ديوان المعولي.. بين الأدب والتاريخ
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
محمد بن عبدالله بن سعيد المعولي المنحي شاعر أديب من أهل القرن الحادي عشر حتى أول القرن الثاني عشر الهجري، من بلدة المعرى من أعمال منح. اتصل بعدد من أعلام الأدب في عصره منهم الشاعر الفقيه خلف بن سنان الغافري، ويضم ديوانه الكثير من الأغراض الشعرية في ثناياها تواريخ وأحداث وأعلام كثيرون، فهو إلى جانب قيمته الأدبية الفنية مصدر تاريخي مهم.
صدر الديوان في نشرة عن وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا) سنة 1404هـ/1984م بتحقيق د.محمد عبدالمنعم خفاجي، اعتمادًا على نسخة خطية يتيمة محفوظة بدار المخطوطات العمانية، وهي مخطوطة خزائنية نُسِخت للإمام سيف بن سلطان بن سيف اليعربي، خطّها الناسخ البارع محمد بن سليمة بن عمر الإزكوي. وقد نشر الباحث فهد بن علي السعدي بحثًا ضافيًا استدرك فيه الفائت من شعر المعولي مما جمعه من مصادر أخرى عديدة، وذكر أن مخطوطة الديوان تلك فيها نقص في مواضع عديدة، وكذا النسخة الأخرى التي عُثِر عليها فيما بعد ناقصة الأول والوسط والآخر، كما أشار إلى تصرف المحقق في النص بحذف المقدمة وبعض القصائد وإكمال بعض النقص من عنده دون الإشارة إلى ذلك.
وقد جاء في المقدمة التصريح غير مرة أن جامع الديوان هو محبوب ابن الشاعر، جاء فيها: «يقول الشيخ محبوب: جَمَعَ ما تبدد من شعر والده الذي قَدَرَ على جمعه وحضره، ويقول: قد تبدد كثير من أشعاره».
على شاكلة المتنبي وغيره من الشعراء ممن قرظوا الشعر في صباهم، نرى أبياتًا للمعولي قالها في صباه، وكأنه قد فارق بلاده برهة من الزمن فكتب شوقًا إلى قطينها:
يا ساكني منح فؤادي عندكم ** طول الليالي دايم بسهادِ
جسمي معي والروح في منح ولي ** قلب يعذب في لواء بلادي
وثمة شاهد آخر لشعره في صباه في قصيدة وعظية في ظن جامع الديوان أنه قالها سنة 1060هـ، وهذا التاريخ قد يفيد في التعرف على زمان نشأة الشاعر، غير أنه في قصيدة أخرى وجهها إلى أهل نفوسة أرخها سنة 1107هـ وأشار إلى عمره في بيت منها، ويُفهم أن عمره كان 68 سنة، وعلى هذا قد لا يتفق أنه كان صبيًا سنة 1060هـ.
وتحتشد أغراض كثيرة في شعر المعولي لعلها أبرزها المديح، فله في المقام الأول قصائد في المديح النبوي، ثم إنه خص بأكثر المديح الأئمة اليعاربة وأولهم الإمام سلطان بن سيف بن مالك، وله في مدحه قصائد عديدة من غررها تلك التي مطلعها:
مَن لِصَبٍّ تصاعدتْ حسراتُهْ ** ومُحبٍّ تحادرت عَبَراتُهْ
وجَوٍ لا يلَذًّ يومًا بنوم ٍ ** ومريضٍ قد أمرضته أساتُه
وبعض تلك القصائد مؤرخ، منها مثلا قصيدة قالها سنة 1075هـ، وأخرى سنة 1076هـ ولعل في تلك السنين كانت ذروة شعره في مديحه، وخلال عهده كان أيضًا يمدح ابنه الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف إذ له قصائد عديدة في مدحه قبل أن يتولى الإمامة وبعضها مؤرخ بالسنوات، إحداها نظمها سنة 1064هـ، أي أن بلعرب كان صغيرا حينها، وأخراها تتصدر الديوان قالها في مدحه سنة 1085هـ في أخريات سِنِي حكم أبيه. وله قصائد أيضًا في مدح سلفه الإمام سيف بن سلطان، وقد جاء في إحداها أنه قالها ارتجالا هيبة للإمام.
وتبرز في شعر المعولي نزعته الاجتماعية إلى بني قومه فهو يكاد يوجه شاعريته نحو كثير مما يدور حوله في حياة الناس وشؤونهم، فنجد في شعره مثلا نصيحة لزُرّاع السكر في قصيدة طويلة يسدي فيها النصح بالاتزان في الزراعة وتقدير الربح منها قبل الإقدام على التوسع أو بمعنى آخر التخطيط لكل ما يخص الزراعة، وقصيدة أخرى في زراعة السكر، وثالثة في الخيل والتبسيل والسكر. وقد أرخ لتأسيس سوق منح سنة 1096هـ في عهد الإمام بلعرب بن سلطان، ووصف ما فيه من الفواكه والثمرات، وذكر أنه قريب من الحصن والعين والحجرة (القرية) والجامع. وللشاعر تأريخات عديدة منها أبيات قالها مؤرخًا بنيانًا له سنة 1104هـ جاء فيها:
بنينا وشيّدنا سهيليّ معمدِ ** ذرى غرفٍ شيدت على رغم حُسّدِ
لدى حجرة راقت وفاقت منازلًا
بنهر يسمى الأصغرين موطّدِ
مضت مائة والألف مع أربع خلت
سنينًا وألف مع حساب مُقيَّدِ
بدولة سيف اليعربي إمامنا
سلالة سلطان بن سيف المؤيدِ
كما أرخ لأحداث عديدة في بلده، منها تأريخه لمسجد بناه في بستان له يسمى الصليب بمنح، ومنها وصفه للمحل والقحط الذي حل ببلده سنة 1080هـ، وكيف أن النخل والزروع قد ماتت، وعم الغلاء في السلع، وهاجر بعض السكان، وباع بعضهم متاعه وأثاثه، وفيها مديح للإمام سلطان بن سيف، ثم استغاثة ودعاء بالغيث والرحمة.
أما الأغراض الشعرية الأخرى فمنها قصائد في الحكمة، والنصيحة، والتهاني، والإخوانيات وهي كثيرة في شعره، وقد جاء في أول بعضها أنها «جواب خط» أي جواب على رسالة مكتوبة وصلته، والبعض الآخر «تصدير خط» أي أنه يُصَدِّر بعض رسائل الإخوانية المكتوبة بقصيدة ثم يكتب منثورها. وله كذلك قصائد في الغزل، وقصيدة في الهجاء شنع فيها على رجل اسمه درويش.
أما مراثيه فأبرزها رثاء الإمام سلطان بن سيف، ومراثي جملة من الفقهاء وولاة الأئمة اليعاربة مثل الفقيه علي بن مسعود المنحي، والقاضي عبدالله بن محمد المحمودي، وقاضي القضاة صالح بن سعيد بن زامل، والوالي راشد بن خلف العقيد المنحي.
ومن طريف شعره قصيدة مشجرة في الحكمة قالها سنة 1074هـ، وقد رُسمت في مخطوط الديوان مشجرة كما نظمها ورسمها، يتوسطها بيت من الشعر يُقرأ من الأسفل إلى الأعلى، ثم تتفرع من شطري البيت أبيات أخرى يمينًا وشمالًا. ومن ذلك أيضًا قصيدة ذات اتجاهين - إن جاز التعبير- أي إن قرأتَ الأبيات مستقيمة فهي مدح، وإن قرأتَها معكوسة انقلبت ذمًا، وأولها:
سِيَرٌ لهم طابت فما خبثت ** ربحت لهم سِلَعٌ فما خسروا
نُصِروا فما خذلت لهم دولٌ ** علموا بما عملوا وما نفروا
ويكاد الشاعر أن يكون معروفًا بالتفنن في طرائق الإتيان بالشعر، فقد اشترك في نظم قصيدة هو والفقيه الشاعر سالم بن محمد المحروقي البهلوي، وموضوع القصيدة مدح الإمام سلطان بن سيف بن مالك وبنيه، وقد جعلا بدايات الأشطر الأولى من كل بيت مرتبة على حروف الهجاء، وله كذلك مقطوعة شعرية في الحكمة جاء في عنوانها أنها تُقرأ بأربعمائة وجه. ومما طارت شهرته عند أهل عُمان من شعر المعولي تلك القصيدة الأسطورية التي قالها في صورة سردية حكائية لفتاة بنزوى ماتت ودُفِنت ثم ظهرت حية من جديد، وهي حكاية معروفة منتشرة، ولعل من أسباب شهرتها أن نور الدين السالمي (ت:1332هـ) نقلها في كتابه الشهير (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان). ويضم الديوان شيئًا من نثر الشاعر المعولي، منه رسالة مسجوعة تشبه فن المقامات وكأنه يخاطب فيها أحد مُدَّعي الأدب إذ يقول في أولها: «يا من يعدُّ نفسه من أهل البلاغة والبراعة لِيَغرَّ الجماعة».
ونختم بأن موضوعات شعر المعولي كثرة يقصُر عنها هذا المقام، ونمثل لما جاء في قصائده من غير الأغراض الآنفة الذكر بعدد من قصائده إحداها في طريقة صنع المِداد، وهي يذكرنا بقصيدة أخرى في ذات الموضوع قالها قبله الشاعر اللواح الخروصي قبل زمانه بنحو قرن، وله قصيدة في شيء من الطب، وقصائد في الفلك إحداهن في نحوس الأشهر وأخرى في المنازل (النجوم)، وقد تناول أيضًا شيئا من الفقه في شعره.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سلطان بن سیف قصائد فی بن سلطان جاء فی فی شعر سیف بن
إقرأ أيضاً:
الأم أيقونة الإبداع ومصدر الإلهام للأدباء
الأم في الأدب العربي تمثل أيقونة الإبداع ومصدر الإلهام للأدباء، ونحن على مشارف احتفالات الوطن العربي بيوم الأم الذي يصادف في 21 مارس (آذار) من كل عام، بهذه المناسبة الجميلة يناقش موقع 24 حضور الأم في الأدب الحديث.
عيون الأمهات حصن الأدباء
ويرى الأدباء أنهم يتامى بالمعنى الاجتماعي والنفسي، ويحتاجون دائماً عيون الأمهات ليحصّنوا ذواتهم، في زمن تتعرّض فيه الذات البشرية للتشويه، وذات المبدع للصراع، أما في الشعر فالأم هي المحرّك الجيني للشعراء.
وعن حضور الأم في الأدب الحديث يقول الناقد والأكاديمي بجامعة الإمارات الدكتور شعبان بدير: "الأم في الأدب العربي تمثل أيقونة الإبداع ومصدر الإلهام للأدباء، حيث تجسد الحنان والتضحية والقيم النبيلة، استوحى منها الشعراء والكتاب رمزية عميقة تعبر عن الحب المطلق، والانتماء، والعطاء غير المشروط، ظهرت الأم في الشعر العربي القديم كمصدر للحكمة، بينما في الأدب الحديث أصبحت رمزاً للوطن والانتماء والهوية، ويعد شاعر النيل "حافظ إبراهيم" من أوائل الشعراء الذين ركّزوا على دور الأم في بناء المجتمع، وأبرز من سلطوا الضوء على مكانتها في العصر الحديث، كما في أبياته الخالدة:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها
أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
واحتلت الأم في ديوان أمير الشعراء "أحمد شوقي" مكانة رفيعة، حيث صورها رمزاً للحب والحنان والتضحية، ففي العديد من قصائده، أشار إلى دورها في التربية وبناء الأجيال، متأثراً برؤيته الإصلاحية للمجتمع، ومن أبرز ما قاله عن الأم:
ولم أر للخلائق من مَحَلّ
يهذّبها كحِضن الأمهات
فيعكس تقديراً كبيراً للأم، مؤكداً أنها الأساس في غرس القيم والأخلاق، وأن تأثيرها يمتد ليشمل صلاح المجتمع كله، وها هو الشاعر التُّونسي "أبو القاسم الشّابي" يرسم صورة مشرقة للأم من خلال توظيف الخيال البديع، إذ يجعل من حضنها "حرماً سماويّ الجمال مقدساً"، فيرتقي بعاطفتها إلى مرتبة القداسة والطهر، يقول:
الأمُ تلثم طفلها وتضمه
حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس
وبلغت الأم كذلك في شعر "نزار قبّاني" درجة "القدّيسين"، يقول:
صباح الخير يا قدّيستي الحلوه
مضى عامان يا أمي على الولد الذي أبحر
فيصوغ صورة للأم بقدسية مترفعة، حيث يناديها "قدِّيستي الحلوة"، فيضفي عليها طهر الملائكة وصفاء الروح، جاعلاً من حبها ملاذاً سماويّاً لا تبلغه يد النسيان".
ويضيف الدكتور بدير: "تحتل الأم مكانة محورية في العديد من الأعمال الروائية العالمية والعربية، حيث تجسد رمز الحنان، والتضحية، والقوة، وأحياناً المعاناة، ففي الروايات العالمية، نشير إلى أهم عمل روائي احتفى بالأم في صورتها الاستعارية الراقية، وهي رواية "الأم" لمكسيم غوركي التي تصور الأم كرمز للنضال والوعي الثوري، أما في الأدب العربي، تتنوع صورة الأم بين الحنان والتضحية والصراع، ما يعكس عمق دورها الإنساني والاجتماعي في الأدب، كما تجلى في العديد من روايات نجيب محفوظ، مثل "بداية ونهاية"، الذي جسّد دور الأم كركيزة للأسرة رغم المعاناة، وكذلك دور "أمينة" في ثلاثيته التي خلّد فيها الأم المصرية المثالية المعروفة بالصبر والمحافظة على تماسك أسرتها رغم النزعة الاستبدادية لزوجها.
وصور خيري شلبي الأم في رواية "الوتد" في شخصية الحاجة (فاطمة تعلبة)، التي تمثل دعامة صلبة للعائلة، تماماً كما يرمز إليه عنوان الرواية، يصورها الكاتب كأم قوية، متماسكة، وصاحبة سلطة معنوية، حيث تتحكم -بحكمة ودهاء- في شؤون أسرتها، محافظةً على تماسكها في وجه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
وفي ثلاثية الكاتب الجزائري "محمد ديب"، تتجلى صورة الأم كرمز للمعاناة والصبر والقوة والنضال في مواجهة قسوة الاستعمار والفقر، كذلك هي مصدر الحنان والأمان في عالم مليء بالحرمان.
وهكذا تبقى صورة الأم في الأدب العربي الحديث رمزاً خالداً للحنان والتضحية والصمود، تتجسد في شخصيات تجمع بين العاطفة والقوة، ومع تطور السرد الروائي، أصبحت الأم أكثر حضوراً كفاعل أساسي يعكس تحولات المجتمع، مما يؤكد مكانتها الملهمة في الإبداع الأدبي".
وفي ذات السياق، يقول الأديب أنور الخطيب: "الأم هي نبض الحياة ولازمة الإبداع، وتكاد لا تخلو رواية أو قصيدة في الأدب الحديث من الأم، لأسباب كثيرة أولها أن أي عمل أدبي – روائي على وجه الدقة- لا يستقيم إلا بوجود شخصية الأم، مباشرة أو رمزاً أو تأويلاً، وثانيها، وهذا جانب سيكولوجي، أن الأدباء يتامى بالمعنى الاجتماعي والنفسي، ويحتاجون دائماً عيون الأمهات ليحصّنوا ذواتهم، في زمن تتعرّض في الذات البشرية للتشويه، وذات المبدع للصراع، أما في الشعر فالأم هي المحرّك الجيني للشعراء، وغالبا ما ينتقل الشعر من الخال وليس العم، وهذا ينطبق عليّ، إضافة إلى ذلك، وفي السياق ذاته، فإن الشاعر يبحث عن أمه في حبيبته، فأي مناجاة أو وصف أو مخاطبة تكون الأم هي المنطلق، وأنا هنا لا أتحدث عن عقدة أوديب".
وعن حضور الأم في أعماله الأدبية، يضيف الخطيب: "لا أختلف كثيراً عن توصيفي السابق وقد أزيد، أجمل قصائدي كانت عن الأم، ولا أحتاج إلى مناسبة لأكتب لها، وكما قلت، المبدعون يتامى وإن كانت الأمهات على قيد الحياة، وأنا كنت يتيما وتضاعف يتمي كأديب وإنسان بعد رحيل أمي، ولا أحد يملأ مكانها:
أمي.. كانت تعدّنا كل يوم مرتين/ مرةً في الصباح وأخرى في المساء/ بعد سبعين عاماً من الهباء/ لم يعد في البيت إلاّ حفنة من هواء/ وصوتها يمشي على عكازتين. أمي أنقذتني أكثر من مرة حين كنت (أعلَقُ) في أثناء كتابتي لرواياتي، أنقذتني في رواية "فتنة كارنيليان" حين كنا نتواصل يومياً لأطمئن عليها خلال حرب 2006 في لبنان، فأصبحتْ عصب الرواية، واستشرتها في النهاية واعتمدت رأيها التي تركتها مفتوحة لحساسية القرار، وأنقذتني مرة ثانية في روايتي الأخيرة "ناي على جسد"، حين استحضرت الأم ووجدت حضورها أكثر من ضروري في الرواية، بمعناها البيولوجي والأسطوري، فهي التي كان الروائي يلجأ إليها كلّما تأزّمت الأحداث وتمرّدت الشخوص، وهي التي كانت تنصت للجميع، بحضورها وغيابها وهذه هي الأم، في الرواية أو الحياة".