لعل من أمتع ما قرأت من كتب التراث العربى الإسلامى مؤلفات أبو حيان التوحيدى المتوفى 403 ه، الذى كان فيما يقول مؤرخو حياته متفننا فى جميع العلوم، صوفى السمت والهيئة، لدرجة أنهم اعتبروه شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ومحقق المتكلمين ومتكلم المحققين وإمام البلغاء الذى لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، وكان مع كل ذلك فقيها صحيح العقيدة متبحرا فى العلوم والمعارف، والطريف أنه مع كثرة ما صحب من ذوى السلطان وأصحاب النفوذ فى عصره، عاش حياته رقيق الحال مشرد الفكر قلق الركب لا يكاد يستقر فى مكان!.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نحو المستقبل
إقرأ أيضاً:
روايتي.. مصطفى بيومي وأم كلثوم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أسمع أم كلثوم الآن: "وعدونا فسبقنا ظلنا". لا يصل إلى المعنى إلا من يغمض عينيه فيعانق لذة التحليق، وعندئذ يفهم ما الذى تعنيه عندما تقول: "والثوانى جمرات فى دمي". هذه صورة تشبه المعجزات، وتصنع لمن يفهمها لذة لا يصل إليها أصحاب المليارات. من يعشق ألحان السنباطى وزكريا والقصبجى لا يمكن أن تروقه ألحان عبد الوهاب لثومة. السنباطى صالون كلاسيكى فخم، وزكريا يُسمع من المتربعين فوق الشلت فيحلقون، أما القصبجى العظيم، رق الحبيب تحديدا، فقد أضاعه حبه لأم كلثوم ورضاه أن يعيش فى ظلها منحنيا على عوده كأنه يشكو له العشق المستحيل.
هكذا يتذوق المثقف الراسخ ذو الذائقة الفنية الرفيعة، مصطفى بيومي، أم كلثوم.
ذات يوم خاطبنى العملاق بيومى قائلًا: "أم كلثوم فى حياتك موضوع رواية. حاولى أن تكتبيها". ترددت ثم استجبت لتكون انطباعاته الأولى "أم كلثوم تسير فى خط موازٍ لسيرتك الذاتية وللوطن معًا.. الاختفاء الجزئى لا يعنى الغياب..عبقرية ثومة فى قدرتها الفريدة على التعبير عن المفارقات المتعارضة.. التحقق والانكسار.. لكن التحقق هو الاستثناء قصير العمر.. ثورة الأب محطة مهمة.. فرويد أيضًا محطة لا تقل أهمية.. كلمات الخال تنبىء عن شخصية ممتدة.. المهم أن تكتبى بلا توقف.. المجد للكتابة.. ترتفع بنا إلى مقام الإلوهية.
الشهادتان.. الذاتية والموضوعية.. الرابط الأساسى هو حضور أم كلثوم كأنها القرين. سقوط العراق محطة محورية، وصعود أم كلثوم وهبوطها وثيق الصلة بالهم العام.. رائع. تاريخ بهاء الفرد يساوى تاريخ ومسيرة الوطن، وبينهما أم كلثوم. التحدى هنا هو: كيف توجد فى مناخ تطغى فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟. استخدمتِ تعبير "الناس فاض بيها"، فتذكرت للصبر حدود: أنا فاض بيا ومليت. ومع حديثك عن انتشار الإخوان فكرت فى الأغانى الدينية لأم كلثوم بتوجهها المختلف. الكتابة تحتاج إلى "صنعة"، وأهم ما فى الصنعة هو كيفية إخفائها.. وهذا هو التحدي".
وضعنى بيومى فى تحدٍ صعب جعلنى مضطرة لتجاوز نفسي، والتجاوز يعنى الخروج عن القطيع. يعقب بيومي: "فى الاختلاف عن القطيع إيجابيات وسلبيات، والسلبية الأكبر تتمثل فى غياب الرضا.. الغربة الروحية المزمنة محور مهم فى حياة البطلة الروائية، وأم كلثوم من الملاذات. التوحد الفنى بين الشخصية والوطن عامل مهم.. فكيف للوطن الضائع المتوتر المنقسم أن يعين أبناءه؟".
تتطور التجربة الكتابية فيلاحظ بيومي: أعتقد أنك تشعرين الآن بمعنى أن تكتبك الرواية وتكتبينها فى إطار جدلي. نعم. البرد فكرة والدفء فكرة والجسد فكرة، ولا شك أيضًا فى بؤس العقلية العربية. الماضى الذى تصنعه أم كلثوم هو المستقبل على نحو ما؛ مستقبل مراودة الدفء والمعنى هروبًا من تعاسة الحاضر. تجميع المشاهد المكتوبة وإعادة ترتيبها وملء بعض ثغراتها سيقترب بكِ من الرواية التى تتعانق مع السيرة الذاتية والإيقاع السينمائي، أما الموسيقى التصويرية فمن نصيب أم كلثوم. الجولة مع المدير والعودة أقرب إلى المشهد السينمائى المكثف، وارتباط الغثيان بالطريق وتعرجاته فكرة جميلة تتوافق مع جملة العالم المقدم فى الفقرات السابقة.
فاجأنى "الروائى المتقاعد" كما يسمى مصطفى بيومى نفسه: سنة ١٩٩٨ كتبت رواية "كتاب الأغاني" ولم أفكر فى نشرها. عدت إليها منذ أسبوع واكتشفت أنها تجربة مختلفة. هل تعرفين لماذا؟ لأنك بدأتِ الكتابة بنية الحديث عن أم كلثوم.. نفس الهاجس الذى كان يسكنني، والغريب أننى أنهيت الرواية قبل يوم واحد من بلوغى سن الأربعين.. حكم أربعينية كما تقولين، والعودة إلى غرفة الذكريات. فسألته "هل هى سيرة ذاتية؟". فرد: "نعم.. معظم الروايات التى كتبتها أقرب إلى السيرة الذاتية.. رواية أم كلثوم انتهت بشكل أولي.. وأعايش رواية أستمتع بها جدا "مذكرات قاتل".. سيرة ذاتية أيضا.. ففى أعماق كل منا قاتل لا يجد الفرصة".
الرواية التى يكتبها مصطفى بيومى محاولة للإجابة عن السؤال. ثومة تسكن الكثيرين، وتمثل خطًا موازيًا لحياتهم. الأمور نسبية بطبيعة الحال، ولا حقيقة مطلقة، لكن على الصعيد الشخصى لم يحب بيومى شخصية عامة مثل أم كلثوم ونجيب محفوظ. بهما ومعهما يصالح الزمن. أم كلثوم تحظى باهتمام أكبر من الجميع، لأن براعتها الفنية عابرة للسياسة والفكر والعقائد الدينية.. والأجيال أيضًا.