب "الطريق إلى مكة" إذا ما أردنا الوصول إلى فهم أعمق للظروف التي أحاطت بحياة الرجل يساعد في تفسير التحوّلات التي طرأت في حياته والخيارات التي ذهب إليها في سيرته.
ويحيلنا لينهوف إلى الباحث جود تيلر، الذي وضع مراجعة نقديّة معمّقة نادرة لسيرة أسد، أكّد فيها تعمّد المؤلف تهميش المكوّن اليهودي في كتابه، وإسقاطه من قائمة العوامل التي أثّرت فيه كما أثرت في نظرائه من اليهود، خاصّة في فيينا، التي كانت حينها بحسب تيلر "عاصمة معاداة السامية في أوروبا".
محذوفات في الطريق إلى مكّةكانت في الصحراء العربية وسمائها فتنة محمّد أسد. ألمت به رغبة عميقة كما يخبرنا بأن يضرب جذوره وابنه هناك. تذكر زوجته بولا كيف أنّه عشق المدينة المنوّرة، وتمنّى أن يدفن في تربتها. كان محمّد أسد لاجئًا بمعنًى من المعاني، وهو يتبادر إليه انهيار الصرح المعنوي والماديّ الذي ينتمي له إبان الحرب العالمية الأولى. كان يأمل بداية جديدة تكون له خيرًا في دينه ودنياه مع زوجته العربية الجديدة وابنه الصغير، غير أن الأمور لم تسر على ما أراد.
غادر أسد المملكة، عام 1932، قاصدًا التجوال عبر الهند وتعرُّف قادة المسلمين هناك، خاصة في كشمير ثم في لاهور، ولم تكن باكستان قد انفصلت عن الهند وقتذاك. وفي لاهور اجتمع أسد بمحمّد إقبال ونشأت صداقة متينة بينهما، حتّى إن إقبالًا حثّه على الإقامة في الهند والعمل معه حتى إقامة دولة للمسلمين هناك.
في عام 1934، صدر لأسد كتابه الأول حول الإسلام، "الإسلام على مفترق طرق"، وهو الكتاب الذي سيظهر بالعربيّة بعد 12 عامًا، وتصدر منه طبعات متتالية، ويكون له تأثير واسع في الأوساط الإسلاميّة، وقد بدأ قبل ذلك أول مشروعٍ كبير له لترجمة صحيح البخاري إلى الإنجليزية، وكانت الفكرة قد راودته أثناء إقامته في المدينة المنورة.
إعلانفي عام 1936، تولى أسد تحرير مجلة "الثقافة الإسلامية" (Islamic Culture)، وذلك عقب وفاة الشيخ والمترجم المعروف للقرآن الكريم محمد بيكتال الذي كان أوّل محرر لها، وقد أتاحت تلك الفرصة لأسد التواصل مع نطاق واسع من المفكرين والمستشرقين، كما اندفع هو نفسه في تلك البيئة إلى تقديم المزيد من الكتابات والترجمات حول الإسلام.
في تلك السنوات، وكما يذكر أسد في "الطريق"، استأنف تواصله مع والده، واستمرت المراسلات بينهما ولم تنقطع حتى عام 1942، غير أنّه لم يقدّر له اللقاء مجددًا به، رغم محاولته ذلك عندما غادر الهند عائدًا إلى أوروبا في ربيع عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية، على أمل الوقوف إلى جانب عائلته وإنقاذهم، إلا أنّه لم يفلح في ذلك، واضطر إلى العودة إلى الهند في صيف ذات العام.
وفي الهند، ومع إعلان بريطانيا الحرب ضد ألمانيا، اعتُقل أسد مع آلاف من "الأجانب الأعداء"، وذلك أن ألمانيا النازية كانت قد ضمّت النمسا إليها عام 1938. سُجن أسد ست سنوات طوال، غير أنّه لم يكتب عنها شيئًا، كما أنّه لم يكتب الكثير عن تلك الحرب ولا سيما ما يتعلق منها بالمحرقة النازيّة.
ظل أسد، الذي سُجن حتى أغسطس/آب 1945، وكان المسلم الوحيد في معسكر الاعتقال ذاك، ظل كما يقول في كتابه "هذه شريعتنا" منشغلًا "بالمشكلات الثقافية والفكرية لمجتمعي وللبيئة الروحية التي اخترتها لنفسي بداية من عام 1926… ما زلت أرى نفسي أذرع المسافة الطويلة للثكنة جيئة وذهابًا يومًا بعد يوم، محاولًا أن أفهم، كيف لأمة أنعم عليها الله بالهدى الروحاني السامي، المتمثل في القرآن وفي سيرة خاتم الأنبياء، أن تعجز لقرون عن التوصل إلى مفهوم واضح للشرع، مفهوم متفق عليه ولا لبس فيه"، وهو ما كان قد عبر عنه في "الطريق إلى مكة"، حين قال:
"لقد تركتها خلفي، تلك القضايا الفكرية التي تشغل أهل أوروبا والغرب عامة. لقد تركتها خلفي ولم أشعر أني افتقدتها في أي لحظة. في الحقيقة، أصبحت بعيدا عنها بعدا هائلا حتى إنه أصبح من الصعب أن أكتب إلى أي صحيفة أوروبية من الصحف التي تدفع لي ما أتعيّش به. في كل مرة أرسل فيها تقريرا كنت أشعر بأني ألقي حجرا في بئر بلا قرار".
وبعد إطلاق سراحه في الهند، انخرط أسد بكليّته في مشروع إقامة الدولة المسلمة لباكستان، وفي عام 1947، اختير ليكون على رأس إدارة "الإحياء" الإسلامي في الدولة الناشئة، كما انخرط في جهود إعداد مسودات للدستور الجديد للدولة الإسلامية، إلا أنّ دوره في هذه الشؤون الداخلية وصل إلى آخره سريعًا عام 1949، حين تبيّن له مرّة أخرى أن أمر إقامة دولة للمسلمين على المثال الذي يرى لم يكن ممكنًا، وأن النظرة التي امتلكها هو وصديقه إقبال عن مستقبل باكستان، كانت مختلفة عن نظرة من أمسكوا بزمام السلطة في البلاد.
إعلانوهكذا ترك محمّد أسد الشأن المحليّ وانضمّ إلى الخارجية الباكستانية، وترأس قسم شؤون الشرق الأوسط فيها. في مطلع عام 1952، انتقل أسد إلى الولايات المتحدة، ليكون سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة.
رغم تلك التطورات في السيرة العريضة والسخية للرجل في عالم الإسلام، فإنّ المعرفة به ظلت منحصرة إلى حد بعيد في شبه القارة الهندية، كما ظلّ اسمه غير معروف عربيًّا إلا عبر كتابٍ وحيد له ترجم إلى لغتنا عام 1946، وكان اسمه فيه "محمّد أسعد"*.
لكنّ ذلك سيتغيّر قريبًا في نيويورك، وسيبدأ أسد رحلة مختلفة من التفكير في الإسلام وواقع المسلمين. أقام أسد في مانهاتن، في شقّة فخمة، وكان له خادم يعتمد عليه في شؤونه اليومية، ذلك أنّه قد خلّف وراءه في باكستان زوجته منيرة بنت حسين الشمري وابنه طلالًا.
كان أول أمارات الرحلة الجديدة في حياة أسد، اختياره في نيويورك زوجة جديدة، هي بولا حميدة، الأميركية البولندية الأصل، التي كانت قد تحوّلت إلى الإسلام. أحبّها وتزوّج بها بعقد مدني لدى محكمة في الولاية في نوفمبر/تشرين الثاني 1952.
انفّكت بذلك الزواج أول عرى صلات الرجل بالعالم الإسلامي على تلك الصورة التي أرادها وحلم بها، أي صورة تلك الدولة الإسلامية العتيدة التي ساهم في تشكيل المقدمات العقلية لها، والتي كانت هي "الطريقة الوحيدة لإنعاش جميع الآمال الإسلامية الهاجعة، وخلق وحدة سياسية من الناس الذين لا يربط بينهم نسب مشترك، بل تعلق مشترك بأيديولوجية فكرية واحدة".
رفضت باكستان زواجه ذاك واعترضت عليه، فما كان منه إلا أن تقدّم باستقالته من منصبه، وقُبلت تلك الاستقالة في أكتوبر 1952.
في رسالة إلى أحد أصدقائه في باكستان، وهو محمد حسين بابري، بتاريخ 22 فبراير/شباط 1953، قال أسد:
"لعلك سمعت من أحمد عن تلك التغيرات الكبيرة التي وقعت لي، وكلّها خير في الواقع. قد لا أكون في وضع مالي مريح كذلك الذي عشته خلال مهمتي الدبلوماسية، إلا أنّ ذلك سيتحسن أيضًا قريبًا بعون الله. على أية حالة، تغمرني السعادة لسببين على الأقل: أولهما زواجي الجديد الذي منحني رفيقة أفضل بكثير مما قد تسعه أفضل أحلامي، أما الثاني فهو عودتي إلى الكتابة التي رفعت عني الإحباط الذي عانيت منه طوال سنين مضت، مثلما تعرف جيدًا. أنا أعمل على إتمام سيرة ذاتية لي، وسأفرغ منها قبل نهاية العام، وستنشر غالبًا في ربيع عام 1954، كما وضعت من الآن تصورًا لكتاب لاحق سأعمل على تأليفه. وفي غمرة هذا الانشغال، وجدت إلى جانبي زوجة هي خير عون لي على ذلك، حتى إنه يسعني أن أقول بصدق إنه لولاها لما تمكنت من استعادة الشعور بالمعنى والهدف في الحياة بعد تلك الفترة الطويلة من افتقادهما".
كما قرّر أسد هناك أن يعيد التواصل مع أفراد من عائلته في "إسرائيل"، كما التقى بابنة خاله آريه (طبيب العيون الصهيوني)، وزوجها هاري زيندر، الذي كان يعمل ضابطًا في مكتب المعلومات الإسرائيلي، وصار لاحقًا مديرًا لإذاعة "صوت إسرائيل".
إعلانوبحسب ما ينقل مارتن كريمر، فإن زيندر هذا كان يقدم تقارير لجهاز الموساد الإسرائيلي حول أسد، تحدث فيها عن موقف الرجل المناهض لإسرائيل، وعن ضرورة استمالة الرجل باعتبار نفوذه في الخارجية الباكستانية. اقترح الموساد إغراء أسد بالمال، إلا أنّ زيندر رفض الفكرة وعارضها بشدّة، وأكّد استحالة أن يقبل أسد ذلك لنفسه، وأنّ اقتراح ذلك عليه سيعني نهاية محتّمة للعلاقة معه.
وقد كان لبولا حميدة دور في نهاية المطاف في إقناع زوجها بضرورة تجنّب اللقاء مع ابنة خاله وزوجها، أو الاختلاط باليهود في المدينة عمومًا.
وقفت بولا حميدة إلى جانب أسد في محنته بعد استقالته من السلك الدبلوماسي وتلاشي فرص عودته للعمل مع الخارجية الباكستانية، وأقنعته بضرورة أن يعود إلى مسار الكتابة والتأليف، وأن يبدأ بتدوين قصّة إسلامه ورحلته في الشرق، وعرض الفكرة على "سايمون آند شستر" العريقة، التي تحمّست لموضوع الكتاب، فقدّمت له عقدًا مغريًا مع دفعة مقدّمة سلفًا.
حقق الكتاب نجاحًا باهرًا، وصار "الطريق إلى مكّة" هو رأس معرفة العالم بأسد، ومفتتح الاهتمام العريض بالرجل وسيرته وأفكاره ورحلاته وعلاقاته. نشر الكتاب عام 1954، وحقق مبيعات كبيرة، ولا يزال بالإنجليزية وسواها من اللغات العالمية، أحد أهمّ السِّيَر الروحية في القرن العشرين وأعلاها شهرة، وأكثرها مبيعًا. وقد نال أسد عن ذلك كله نسبة من العائدات الضخمة، ولما ذاعت شهرته بسببٍ من الكتاب، صار ضيفًا دائمًا في المحاضرات والندوات واللقاءات الإعلامية في العالم، وبالأخص خارج العالم الإسلامي.
لقد صدرت من "الطريق إلى مكة" أربع طبعات بينها اختلافات عديدة، وذلك بين 1954 و1980، وقد حصل أسد على موافقة عام 1963، لتمويل ترجمة جديدةٍ للقرآن الكريم، وموافقة رابطة العالم الإسلامي على تبنّي الترجمة المزمعة، التي أنجز جزءًا منها عام 1974، ثم أتمّها أثناء إقامته في طنجة، ونشرتها كاملة عام 1980 دار الأندلس، في جبل طارق.
في صباح يوم الخميس، 20 فبراير/شباط من سنة 1992، توفّي الأستاذ محمّد أسد، ودفن في مقبرة إسلامية صغيرة في غرناطة الإسبانية، بعد أن طوّف المشرق والمغرب، ودلف إلى الإسلام من بابٍ واسع، ثائرًا على ضياع أوروبا وحيرتها الروحية والحضارية إبان الحرب العالمية الأولى، فغاب عن منبته الأوّل قرابة 25 عامًا، قبل أن يعود إليه ثائرًا على حيرة وضياع في العالم الإسلامي الذي ضاق بآرائه وتوجّهاته النقدية والتنويرية في النظر إلى الإسلام، كتلك التي عبّر عنها في ترجمته للقرآن الكريم، التي صدّرها بإهداء بليغ: "لقومٍ يتفكرون". في مقابلة قبل سنوات قليلة من وفاته قال أسد: "لو كان الإسلام في عشرينيات القرن الماضي بحال كتلك التي أراه عليها اليوم، لكان من غير الراجح أن أسلم أبدًا"***.
__________________________________
إعلان