بوابة الوفد:
2025-02-11@20:53:29 GMT

مقابسات أبوحيان التوحيدي

تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT

لعل من أمتع ما قرأت من كتب التراث العربى الإسلامى مؤلفات أبو حيان التوحيدى المتوفى 403 ه، الذى كان فيما يقول مؤرخو حياته متفننا فى جميع العلوم، صوفى السمت والهيئة، لدرجة أنهم اعتبروه شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ومحقق المتكلمين ومتكلم المحققين وإمام البلغاء الذى لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، وكان مع كل ذلك فقيها صحيح العقيدة متبحرا فى العلوم والمعارف، والطريف أنه مع كثرة ما صحب من ذوى السلطان وأصحاب النفوذ فى عصره، عاش حياته رقيق الحال مشرد الفكر قلق الركب لا يكاد يستقر فى مكان!.

ولقد كتب هذا الرجل الموسوعى عدة مؤلفات التزم فى عرضها طريقة التناظر والتحاور وأسلوب المحاضرة والمسامرة وجاءت كلها بعيدة عن التكلف والتعسف بريئة من اللبس والغموض. والكثير من هذه المؤلفات تكاد تدخل فيما نسميه اليوم بالفلسفة التطبيقية، ولعل أشهرها بالإضافة إلى الكتاب الذى اتخذناه عنوانا لهذا المقال، كتاب الامتاع والمؤانسة ،ورسالة الصديق والصداقة، والمحاضرات والمناظرات، ورياض العارفين، وفى ثمرات العلوم؛ ففى هذه المؤلفات وغيرها كان أبوحيان التوحيدى ممتعا لقارئه قادرا على إبهاره بحسن العبارة وعمق المعنى فضلا عما تمتع به من شمولية الثقافة وعمق الفكر لدرجة يمكن القول معها إنه كان بما كتب يمثل ويعكس صورة القرن الرابع الهجرى الذى عاشه كاملا تقريبا ودلالة على ما كان بذلك العصر من تيارات فكرية متباينة. ولعل من أمتع وأعمق ما كتب فى «المقابسات» تلك العبارات الجامعة المانعة حول الأخلاق الجامعة للفضيلة التى إن سلك الفرد وفقا لها متحليا حق التحلى بها جمع بين خير الدنيا وحسن الجزاء فى الآخرة وقد حصرها فى خمس عشرة خصلة هي: «ايثار الخير على الشر فى الأفعال، والحق على الباطل فى الاعتقادات، والصدق على الكذب فى الأقوال، ذكر السعادة وأن تحصيلها يكون باختيار دائما وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء ونفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى تنجزها، وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال، ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك، الصمت فى أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، والإقدام على كل ما كان صوابا، والإشفاق على الزمان الذى هو من العمر ليستعمل فى المهم دون غيره، ترك الخوف من الموت والفقر بعمل ما ينبغى وترك الدنية، ترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا تشتغل بمقابلتهم والانفعال لهم، حسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة، ذكر المرض وقت الصحة والهم وقت السرور والرضا عند الغضب ليقل الطغى والبغى، قوة الأمل وحسن الرجاء والثقة بالله تعالى وصرف جميع البال إليه فإذا يسر الله تعالى إصلاح نفسه بما جاهد عليه تفرغ بعد ذلك إلى إصلاح غيره.. وعلامة ذلك أنه لا يبخل على أحد بنصيحة ولايمنع أحدا رتبة يستحقها، ولا يستبد دون الأخيار بما يتسع له..». وإذا ما نجح الفرد فى تحصيل هذه الفضائل ورفعت عنه – فيما يضيف أبو حيان- العوائق والموانع، صار من أولياء الله الفائزين وأنصاره الغالبين وعباده الآمنين الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.. أن من جعل هذه نبيلة صدره وعقيدة سره ووسيلة بينه وبين ربه – على حد تعبير أبو حيان – فهو الفيلسوف الحق المبرز المحقق. لقد كشف التوحيدى فى هذه المقابسة رؤيته الجامعة المانعة للخلق الصالح وطريق النجاح والفلاح فى الدنيا والآخرة، وحق له أن يقول فى المقابسة التالية « الحق بين منهاجه، ومنير سراجه ومعقول بيانه ومعلوم برهانه، من استضاء به أفلح ومن سلك سبيله نجح «!ولله در أبو حيان التوحيدى، وما أجدر بنا ونحن فى عصر تدهورت فيه أخلاق البشر وانقلب فيه سلم القيم، أن نعيد قراءة هذه النصوص الرائعة وأمثالها لفلاسفة القيم الأوائل لعلنا نستعيد ماضاع من إنسانيتنا فى عصر التكنولوجيا والسوشيال ميديا والميتافيرس !

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل

إقرأ أيضاً:

روايتي.. مصطفى بيومي وأم كلثوم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أسمع أم كلثوم الآن: "وعدونا فسبقنا ظلنا". لا يصل إلى المعنى إلا من يغمض عينيه فيعانق لذة التحليق، وعندئذ يفهم ما الذى تعنيه عندما تقول: "والثوانى جمرات فى دمي". هذه صورة تشبه المعجزات، وتصنع لمن يفهمها لذة لا يصل إليها أصحاب المليارات. من يعشق ألحان السنباطى وزكريا والقصبجى لا يمكن أن تروقه ألحان عبد الوهاب لثومة. السنباطى صالون كلاسيكى فخم، وزكريا يُسمع من المتربعين فوق الشلت فيحلقون، أما القصبجى العظيم، رق الحبيب تحديدا، فقد أضاعه حبه لأم كلثوم ورضاه أن يعيش فى ظلها منحنيا على عوده كأنه يشكو له العشق المستحيل.

هكذا يتذوق المثقف الراسخ ذو الذائقة الفنية الرفيعة، مصطفى بيومي، أم كلثوم.

ذات يوم خاطبنى العملاق بيومى قائلًا: "أم كلثوم فى حياتك موضوع رواية. حاولى أن تكتبيها". ترددت ثم استجبت لتكون انطباعاته الأولى "أم كلثوم تسير فى خط موازٍ لسيرتك الذاتية وللوطن معًا.. الاختفاء الجزئى لا يعنى الغياب..عبقرية ثومة فى قدرتها الفريدة على التعبير عن المفارقات المتعارضة.. التحقق والانكسار.. لكن التحقق هو الاستثناء قصير العمر.. ثورة الأب محطة مهمة.. فرويد أيضًا محطة لا تقل أهمية.. كلمات الخال تنبىء عن شخصية ممتدة.. المهم أن تكتبى بلا توقف.. المجد للكتابة.. ترتفع بنا إلى مقام الإلوهية.

الشهادتان.. الذاتية والموضوعية.. الرابط الأساسى هو حضور أم كلثوم كأنها القرين. سقوط العراق محطة محورية، وصعود أم كلثوم وهبوطها وثيق الصلة بالهم العام.. رائع. تاريخ بهاء الفرد يساوى تاريخ ومسيرة الوطن، وبينهما أم كلثوم. التحدى هنا هو: كيف توجد فى مناخ تطغى فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟. استخدمتِ تعبير "الناس فاض بيها"، فتذكرت للصبر حدود: أنا فاض بيا ومليت. ومع حديثك عن انتشار الإخوان فكرت فى الأغانى الدينية لأم كلثوم بتوجهها المختلف. الكتابة تحتاج إلى "صنعة"، وأهم ما فى الصنعة هو كيفية إخفائها.. وهذا هو التحدي".

وضعنى بيومى فى تحدٍ صعب جعلنى مضطرة لتجاوز نفسي، والتجاوز يعنى الخروج عن القطيع. يعقب بيومي: "فى الاختلاف عن القطيع إيجابيات وسلبيات، والسلبية الأكبر تتمثل فى غياب الرضا.. الغربة الروحية المزمنة محور مهم فى حياة البطلة الروائية، وأم كلثوم من الملاذات. التوحد الفنى بين الشخصية والوطن عامل مهم.. فكيف للوطن الضائع المتوتر المنقسم أن يعين أبناءه؟".

تتطور التجربة الكتابية فيلاحظ بيومي: أعتقد أنك تشعرين الآن بمعنى أن تكتبك الرواية وتكتبينها فى إطار جدلي. نعم. البرد فكرة والدفء فكرة والجسد فكرة، ولا شك أيضًا فى بؤس العقلية العربية. الماضى الذى تصنعه أم كلثوم هو المستقبل على نحو ما؛ مستقبل مراودة الدفء والمعنى هروبًا من تعاسة الحاضر. تجميع المشاهد المكتوبة وإعادة ترتيبها وملء بعض ثغراتها سيقترب بكِ من الرواية التى تتعانق مع السيرة الذاتية والإيقاع السينمائي، أما الموسيقى التصويرية فمن نصيب أم كلثوم. الجولة مع المدير والعودة أقرب إلى المشهد السينمائى المكثف، وارتباط الغثيان بالطريق وتعرجاته فكرة جميلة تتوافق مع جملة العالم المقدم فى الفقرات السابقة.

فاجأنى "الروائى المتقاعد" كما يسمى مصطفى بيومى نفسه: سنة ١٩٩٨ كتبت رواية "كتاب الأغاني" ولم أفكر فى نشرها. عدت إليها منذ أسبوع واكتشفت أنها تجربة مختلفة. هل تعرفين لماذا؟ لأنك بدأتِ الكتابة بنية الحديث عن أم كلثوم.. نفس الهاجس الذى كان يسكنني، والغريب أننى أنهيت الرواية قبل يوم واحد من بلوغى سن الأربعين.. حكم أربعينية كما تقولين، والعودة إلى غرفة الذكريات. فسألته "هل هى سيرة ذاتية؟". فرد: "نعم.. معظم الروايات التى كتبتها أقرب إلى السيرة الذاتية.. رواية أم كلثوم انتهت بشكل أولي.. وأعايش رواية أستمتع بها جدا "مذكرات قاتل".. سيرة ذاتية أيضا.. ففى أعماق كل منا قاتل لا يجد الفرصة".

الرواية التى يكتبها مصطفى بيومى محاولة للإجابة عن السؤال. ثومة تسكن الكثيرين، وتمثل خطًا موازيًا لحياتهم. الأمور نسبية بطبيعة الحال، ولا حقيقة مطلقة، لكن على الصعيد الشخصى لم يحب بيومى شخصية عامة مثل أم كلثوم ونجيب محفوظ. بهما ومعهما يصالح الزمن. أم كلثوم تحظى باهتمام أكبر من الجميع، لأن براعتها الفنية عابرة للسياسة والفكر والعقائد الدينية.. والأجيال أيضًا.

مقالات مشابهة

  • بروفايل.. أحمد أمين «النُص»
  • فى يومها الدولي.. 10 سنوات من الاحتفال بإنجازات المرأة العربية في مجال العلوم 
  • من المختبرات والمعامل.. "اليوم" تستعرض إنجازات المرأة السعودية في العلوم
  • هذا زمن التملّق!
  • مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين
  • روايتي.. مصطفى بيومي وأم كلثوم
  • بعد انسحاب القوات الإسرائيلية.. الجيش استكمل انتشاره في رب ثلاثين وطلوسة وبني حيان
  • فى وداع مصطفى بيومي
  • أغرب أمراض الأنف
  • مفاجآت عديدة في الحكومة الجديدة.. إليكم أبرزها!