فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د.كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
هل الأنبياء والرسل معصومون من الخطأ، آدم عليه السلام أخطأ في الأكل من الشجرة وموسى عليه السلام أخطأ في قتل القبطي، ويونس عليه السلام أخطأ بخروجه من القرية دون إذن من الله، فكيف نوفق بين ما نسمعه من أن الأنبياء معصومون وبين هذه الأخطاء؟
لا بد من بيان بعض الأمور هنا، ما يجده عند أهل العلم من مسألة عصمة الأنبياء وأنهم معصومون من الخطأ، فإن مقصودهم بهذه المسألة هو ما يتعلق بالمعاصي والذنوب لا بعموم الأخطاء، وإنما قد يعبر بعضهم بالخطأ ولكنهم يريدون المعاصي والذنوب، فالحديث فيما يتعلق بقضية عصمة الأنبياء يتعلق بمقارفة الذنوب والمعاصي هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني أن هناك ما هو متفق عليه عند عامة علماء المسلمين في مسألة عصمة الأنبياء من الذنوب والمعاصي أن كل ما يتعلق بأمر الوحي والتبليغ فهم معصومون من الزلل أو الخطأ فيه، وأن كل ما يمكن أن يكون من وجوه الشرك الظاهر أو الخفي فإنهم معصومون منه، وهم كذلك معصومون من كبائر الذنوب باتفاق، إذن هذه الأمور هي محل اتفاق عند أهل العلم جميعا عند عامة أهل العلم وما وجد من أقوال على خلاف هذا فهو شاذ لا يعبأ به.
بقي البحث في ما يعرف بالصغائر، ولأهل العلم فيها كلام، فمنهم من يرى جواز صدور الصغائر منهم، ومنهم من يقول بجواز الصغائر قبل النبوة لا بعدها، ومنهم من يمنع صدور الصغائر عنهم، صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، إذن هذه جملة أقوال والذي عند علمائنا أنهم منزهون عن الصغائر قبل النبوة وبعدها، ولكن القول بإمكان وقوعهم في الصغائر ودون إصرارهم عليها ودون إقرارهم عليها قول موجود أيضا مشتهر، بل حكى البعض أنه قول جماهير أهل العلم في الصغائر، دون إصرار ودون إقرار فهم لا يصرون عليها ولا يقرون ولا يقرون عليها، وهي لا يترتب عليها ذنب ولا عقاب.
كيف يوجه القائلون بمنع صدور الصغائر عنهم وقبل النبوة وبعدها ما حُكي في كتاب الله عز وجل أو ما ورد صحيحا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يظهر أن فيه معصية، يوجهون ذلك أنه على خلاف الأولى أي أنه على خلاف مقام النبوة فهذا المقام هو أكمل المقامات وأعلاها ولذلك فإنه يمكن أن يصدر عنهم ما هو خلاف الأولى المتناسب مع مقام النبوة وهذا توجيه حسن؛ لأن فيه تأدبا مع أنبياء الله تبارك وتعالى صلوات الله وسلامه عليهم جميعا وفيه حمل لما صدر منهم على وجه حسن مقبول.
ونأتي إلى بعض الأمثلة التي ذكرها أهل العلم، ما صدر من آدم عليه السلام ما وقع من موسى في هذه الحادثة «فوكزه موسى فقضى عليه»، وما وقع من ذي النون «إذ أبق إلى الفلك المشحون»، وبعض الأمثلة قلت بأن لكل واحدة منها توجيها.
فالصحيح في ما يتعلق بأكل آدم وزوجه من الشجرة أن تلك المرحلة لم تكن مرحلة تكليف وهذا حكاه غير واحد من المفسرين وعول عليه كثيرا الإمام الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير وحكاه قبله غيره، وذكروا أنه قوله جماهير أن تلك المرحلة في إعداد آدم عليه السلام وتأهيله وتربيته ولم تكن مرحلة تكليف وإنما كانت مرحلة تربية ولذلك فما صدر منه فيها مما يظهر أنه غواية وعصيان إنما كان على سبيل مخالفة لوازم التربية والإعداد وضرب ابن عاشور مثالا لذلك كتربية رب الأسرة لأولاده، فحينما يخالفون أمره ولو لم يكن في ذاته معصية أو يمكن أن يوصف بأنه معصية، إلا أنه عصيان أمر رب الأسرة، غواية عن مسلك رب الأسرة لأنه لم يكن في مرحلة تكليف، وهذا توجيه حسن يجمع المتفرق مما قيل في قصة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة. والقرآن الكريم صريح في وصف آدم عليه السلام بأنه نسي « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا» فكان ذلك على سبيل السهو والنسيان منه عليه السلام، ولم يكن عازما على مخالفة أمر الله تبارك و تعالى.
وأما ما كان من موسى عليه السلام، فإن ذلك لم يكن بمعصية من موسى عليه السلام وإنما كان على سبيل الخطأ، فهو أراد رد القبطي عن الإسرائيلي لأن القبطي كان معتديا، فأراد دفعه عنه، ولكن قدر الله تبارك وتعالى أنه قضى عليه بتلك الوكزة التي وكزه إياها، فهذا من القتل الخطأ، ولذلك فإنه لا يصف بأنه معصية، فإن موسى عليه السلام استغفر ربه وقال: «اللَّهمَّ إنِّي ظلَمتُ نَفسي ظلمًا كثيرًا»، فاستغفر ربه تبارك وتعالى لأنه ما كان يقصد ذلك وكان قصده النهي عن المنكر، وهكذا يوجه ما ورد في كتاب الله عز و جل أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يتعلق بهذه المسألة.
فمن المهم أن يُلتفت إلى أن ما يتعلق بالتبليغ أو بالشرك ظاهرا أو خفاء ظاهرا أو باطنا أو شركا ظاهرا أو شركا خفيا أو ما يتعلق بالكبائر فإن الأنبياء معصومون عليهم السلام، وأما ما يتعلق بالصغائر ففي المسألة خلاف وتقدم ذكر الأقوال وأما ما كان على سبيل الخطأ فشأنهم في ذلك شأن عموم البشر مما يمكن أن يخطأ في أمر من الأمور مما هو ليس معصية ومما هو غير داخل في باب التكاليف الشرعية. والله تعالى أعلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: موسى علیه السلام آدم علیه السلام أهل العلم ما یتعلق على سبیل یمکن أن لم یکن ما کان
إقرأ أيضاً:
المفتي يلقي أول خطبة جمعة من رحاب "مسجد مصر الكبير" بالعاصمة الإدارية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور نظير محمد عيَّاد.. مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم في خطبته في "مسجد مصر الكبير" بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الإدارية بعد ضمه دعويًّا وعلميًّا إلى وزارة الأوقاف، إن من أعظم ما امتن الله تعالى به على هذه الأمة أن خصَّها بهذا الدين القويم الذي اشتمل على الخير للبشرية عامة، و للإسلام والمسلمين على وجه الخصوص، مبينًا أنه قد اشتمل على مقاصد كلية وقواعد ضرورية تدفع إلى تحقيق المصلحة، وتمنع من المفسدة، جلبًا للخيرات للبلاد والعباد، وتحقيقًا لمبدأ الاستخلاف الذي خلق الله الناس له.
ثم انتقل إلى بيان خطورة التكفير الذي يعدُّ من أبرز سمات الفكر المتطرف، موضحًا أنه من أهم العقبات التي ابتليت بها هذه الأمة، وأنه من أهم العوامل التي يمكن أن تقضي على آمالها وتفتح الطريق للآلام، وتساعد الأعداء عليها، ويمكن أن تؤدي إلى هلاك العباد والبلاد.
وأوضح أنه يجب ألا يُحكم على الإنسان بالكفر إلا بقرينة واضحة أو برهان ساطع، ويكون ذلك من خلال العلماء مع انتفاء الموانع كالجهل أو الخطأ أو الإكراه أو التأويل، وهذا منهج الأزهر الشريف.
كما أشار إلى جملة من أهم الآثار الخطيرة التي تعود على المجتمعات من جرَّاء التسرع في إصدار الأحكام على الناس وتقسيمهم دون حجة أو بيِّنة، مبينًا أن في هذا انتهاكًا لحرمات الناس، ومؤكدًا أن هذه قضية خطيرة حذَّر منها الإسلام، ونبَّهَ عليها لما يلزم فيها من مفاسد، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا...»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
و أكد أن هذا الفكر المتطرف يعمل على استباحه المال والعرض تحت مزاعم واهية، وأقوال فاسدة، لا يراد من ورائها إلا التطاولُ على النفس والمال والعرض، وهي مقاصد ضرورية في الإسلام، مستشهدًا في هذا السياق بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وأوضح فضيلته أن المتأمل في هذه الآية يقف على عقوبة تلو الأخرى من جراء استباحة المال والنفس والعرض، كما استشهد أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ».
وبيَّن أن التكفير والتطرف يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذي ينظر إلى الإنسان بكل إجلال وإعظام وإكبار وإكرام، فأقر مبدأ الحرية الدينية، وأكَّدَ أن التنوعَ والاختلاف سنة كونيَّة، ودعا إلى مراعاة الكرامة الإنسانية، وأشار إلى الوحدة في أصل الخلقة، ثم جعل التفاوتَ بين الناس مردَّه إلى تقوى أو عمل صالح، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بالتَّقْوَى».
وقال المفتي إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذَّرَنا وهو يشير الى هذه العلامات، ويرشد إلى هذه الصفات التي يتصف بها أصحاب هذا الفكر المتطرف؛ ليحذر الإنسان منها في كل عصر، وفي كل مكان، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في بيان أوصافهم: «يَحْقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتهم، وصِيَامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّين كما يمرُقُ السهمُ من الرميَّةِ، أينَمَا لَقِيتُمُوهم فَاقتُلوهُم، فَمَنْ قَتَلَهم لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ وهو عَنْهُ رَاضٍ».
و أشار إلى جملة من الآثار الخطيرة لهذا الفكر المتطرف، ومنها: الإساءة للإسلام بعرضه على غير حقيقته، والدعوة إليه بخلاف ما هو عليه، بما يشتمل عليه هذا الفكر من الغلو والتطرف والتشدد واللا مبالاة، وسد اليسر أمام الناس، وهو ما يتنافى مع طبيعة هذا الدين، ويختلف تمامًا عن مقاصده ومآربه، وهذا بخلاف ما فهمه الصحابة والتابعون الذين رأوا فيه الإيمان والعدل وسعة الدنيا والآخرة، ومن آثار هذا الفكر أيضًا: أنه يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، ويدعو إلى الانقسام والتنازع، وهو ما يمكِّن أعداءَ هذه الأمه منها، وهو ما يتنافى مع قول الله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
وحذَّر “عياد” مما يتضمنه هذا الفكر الذي يصيب أصحابَه بالخلل في التفكير والسلوك، حيث إنه يُعَدُّ لونًا من ألوان الغش والخداع لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن أبرز صور هذا الغش في الدين: الاعتمادُ فيه على المظهر لا على الجوهر، وهو ما يتناقض مع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
و شدَّد في التحذير من جميع صور الغش، وأنه جناية على البلاد والعباد، وخيانة لله وللرسول وللمؤمنين، ومخالفة للتوجيهات الإلهية والهدي النبوي الذي يوجه إلى الأمانة والنصيحة الصادقة الخالصة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، موضحًا أن المتأمل يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرن بين مَنْ غَشَّ وبين مَنْ حَمَلَ السلاح على المؤمنين الآمنين، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ مِنَّا»، وقال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
واختتم الخطبة بهذه النصيحة الغالية بقوله: "فما أحوجَنا أيها الأحبة إلى أن نتلاقى على هذا التوجيه القرآني وتلك المأدبة المحمدية، ننطلق من خلالها لبناء الإنسان وبناء الأوطان، والمحافظة على هذه المقاصد التي تحقق الخير للبلاد والعباد".