بوابة الوفد:
2025-01-07@08:52:31 GMT

مقابسات أبوحيان التوحيدي

تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT

لعل من أمتع ما قرأت من كتب التراث العربى الإسلامى مؤلفات أبو حيان التوحيدى المتوفى 403 ه، الذى كان فيما يقول مؤرخو حياته متفننا فى جميع العلوم، صوفى السمت والهيئة، لدرجة أنهم اعتبروه شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ومحقق المتكلمين ومتكلم المحققين وإمام البلغاء الذى لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، وكان مع كل ذلك فقيها صحيح العقيدة متبحرا فى العلوم والمعارف، والطريف أنه مع كثرة ما صحب من ذوى السلطان وأصحاب النفوذ فى عصره، عاش حياته رقيق الحال مشرد الفكر قلق الركب لا يكاد يستقر فى مكان!.

ولقد كتب هذا الرجل الموسوعى عدة مؤلفات التزم فى عرضها طريقة التناظر والتحاور وأسلوب المحاضرة والمسامرة وجاءت كلها بعيدة عن التكلف والتعسف بريئة من اللبس والغموض. والكثير من هذه المؤلفات تكاد تدخل فيما نسميه اليوم بالفلسفة التطبيقية، ولعل أشهرها بالإضافة إلى الكتاب الذى اتخذناه عنوانا لهذا المقال، كتاب الامتاع والمؤانسة ،ورسالة الصديق والصداقة، والمحاضرات والمناظرات، ورياض العارفين، وفى ثمرات العلوم؛ ففى هذه المؤلفات وغيرها كان أبوحيان التوحيدى ممتعا لقارئه قادرا على إبهاره بحسن العبارة وعمق المعنى فضلا عما تمتع به من شمولية الثقافة وعمق الفكر لدرجة يمكن القول معها إنه كان بما كتب يمثل ويعكس صورة القرن الرابع الهجرى الذى عاشه كاملا تقريبا ودلالة على ما كان بذلك العصر من تيارات فكرية متباينة. ولعل من أمتع وأعمق ما كتب فى «المقابسات» تلك العبارات الجامعة المانعة حول الأخلاق الجامعة للفضيلة التى إن سلك الفرد وفقا لها متحليا حق التحلى بها جمع بين خير الدنيا وحسن الجزاء فى الآخرة وقد حصرها فى خمس عشرة خصلة هي: «ايثار الخير على الشر فى الأفعال، والحق على الباطل فى الاعتقادات، والصدق على الكذب فى الأقوال، ذكر السعادة وأن تحصيلها يكون باختيار دائما وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء ونفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى تنجزها، وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال، ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك، الصمت فى أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، والإقدام على كل ما كان صوابا، والإشفاق على الزمان الذى هو من العمر ليستعمل فى المهم دون غيره، ترك الخوف من الموت والفقر بعمل ما ينبغى وترك الدنية، ترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا تشتغل بمقابلتهم والانفعال لهم، حسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة، ذكر المرض وقت الصحة والهم وقت السرور والرضا عند الغضب ليقل الطغى والبغى، قوة الأمل وحسن الرجاء والثقة بالله تعالى وصرف جميع البال إليه فإذا يسر الله تعالى إصلاح نفسه بما جاهد عليه تفرغ بعد ذلك إلى إصلاح غيره.. وعلامة ذلك أنه لا يبخل على أحد بنصيحة ولايمنع أحدا رتبة يستحقها، ولا يستبد دون الأخيار بما يتسع له..». وإذا ما نجح الفرد فى تحصيل هذه الفضائل ورفعت عنه – فيما يضيف أبو حيان- العوائق والموانع، صار من أولياء الله الفائزين وأنصاره الغالبين وعباده الآمنين الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.. أن من جعل هذه نبيلة صدره وعقيدة سره ووسيلة بينه وبين ربه – على حد تعبير أبو حيان – فهو الفيلسوف الحق المبرز المحقق. لقد كشف التوحيدى فى هذه المقابسة رؤيته الجامعة المانعة للخلق الصالح وطريق النجاح والفلاح فى الدنيا والآخرة، وحق له أن يقول فى المقابسة التالية « الحق بين منهاجه، ومنير سراجه ومعقول بيانه ومعلوم برهانه، من استضاء به أفلح ومن سلك سبيله نجح «!ولله در أبو حيان التوحيدى، وما أجدر بنا ونحن فى عصر تدهورت فيه أخلاق البشر وانقلب فيه سلم القيم، أن نعيد قراءة هذه النصوص الرائعة وأمثالها لفلاسفة القيم الأوائل لعلنا نستعيد ماضاع من إنسانيتنا فى عصر التكنولوجيا والسوشيال ميديا والميتافيرس !

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل

إقرأ أيضاً:

أنشودة البسطاء|رحلة يحيى حقى مع المسرح.. من «قنديل أم هاشم» إلى مدرسة النقد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لم يكن الأديب المصرى البارز يحيى حقى كاتبا مسرحيا بالمعنى المباشر، لكنه أثر فى المسرح المصرى بشكل غير مباشر من خلال أعماله الأدبية ورؤيته الثقافية.

اهتم «حقى» بتقديم صورة دقيقة عن الإنسان المصرى وهمومه، مما ألهم العديد من المسرحيين لاستلهام شخصياته وأفكاره فى أعمالهم المسرحية.

وتحمل كثير من أعمال يحيى حقى الأدبية مثل «قنديل أم هاشم»، عناصر درامية قوية تجعلها قابلة للتكييف للمسرح، وبالفعل تم تحويل هذه الرواية إلى عروض مسرحية وسينمائية.

ركز «حقى» فى كتاباته على الصراع بين القديم والجديد، وهو موضوع متكرر فى المسرح المصرى، حيث قدم شخصيات تعكس هذا الصراع بتعقيدها النفسى والاجتماعى.

تميزت كتاباته بلغة بسيطة وراقية، مما أسهم فى خلق نصوص مسرحية قريبة من الجمهور ومفعمة بالحياة، فقد تم تحويل رواياته وقصصه القصيرة إلى عروض مسرحية، مثل «قنديل أم هاشم»، التى تناولت صراع القيم والعادات فى مواجهة الحداثة.

ألهمت أفكاره ورؤاه الكُتَّاب المسرحيين لصياغة نصوص تناقش قضايا الهوية المصرية والتحولات الاجتماعية، فكان «حقى» يرى المسرح كجزء لا يتجزأ من الثقافة، ومن المؤمنين بدوره فى تنوير المجتمع.

وفى السطور التالية نستعرض إسهامات الأديب يحيى حقى فى المسرح، وأيضا روايته الشهيرة «قنديل أم هاشم»، التى تحولت إلى مسرحية وقدمت ثلاث مرات برؤى فنية مختلفة، بالإضافة إلى مقالاته النقدية والمؤثرة فى المسرح.

الأديب يحيى حقي

عمرو دوارة: «قنديل أم هاشم» مسرحية واحدة بثلاثة تجسيدات فنية متنوعة

أكد المؤرخ المسرحى الدكتور عمرو دوارة، أن الأديب يحيى حقى لم يُقدم له على خشبة المسرح سوى عمل واحد مقتبس من روايته الشهيرة «قنديل أم هاشم» وعلى الرغم من ذلك تم تقديم هذا العمل ثلاث مرات برؤى فنية مختلفة.

أُعيد تقديم المعالجة الأولى عام 1962 عبر «جمعية أنصار التمثيل والسينما»، حيث أعدت النص أمينة الصاوى، وأخرجه محمود السباع، وشارك في بطولته الفنانين: محمد توفيق، سلوى محمود، عبدالخالق صالح، وشويكار فى أولى تجاربها المسرحية، لاحقا قُدمت نفس المعالجة مرة أخرى عام 1965 على خشبة «مسرح الحكيم»، بمشاركة الفنانين محمد توفيق، بثينة حسن، رشوان توفيق، أحمد أباظة.

أما المعالجة الثانية، فجاءت بعد أكثر من 15 عاما، وتحديدا العام 1982، وذلك من خلال الفرقة المركزية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث أعد النص سيد عواد، وأخرجه ماهر عبدالحميد، وقام ببطولته الفنانين: لمياء الأمير، حسن الوزير، عبدالواحد السعيد، وآخرون.

وقال دوارة لـ«البوابة نيوز» إن يحيى حقى كناقد مسرحى كتب العديد من المقالات التطبيقية التى تناولت بالنقد والتحليل عددا من العروض المسرحية، شملت هذه المقالات أعمالا محلية مثل: «قيس ولبنى» لعزيز أباظة، «يوم القيامة» لصبرى فهمى، ومن إخراج زكى طليمات، «الحائرون» لفتحى رضوان، و«شفيقة ومتولى» و«المستخبى» لشوقى عبدالحكيم، وغيرها.

وتابع: أما على مستوى المسرحيات العالمية، فقد تناول «حقى» أعمالا مثل: «دكتور كنوك» لجول رومان، و«الخال فانيا» لأنطون تشيخوف، و«نهاية اللعبة» لصمويل بيكيت، و«مشهد على الجسر» لأرثر ميلر، و«قطة على سطح ساخن» لتينيسى ويليامز، وغيرها.

الدكتور عمرو دوارة

مدرسة المسرح

وأضاف دوارة، أن تجميع وتصنيف هذه المقالات تم على يد الناقد فؤاد دوارة فى الجزء العشرين من الأعمال الكاملة ليحيى حقى، الذى صدر عام 1986 تحت عنوان «مدرسة المسرح»، يحتوى هذا الكتاب على موضوعات ومعلومات مسرحية قيمة، حيث تنوعت فصوله السبعة عشر بين التأريخ، الدراسات، ومقالات النقد التطبيقي، تضمن الفصل الأول دراسة مهمة حول علاقة العرب بالمسرح، بينما تناول الفصل الثانى دور هواة المسرح وأنشطتهم الريادية، كما اشتمل الكتاب على تأريخ لمسيرة بعض رواد وأعلام الفن المسرحى مثل: محمود مراد، صلاح الدين كامل، عباس علام، حسين رياض، فتوح نشاطى، بديعة مصابنى، وغيرهم، بالإضافة إلى ذلك، ناقش الكتاب قضايا مسرحية متعددة، من أبرزها ما ورد فى الفصل الأخير حول عروض «الماتينيه والسواريه» والفروقات بين جمهوريهما.

وتحدث دوارة عن ذكرياته المسرحية مع الأديب يحيى حقى، مشيرا إلى أن أول لقاء مسرحى قام بإعداده كان خلال دراسته بالسنة الأولى فى مدرسة الإبراهيمية الثانوية، بإشراف أستاذه الناقد السينمائى الراحل فوزى سليمان، وذكر أنه اصطحب مجموعة من زملائه للقاء الأديب فى حديقة «جروبى»، حيث استقبلهم بحفاوة وروى لهم ذكرياته عن فرق الهواة، ومنها فرقة «أحمد الشامى»، التى جابت الأقاليم بعروضها المسرحية، موضحا كيف حرص «الشامى» على توظيف المسرح كوسيلة لتثقيف الجمهور ورفع وعيهم، من خلال تقديم ورش لتعليم الحرف اليدوية، كصناعة الصابون والنسيج، خاصة للنساء.

وأشار دوارة إلى أن الجمعية المصرية لهواة المسرح نظمت أولى ندواتها عام 1982 مع الأديب يحيى حقى فى قصر ثقافة قصر النيل، الذى كان حينها مقرا مؤقتا للجمعية، موضحا أن الأديب لفت انتباهه خلال التحضيرات إلى الدور الكبير الذى لعبته «مسارح الصالات» منذ الثلاثينيات، فى ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.

وأقر دوارة بأنه استفاد كثيرا من هذا اللقاء ومن حواراته المتكررة مع زكى طليمات، مما ساعده فى إعداد دراسة شاملة عن مسرح «الصالات»، مؤكدا أن هذه المسارح، التى ازدهرت بين عامى 1930 و1948، لم تكن مجرد أماكن للمنوعات أو «الكباريهات»، بل قدمت مسرحيات هادفة تعالج قضايا اجتماعية ومواطنية، موضحا أن هذه الحقبة أهملت فى التوثيق المسرحى، لذا بذل جهدا لتوثيقها فى كتاب مرتقب يتناول أبرز الفرق والعروض والفنانين الذين أثروا هذه المرحلة المسرحية.

غلاف كتاب مدرسة المسرح

رشوان توفيق: «قنديل أم هاشم» علامة فارقة فى مسيرتى المسرحية وتركت بصمة فى قلوب الجمهور

تعد مسرحية «قنديل أم هاشم» التى شارك فيها الفنان رشوان توفيق واحدة من أبرز الأعمال المسرحية المأخوذة عن الأدب العربى.

تناقش المسرحية قضايا اجتماعية وثقافية عميقة، فالدور الذى قدمه الفنان رشوان توفيق يتجسد فى شخصية «إسماعيل»، الشاب الذى سافر للدراسة فى الخارج وتعلم الطب هناك، ليعود بعد ذلك إلى حارته الشعبية فى مصر حاملا معه أفكارا حديثة تتعارض مع بعض الممارسات التقليدية التى يعتمد عليها الناس فى علاج الأمراض، ومنها التداوى بزيت القنديل الموجود داخل مسجد «أم هاشم».

أبدع «توفيق» فى إظهار الحيرة التى يعيشها «إسماعيل» بين العلم الحديث الذى درسه فى الغرب وبين احترامه لإيمان أهل الحى بالموروثات الشعبية، فالشخصية التى قدمها تمر برحلة من الصراع الداخلى إلى محاولة إيجاد حل يوفق بين العلم والإيمان، فقد أضفى على الشخصية بعدا عاطفيا قويا، حيث جعل الجمهور يتعاطف مع معاناته وهو يحاول إقناع مجتمعه بتغيير معتقداتهم دون أن يتسبب فى صدام.

الفنان رشوان توفيق

تعكس المسرحية أزمة الهوية الثقافية التى يعاني منها الكثير من المجتمعات نتيجة الانفتاح على العالم الغربى، وبدورها تسلط الضوء على العلاقة بين العلم والإيمان، وكيف يمكن التوفيق بينهما بدلا من الصدام.

وأعتبر الفنان رشوان توفيق «قنديل أم هاشم» من أبرز أعماله المسرحية التى تركت أثرا كبيرا فى قلوب الجماهير، وقد أثنى النقاد على أدائه العميق والمقنع، الذى جعل الشخصية واقعية وقريبة من الجمهور.

وقد أعرب توفيق، عن حبه الشديد للمسرح فى أكثر من مناسبة، واعتبر هذا الدور تحديا كبيرا خلال مسيرته الفنية، حيث كان يتطلب منه التعمق فى تفاصيل الشخصية التى تواجه صراعا داخليا عميقا بين العلم والإيمان بالموروثات الشعبية.

كانت مسرحية «قنديل أم هاشم» من إنتاج هيئة قصور الثقافة عام 1965، ومن بطولة الفنانين: فؤاد أحمد، رأفت عمر طه، قدرية عبدالقادر، حسين قنديل، علية على، ماجدة على، مظهر يونس، تهانى راشد، بثينة حسن، محمد توفيق، رشوان توفيق، أحمد أباظة، عز الدين إسلام، أمين وهبة، مصطفى حلمى، عصمت نعمان، فاروق نجيب، ومن تأليف يحيى حقى، وإعداد أمينة الصاوى وعثمان أباظة، وإخراج محمود السباع ويوسف مرزوق.

مسرحية قنديل أم هاشم

رائد النهضة الثقافية وصانع مجد الفنون فى مصر

يُعد يحيى حقى من الشخصيات التى تركت بصمة استثنائية فى مجال الثقافة والفنون خلال فترة رئاسته لمصلحة الفنون «1955 - 1958»، حيث أسهمت رؤيته الثاقبة وإدارته الحكيمة فى تحقيق نهضة شاملة، وركز على دعم المواهب الشابة وتنمية البنية التحتية الثقافية، ما جعل تلك الفترة علامة بارزة فى تاريخ الفن المصرى.

ففى المسرح حرص «حقى» على تطوير الفرق المسرحية بشكل كبير، حيث دعم «الفرقة المصرية الحديثة»، التى أصبحت فيما بعد «المسرح القومي»، أسهم فى تأسيس فرقة «المسرح الشعبى»، مانحا الفرص لخريجى المعهد العالى للتمثيل للعمل فى هذه الفرق، كما عمل على نشر الثقافة المسرحية فى الأقاليم، إذ نظم جولات مسرحية ناجحة أمتعت الجماهير بمختلف محافظات مصر، مما ساهم فى تحقيق انتشار أوسع للفن المسرحى.

أما فى مجال الفنون الشعبية، فكان لـ«حقى» دور ريادى فى الحفاظ على التراث الشعبي وتقديمه بأسلوب مبتكر، حيث أشرف على إنتاج أوبريت «يا ليل يا عين»، الذى مثل نقلة نوعية فى دمج الفنون الشعبية بالمسرح الغنائى، فقد جمع هذا العمل فريقا مميزا من الكُتَّاب والفنانين، مثل توفيق حنا، أحمد رشدى صالح، زكريا الحجاوى، وأخرجه زكى طليمات، بمشاركة نجوم مثل نعيمة عاكف، محمود رضا، شهرزاد، محمود شكوكو، وآخرون، ولم يقتصر الأثر عند هذا الحد، بل كان الأوبريت بمثابة حجر الأساس لتأسيس فرقة «رضا للفنون الشعبية»، التى أصبحت واحدة من أبرز المكونات الثقافية المصرية.

امتدت إسهامات «حقى» إلى تعزيز الفنون بشكل عام، حيث كان يؤمن بأهمية الفنون كوسيلة لرفع وعى المجتمع وإثراء هويته الثقافية، لذلك ركز على تبنى مشاريع إبداعية، وتوفير بيئة خصبة للفنانين لتقديم أفضل ما لديهم، مما جعل فترة رئاسته نموذجا يحتذى به فى دعم الثقافة والفنون.

الأديب يحيى حقي

تأملات «حقى» فى فن الريحانى بين الكوميديا والعمق الإنساني

عمل «حقى» كناقد ومتابع للحركة المسرحية والثقافية، ودعم تجارب المسرح الطليعى فى مصر، فكتب العديد من المقالات النقدية عن المسرح فى بعض الصحف والمجلات، كما أسهم فى دعم تجارب المسرح الطليعى الذى كان يحاول الخروج عن النمط التقليدى، فكان من المثقفين الذين شجعوا التجديد فى الفنون، بما فى ذلك المسرح، وكان يرى فيه وسيلة لنقل قضايا الناس بشكل مباشر.

مسرح نجيب الريحانى

ويقول يحيى حقى فى إحدى مقالاته التى تحمل عنوان «مسرح الريحانى» المنشورة فى العدد الرابع بمجلة «الأديب» فى 1 أبريل عام 1954، لقد حضرت وأنا فى الغربة- والفضل للإذاعة- حفلة ذكرى وفاة نجيب الريحانى، واستمعت بعناية، رغم الطفيليات وما أكثرها حتى فى علم الأثير، إلى الخطب التي القيت وهى إذا استثنينا بعض المبالغات الشرقية المألوفة فى مثل هذه المناسبات تنم عن وفاء صادق، لكنى رأيتنى بالرغم منى قلقا يتملكنى شىء من الحرج كأن فى صدرى قولا يريد أن ينبعث، ووجدت بعض المختزن من المشاعر والأفكار يتضح ثم يقوى فيصبح «عقيدة» لا استطيع منها انفكاكا.

وها آنذاك أدلى برأى ستنفر منه النفوس نفورها من الصوت النشاز وقد يطوى كتابى سريعا بدعوى أننى ممن لا يعجبهم العجب أو الصيام فى رجب، وأوصف بأننى من المررة الذين يفسدون جو المرح بوجههم الكئيب وقد يقال ويا للعيب إننى آكل لحم ميت وكان الأكرم بى أن أقف منه وجها لوجه، لكنى كما قلت لم املك الا اليوم زمام قولى، والأقوال أقدار هى الأخرى، ثم لن يكون كلامى الا عن فن الريحانى كما وصفه خطباء الحفلة فلا ضير على أن أقول كلمة فيه أرجو أن يفسحوا لهم صدورهم.

موهبة الحضور 

وأود قبل كل شىء أن أفرغ من الاعتراف بحقيقة لا يجادل فيها الا أحمق او مريض وهى أن الريحاني كان ممثلا هزليا عظيما تجلت فيه تلك الموهبة الخاصة، التى يسميها أهل المسرح «موهبة الحضور» فلا يكاد صاحب هذه الموهبة يظهر على المسرح وقبل أن ينطق بحرف او يأتى بإشارة حتى يستبد بالنظارة ويجذب إليه قلوبهم، ووجوههم، وعيونهم، وآذانهم، فتنبسط أساريرهم وتطيب نفوسهم ويزول عنهم الهم والغم ويتعالى الضحك والقهقهة، بل قد يضحكون لقول لا يسمعونه وسط الضجة وقد يسأل أحدهم جاره بعد ذلك عن النكتة التي فاتته وضحك لها، لينطق هذا الممثل بما شاء له من السخافات وليأت بحركات مبالغ فيها لا يستلزمها دوره، بل ليكرر هذا ليلة بعد ليلة ومسرحية أثر أخرى فهيهات له أن يصرف النظارة أيا كانوا عن الضحك، بل لعلهم ضحكوا وهم يشترون تذاكرهم، هذا نوع من العشق يعلو عن كل منطق متزمت او تحليل ممرور.

يكفى أن هذا الرجل يسعد الناس، والسعادة نادرة، فماذا تريد أكثر من ذلك، والشعوب كلها تتشابه فى الخضوع لهذا السحر تشابهها فى الحاجة إلى الضحك والترويح عن النفس، فقد شاهدت هذا الجو المرح فى مسرح الممثل التركى «ناشد» ومسرح الممثل الإيطالى «مسكو» كما لمسته فى مسرح الريحانى وله الفخر وكذلك فى مبدأ مسرح على الكسار، لكن هناك فرقا شاسعا بين القول بأن فنه خالد لأنه فن مصرى صادق، قد انبعث من قلب مصر ودل عليها وترجم عنها وأرخ لها أن الريحانى هو مصر، ومصر هى الريحانى أو كما قالوا.

الفنان نجيب الريحاني 

لون الريحانى

لا أريد أن أتحدث عن منشأ الريحانى وعشيرته التى ينتمى إليها أصله وقدرتها على الإندماج فى مصر او قدرة ثرى مصر على استيعابها، فقد أصدر شعب مصر السخى، الكريم حکمه، فلا نقض له ولا استئناف - ارتضى أن يحتضن الريحانى وأن ينزله عنده منزلة الأبناء شان النبيل المضياف، الذي يفتح باب بيته ورزقه على الله، لكن هذا لا يمنعنى من أن أرى فى ازدواج الريحانى بين الأصل والمصير مفتاح الغاز حياته وتفسير شخصيته، وأجزم وليس فى يدى دليل سوى شعورى بأن الريحانى عاش طيلة حياته يشعر بفارق مكتوم بينه وبين المصريين، وهذا سر وحدته الملحوظة فى حياته العامة والخاصة.

أما إذا قال أنصاره أنه كان إنسانا فوق الأوطان وفوارق الشعوب، فهذه مسألة أخرى، فأصدق وصف للريحانى إذن أنه كان من أدنى طبقات المهاجرين إلى الشعب المصرى وأسهلهم اختلاطا به وأكثرهم فهما لعاداته وعجائب طبعه، وأن أردت دليلا فأنى انبهك إلى أن أول إعلان أذكره عن فرقة الريحانى من تلك الإعلانات الطويلة التى تلصق على الجدران يتوجها اسم الفرقة مكتوبا على هيئة قوس باللون  الأحمر «فرقة الريحانى فرانكو آراب»، وأنظر لكلمة فرانكو، وهذه دعوة صريحة لجمهور الليفانتيين لحضور هذه المسرحية ومعهم أيضا أنصاف المتعلمين المترددين بين الشرق والغرب لا علموا علم هذا ولا ذاك، وسنرى أن جمهور الليفانتيين ظل مخلصا للريحانى إلى نهاية أيامه، ولعلى لا أخطئ إذا زعمت أن فرقة الريحانى ولدت فى العهد الذى كانت أغنيته الشائعة على لسان الشعب «البيه والهانم عاملين أبونيه.. قص الشعر ده لزمته إيه» وهى كافية فى الدلالة على حركة التفرنج التى كانت بعض مظاهر ذلك العهد.

الريحانى.. والعهد الأول

وكان يقال أن مصر تتمتع حينئذ برخاء كبير وزاد الطلب على القطن وارتفعت أسعاره، وجاء العمدة المصرى بقطنه إلى البورصة وتلقفه السماسرة ليخطفوا قطنه ويسوقونه إلى ما وراء البحار، فيغزل وينسج أو ينتفع به فى أمور كثيرة هى من أسرار غلبة الغرب على الشرق، ثم يعاد بعضه ويباع لنا بأغلى الأسعار، وماذا نال العمدة المصرى لقاء ذلك؟ ورقا مطبوعا يقال أنه نقد قانونى يعطى له عن علم ويقين بأن العمدة ليس له من الخبرة أو التجربة ما يمكنه من صرف هذا النقد فى أوجه النفع او حتى من ادخاره ليوم أسود، وأى فرق بين استلاب القطن فى تلك الأيام وبين استيلاب البترول فى عصرنا هذا؟ وكان لا مفر من أن يبعثر العمدة الفلاح ماله فى اللهو والعبث، هذا العمدة هو موضع سخرية سماسرة القطن وأشباههم فى النهار، فلماذا لا يكون هذا العمدة موضع لهو وتسلية بالليل، وأمام من؟ أمام جمع أغلبه من هؤلاء السماسرة أنفسهم وأشياعهم والمخدوعين وراءهم.

وهكذا ولدت شخصية «كشكش بك» عمدة كفر البلاص، هل كان «كشكش بك» موضع رثاء او عطف؟ كلا، كان كالمهرج الذى يصفع على قفاه فى مهازل أولاد بعجر ويخرج النظارة وهم موقنون بأن «كشكش بك» الذى نال من التوبيخ والصفع على القفا ما نال، لا يزال يرى نفسه سعيدا بلهوه وعبثه بين فريق الراقصات العاريات ممن لا يعرفن من العربية الا «هات» وهو لا يرطم الا بكلمة «خذى» يكاد ينطق وجهه بأنه صرف عليهن كل ماله ولم ينل منهن شيئا هذا هو «كشكش بك»، عمدة فى قفطان له لحية طويلة كالسحرة فى صوت أجش، وشبق عينيه، وتلعيب حواجبه وهو دائخ وسط شلة الراقصات.

كش كش بك

فنان الشعب.. سيد درويش 

وكتب لهذه المسرحيات الاستعراضية الرخيصة، وهذا من مفارق الحياة، أن تكون من غير قصد ازدهارا لموهبة مصرية صميمة، موسيقى سيد درويش، كان تجديده أن يجعل اللحن تصويريا، فهو يريد أن يكون فى نغم السقائين صدى نداءاتهم وفى نغم سائقى العربات، كذلك وقع سياطهم وهكذا فكانت هذه المسرحيات وما تتضمنه من استعراض لمختلف طوائف الشعب مادة طيبة يبرز فيها فنه الجديد، وبفضل الحان سيد درويش وحدها لا بفضل تلك المسرحيات دار اسم «كشكش بك» على لسان ودخل كل دار، وأذكر أننى كنت أغنى مع جميع أخوتى فى صوت واحد لحن «الأبوكاتية» لا تهمنا الكلمات أو المعانى بل يكفى لسرورنا أن تجرى ألسنتنا بهذا اللحن السهل الجميل «أما الكلمات فهى لبديع خيرى وسنتحدث عنه فيما بعد»، وجاءت الأزمة وانفض المولد بعد أن ذبح عجل السيد فى شخص «كشكش بك» عمدة كفر البلاص، فانفضت فرقة الريحانى مع انفضاض المولد، فهل هذا من علائم الفن الأصيل؟

سيد درويش

على الكسار 

ينبغى أن أذكر على الكسار عسى أن يأخذ هذا الرجل الطيب القلب المحبب إلى النفس بعض حقه وهو الذى لم أقرأ له كلمة واحدة لام فيها أهل بلده على التنكر له ونسيانه وانصرافهم عنه إلى غيره، والكلام عن الكسار يزيد أيضًا حقيقة مسرح الريحانى فى عهده الأول وضوحًا، فقد أنشأ على الكسار فرقة عاصرت فرقة الريحانى واعتمد الاثنان على الغناء والرقص والفكاهة ولا يزال الناس يذكرون تنافسهما ودخولهما فى قافية تنكيت، فيسمى أحدهما مسرحية «راحت عليك» فتكون مسرحية الثانى باسم «فشر» وهكذا، لكن «الكسار» الذى اختار له شخصية «عم عثمان البربرى»، ظل مخلصا لطبيعته لم يحاول أن يخدع أحدا أو يغرق فى التهريج وفضل أن تكون فرقته مصرية لا «فرانكو آراب»، وليس من العجيب أن الفتى الأول كان مغنيا على صدغيه وشم عصفورة، وامتزجت شخصية «عم عثمان البربرى» فى مبدأ الأمر بجمهور النظارة ولم تكن تمر ليلة دون تبادل النكت بين المسرح والصالة وبخاصة أعلى التياترو.
وفى السعى وراء طلاوة الجديد غشى جمهور الليفانتيين أيضا مسرح على الكسار، لكنهم انصرفوا عنه سريعا، فعم عثمان البربرى هذا هو عندهم فى الدار طباخ أو خادم مائدة أو بواب، رجل من عباد الله يأكل رزقه بعرق جبينه، قد تكون له قفشاته ومشاكله ومفارقه، لكن حياته محصورة فى الدار أو أمام الباب ولو سخروا منه وأرادوا استرضاءه ناولوه قرشا فيقبله على الفم ويرفعه إلى الجبين ويضعه فى جيبه ويشكرهم، أنهم يريدون رجلا إذا أرادوا أن يخسروا به ويضحكوا عليه وأعطوه كأسا فى كابريه وتضاحكوا حين يسيل لعابه امام فتاة جميلة تهزأ به، ففى هذا وحدة ترفيه عن أنفسهم وشعور بأنهم فى منجى من عالم المغفلين، فكانت ضالتهم شخصية «كشكش بك» لا «عم عثمان البربرى».

وأراد على الكسار أن يقدم صورة شعبية صادقة ساذجة لا غلو فيها ولا تهريج، فكان نصيبه الاخفاق السريع، لأن الصورة الصادقة الساذجة مألوفة مملة ولأنه وقع فى مأزق التكرار ولم يستطع الخروج منه، وانصرف عنه أيضا جمهور الطبقة الراقية والمتعلمين ومرتدى الجلاليب والطواقى، فكان هذا أدعى لأن يهجره إلى الأبد بقية المطربشين والمقبعين وكنت أود لو أن «الكسار» جعل من فرقته مزيجا من السيرك والمسرح وخرج بها يجوب بلاده بحرى وقبلى، لكنه ظل متشبثا بذكريات مجده الأول فى العاصمة ونحن لن ننساه أو ننسى جهاده وفضله.

الفنان علي الكسار 

الريحانى.. والعهد الثانى 

وقضت الأزمة على الفرقتين وعلى تنافسهما ومعاني نجاح الأولى وإخفاق الثانية، ثم مر وقت وظهر الريحانى مرة أخرى على رأس فرقة جديدة، خلع قفطان «كشكش بك» وعمته وأصبح مطربشا أفنديا يلبس بدلة من الطبقة الوسطى، هل كان اختيار الريحانى لشخصية هذا الأفندى من الطبقة الوسطى عن عمد براعة منه فى السير مع تيار الحياة الاجتماعية بمصر، وتمثيل مشاكلها الجديدة؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك، لكن أشهد أنه كان موفقا فى هذا الاختيار.

فقد صاحب هذا العهد أزمة الطبقة الوسطى من الأفندية وأغلبهم من موظفى الحكومة وأشباههم، وأنك لتجد كلمة الأفندى بنطقها العربى فى القواميس الإنجليزية ويستعملها كتاب العرب حين يريدون سب الشرق ووصفه بالعجز والخيلاء فى وقت واحد، وقد ظل «دانلوب» يعمل سنين عديدة لصب شخصية الأفندى المصرى الموظف بالحكومة، ثم زعمت إنجلترا فجأة أنها رفعت يدها عن شئون مصر الداخلية وأسلمتها للأفندية ووقفت تشاهد، ولو أنك دققت النظر فى أفندية ذلك العهد لوجدت أغلبهم لم يكن قد ألّف بعد بدلته وبخاصة ربطة العنق، فهذه الطبقة كانت ممزقة بين الشرق والغرب، بين مقدرتها المحددة وماليتها المتواضعة وبين مطالب الدولة الناشئة والحياة الحديثة ودسائس الديوان وتحكم الرؤساء وفشو الوساطة، وغلب سلطان هذه الطبقة على الحياة الاجتماعية بدليل أن أول الشهر كان يوما مشهودا فى المتاجر والبارات وغيرها.

وفهم الريحانى من أين تهب الريح وسار مع التيار وأصبح المعبر عن بعض مشاكل هذه الطبقة، الأفندى الطيب القلب حسن النية الذي لا يخلو مع ذلك من مكر ودهاء، الأفندى الذى لا يريد من الحياة إلا سلاما، لكنه قادر على الدس والطعن للدفاع عن النفس فجأة من قطيع الذئاب والسباع، الأفندى الحائر بين الفتاة العفيفة المتأخرة والفتاة الحديثة المشكوك فى إخلاصها «وقد لعبت المرأة المصرية فى تطويرها السريع دورا كبيرا فى رسم متاعب ذلك الجيل» الأفندى الذى لا يجد ما يتسلى به إلا فى ميدان النكتة يكشف بها خداع الناس ونفاقهم والرثاء لنفسه واستدرار العطف عليها، ومن وراء ذلك كله الخلق الشرقى الصميم، التسليم بالقدر والرضاء.

لذلك فقد أتخذ «الريحانى» شخصية هذا الأفندى ليعبر عن مشاكله ومتاعبه، لكن هذه كلمة ينبغى أن تكتب بحروف غليظة من أين استمد فنه وتعبيره؟ هل ألّف «الريحانى» وبديع خيرى قصة واحدة من صميم الحياة المصرية؟ لا، لقد عجز كل العجز وتساقطا كالذباب بلا خجل أو حياء على مائدة المسرح الفرنسى الرخيص، فهل هذا الفن المصرى الأصيل؟ وأنى اتحدى أنصار «الريحانى» أن يزعموا أنه فيما عدا قصة توباز قد اقتبس مسرحية واحدة تعتبر من الآثار الباقية فى تاريخ المسرح الفرنسى، أنه استورد لشعب مصر أكسد بضاعة وزينها لهم بلفائف من التدليس والخداع وإذا لم تنطبق مادة الغش التجارى فى قانون العقوبات على أمثال هذه المسرحيات، فعلى أى شىء إذن تنطبق؟ نعم، أنه فن أصدق وصف له أنه غش تجارى رخيص.

الفنان نجيب الريحاني 

شارلى شابلن

إذا تحدثنا عن أثر شارلى شابلن فى نجاح الريحانى فى مصر، فكلا الرجلين من أبناء جيل واحد، فكان شارلى قد أصبح من الخالدين يضحك لأفلامه، لأنها صامتة، البيض والصفر والسود ضحكة واحدة، لماذا؟ لأن شارلى عبر بفنه الهزلى عن مأساة ضعف الفرد الطيب الفقير وسط مجتمع قادر ظالم منافق، هذا معين أزلى لا تمسه يد البلى، وأن كان شارلى قد أضاف إليه مسحة العامل الضائع فى المجتمع الحديث بآلاته ورأسماله وقسوة قوانينه الاقتصادية وزيف أنظمته الاجتماعية.

لم يجد شارلى الخلاص إلا فى بوهيمية سمحة، قد يخرج من تجارب الحياة غارقا في الجراح لكن نفسه الصافية باقية، فأنت ترى أن شارلى استند إلى الخصائص الأصيلة فى النفس البشرية وإلى العواطف التى لا يختص بها جيل دون جيل او طبقة دون طبقة، ولم يكن مفر من أن يتكسر على شاطئ مصر بعض أمواج من فن شارلى، وأن تتهيأ لها عقول الناس وأرواحهم وأذواقهم، فجاء «الريحانى» وقلد شارلى وسار على هدى خطاه، لكنه حبس فنه المسروق أيضا في تمثيل متاعب طبقة واحدة هى الطبقة الأفندية من موظفى الحكومة وأشباههم، ولولا غلبة هذه الطبقة على المجتمع المصرى، كما ذكرنا لما توفرت أسباب هذا النجاح السطحى للريحانى.

قصة مسروقة وشخصية هى مسخ عاجز لشارلى، فماذا فعل الريحانى فيما تبقى له فى ميدان الفن المصرى الأصيل، ما هى نكتة الريحانى؟ عمد «الريحانى» والمسئولية فى ذلك موزعة بينه وبين بديع خيرى إلى الحيل الصبيانية التى يتسم بها كل فن ضحضاح فج، أعطى لأشخاص مسرحياته أسماء خيل إليه أنها وحدها كفيلة بأن تضحك الناس، وهكذا رأينا أسماء مثل «بقدونس أفندى» و«بصلة هانم» وغير ذلك من السخافات التى يأنف منها كل صاحب فن أصيل، وأنظر إلى هذا الجهد والافتعال فى نكتة الأخرس فى مسرحية «الدلوعة حين يريد»، أن يطلب «فرخ ورقة بيضة» ثم قفز من هذه الحيل السخيفة إلى ميدان فسيح أجاد فيه كل الإجادة، ميدان الردح والتشليق بلا مسوغ أو رادع.

شارلي شابلن

شخصيات الريحانى

والحيلة الرخيصة الثانية التى ينبغى أن ينتهى إليها كل تهريج مفتعل أن «الريحانى» صب سريعا جميع ممثليه فى قوالب من حديد وجعل كلا منهم على هيئة معلومة لا يتعداها فى مسرحية إثر أخرى «ابن الذوات التالف، الغني العبيط، الخادمة الشرشوحة، البنت الدلوعة، المعلم لابس اللاسة، الأفندى العجوز الخبيث» وهكذا، وجعل لكل منهم «لازمة» لا يتعداها لأنها حين جربت أول مرة أحبها الناس وضحكوا لها، وكان ينبغى بعد ذلك أن تفصل مسرحيات الريحانى على قد هذه الشخصيات، وهذا العبث لا تزال تشكو منه إلى اليوم صناعتنا السينمائية.

لم يخل أغلب مسرحياته من شخصية امرأة تركية عجوز ليضحك الناس من رطانتها بالعربية، وهذا أيضا من الحيل المكشوفة السهلة، فالأتراك مثلا يدخلون فى مسرحياتهم الهزلية شخصية باشا مصرى، وبديع هو المسئول وحده عن هذا الجانب من فكاهة «الريحانى» ولم تخلو أزجاله فى العهد الأول من كلمات تركية كثيرة مدسوسة فى غير موضع أو داع، وإنى أسأل أنصار الريحانى هل مجتمعنا المصرى المعاصر للريحانى يضم أمثال هذه الشخصيات؟ هذه موضة لسنة 1914 وما قبلها، فهل هذا هو الفن الصادق الأصيل الذى يصور مجتمعنا على حقيقته، وهل هناك دليل أبلغ على الوهم فى فن الريحانى واعتماده على موهبة الحضور وحدها من أنه أخفق إخفاقا ذريعا على الشاشة البيضاء أو كان يتعلل بأنه لم يجد المخرج الكفء الذى يفهم فنه.

ونستعرض الآن الصورة التى رسمها «الريحانى» للمجتمع المصرى، وأننى أخجل حين أقول أن المصريين عند مسرح الريحانى قوم طيبتهم بلاهة وغزلهم تلعيب حواجب، يحبون الحكم والمواعظ الفارغة، سريع غضبهم لا يتمالكون أعصابهم، يثورون للتافه من الأمور، فلو ألقيت على أحدهم تحية الصباح لانحدر عليك سيل من الردح والتشليق، حرام أن يدمغ الشعب المصرى النبيل الأنوف الكريم بمثل هذه الصورة البشعة، لن تكون هذه النظرة إلى شعب مصر إلا نظرة أجنبي تخدعه بعض المظاهر، فينساق فى الترويج لها والإلحاح بتبيانها كأنها كل شىء ولا شىء هناك غيرها، وشأنه فى ذلك شأن الزائر المتعجل أو المقيم الذى لم يندمج.

كش كش بك

ولماذا نلوم الريحانى وحده ولا نقول إنه كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصرى بحملة ضخمة من التدليس والخداع، فليس من العجيب أن تكون فرقة الريحانى من قلائل الفرقة المصرية التى مثلت فى قصر عابدين، وليس من الغريب أن «فاروق» كان ينتقل إلى مسرحه ويرى الجمهور جانب شاربه الملتف إلى أعلى فى البنور الملكى إلى أن تنتهى المسرحية، ومن الآسف أن رئيس الديوان الملكى لن يتم تاريخ مصر الحديث دون الكشف عن شخصيته وأسراره ومدى أثره يقف ليقدم الريحانى إلى مولاه، وقد سمعته مرة يصف الريحانى قائلا: «هذا رجل يأكل عنده جمع من الناس على مائدة واحدة ولكنها يتجشأ للفقراء بصلا وللأغنياء ديكا روميا»، فأنت ترى أن الذوق واحد والعقلية هى هى والمصاب عام.

الريحانى فريد زمانه ووحيد أوانه

وقد فرغت من قولى وأبرأت ذمتى ولا أترك القلم دون أن أسجل هنا ابتسامة غلبت على شفتى والنفس أمارة بالسوء حين وجدت المحتفلين بذكرى الريحانى قد وقعوا فى مأزق حرج، فهم يمتدحون الممثل الناشئ الذى يقوم بدور الريحانى ويصفقون له ويضحكون ويقهقهون ويضمنون له النجاح الباهر، ثم يؤكدون فى الوقت ذاته أن «الريحانى» فريد زمانه ووحيد أوانه والدهر عاجز عن أن يجود بمثله، فهذان قولان متناقضان، عليهم أن يختاروا بينهما وإلا فهم غير صادقين فى أحدهما، وأترك لهم حرية الاختيار.

نجيب الريحاني 

 

الأديب يحيى حقي 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات مشابهة

  • أنشودة البسطاء|رحلة يحيى حقى مع المسرح.. من «قنديل أم هاشم» إلى مدرسة النقد
  • سيرة الفلسفة الوضعية (2)
  • فوضى الألقاب
  • لم يترك نفسه بلا شاهد
  • تحديث مطار سوهاج
  • مصر التى فى خاطرى
  • تسوندوكو: شراء الكتب دون قراءتها
  • كريمة أبو العينين تكتب: الفن والشعب
  • تطوّر المجتمع العلمي عند العرب
  • وحوش الشر والظلام..؟