جامع الصالح بصنعاء.. تحفة الزمان والمكان ومعلم إسلامي فريد في عصره
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
جامع الصالح في العاصمة اليمنية المختطفة من مليشيا الحوثي الإرهابية، يُعد تحفة الزمان والمكان، وأكبر الجوامع والمساجد في اليمن والعالمين العربي والإسلامي، وأحد أهم المعالم الإسلامية في العصر الحالي على مستوى العالم الإسلامي.
هذه التحفة المعمارية والهندسية البديعة، لم يكن تشييدها غريبا على ذوق وعزيمة الانسان اليمني، أو طفرة بالنسبة لشعب له تاريخ ضارب في الاعماق لالاف السنين قبل الميلاد، وكان لها في مثل هذا الشهر الفضيل دورا إضافيا في تربية النفس على قيم التسامح والتعاون، ونشر قيم الوسطية والاعتدال.
بُني الجامع وملحقاته على نفقة الزعيم الشهيد علي عبد الله صالح، في محيط ميدان السبعين، وافتتحه في العام 2008م، على مساحة قدرها نحو 224 ألف و821 مترا مربعا ويتسع لنحو 45 ألف مصلٍّ في الداخل والخارج، وله موقف خاص لقرابة 1900 سيارة.
مر مشروع الجامع بدءا بالفكرة والتنفيذ وحتى الافتتاح بمراحل عديدة، بذلت خلالها جهود مضنية سواء من فريق التخطيط الهندسي أو مراحل اختبار التربة، ومن ثم البناء والإشراف والمتابعة. هذه المراحل عكست أهمية المشروع الذي بات أكبر واجمل معلم إسلامي في تاريخ البلاد، منذ دخول الإسلام إليها في السنة السادسة للهجرة.
يشمل المشروع، الجامع وكلية علوم القرآن والدراسات الإسلامية وتضم نحو 25 فصلاً دراسياً وقاعات محاضرات واجتماعات وصلاة، ومتحف خاص بالشهيد "صالح" يضم جميع مقتنياته والهدايا والجوائز والشهادات، بالإضافة إلى الباحة والمواضئ، ومواقف السيارات لعدد 1900 سيارة، إلى جانب مساحات واسعة من الحدائق والممرات والأحزمة الخضراء.
ويعد "جامع الصالح" رمزية مهمة في تأريخ البلاد ومرحلة مزدهرة من مراحل نظام الحكم للزعيم الشهيد "صالح". وكان مبنى "الجامع الكبير" التاريخي بصنعاء، الملهم الأساسي للمهندسين في تصميمه.
الانسان اليمني والتاريخ الإسلامي
تغلّب على بناء الجامع وملحقاته الطابع العمراني اليمني لا سيما المنارات والواجهات، حيث تم تشييدها من الأحجار، لاشتهار اليمنيون عبر التأريخ باستعمالها كمادة للبناء، فضلا من كونها مصدرا طبيعيا يمتاز به اليمن، لتنوعها وقدرتها الكبيرة على مقاومة العوامل البيئية، والانسجام والتناغم مع الطبيعة المحيطة، بالإضافة إلى عمرها الافتراضي.
تقول مصادر هندسية، إنه من أجل تحقيق هذا الغرض تم أخذ عينات من أحجار سد مأرب التأريخي، وعرش بلقيس، للمقارنة بين أحجار الموقعين وأحجار المصدر المعتمد في بناء "جامع الصالح"، وعليه تم تحديد مواصفات المشروع بنحو أربعة أصناف من الأحجار، أحجار بازلتية باللون الأسود وأحجار جيرية بالألوان السوداء والبيضاء والحمراء، ومعها حددت المواصفات، والمقاسات لأحجار البناء، بحيث لا يقل طول الحجر عن (160) سنتيمترًا، ولا يقل ارتفاعه عن (80) سنتيمترا.
واستخدمت الزخرفة والنقوش في الجامع وملحقاته، حيث اُستخدم الحجر الجيري الأبيض للواجهات الخارجية، والحجر الأحمر في الأحزمة الزخرفية بالواجهات فقط لقلة كمياته ولصغر أحجام الأحجار المطلوبة، فضلا عن الاعتماد على المصممين على الجرانيت الأحمر المنقط بالأبيض بعمل تكسية الأعمدة الداخلية للجامع، بينما استخدم الياجور في تكسية واجهات المنارات، حفاظا على التراث المعماري اليمني العريق.
وتم تكسية قباب الجامع من الخارج، بمادة عصرية متطورة اسمها (الجي آر سي) وهي مادة تحاكي الجص اليمني لجهة الطواعية في أعمال الزخرفة، إضافة إلى ميزاتها العالية لجهة الديمومة وتناغما مع التراث اليمني.
النقوش والتطريزات بالآيات القرآنية والفن الإسلامي كانت حاضرة وبفرادة في جدران وسقوف الجامع من الداخل. وهي أشبه بمحاكاة بين التاريخ الإسلامي والإنسان اليمني اللذان شكلا نموذجا فريداً من التلازم والانسجام بين الحضارة اليمنية والرسالة المحمدية منذ ظهورها.
انزعاج وتدمير حوثي
الانسجام اليمني والإسلامي، كان مزعجاً بالنسبة للعائلات السلالية التي تسعى إلى تشويه الرسالة المحمدية وتقديمها نموذجا عائليا، لغرض استخدامها في أطماع دنيوية تحت غطاء ديني لا أكثر، وتقديم الدين على أنه مرسوما الهي منحها التفرّد بحكم الشعوب، ولذا تعمد دوماً على طمس تاريخ وحضارات الشعوب، والحفاظ كل المعالم التي ترتبط بأسماء مرجعيات تزعم أنها من ذات السلالة، لتبقى الوحيدة حاضرة في أذهان الأجيال والتاريخ.
جامع الصالح وملحقاته في اليمن، كان احد هذه المعالم التي تعرضت للعبث والتدمير الممنهج، اولا لما اكتسبه "صالح" من حب كبير من شعبه، وثانيا لارتباط الجامع باسمه كمواطن ينحدر من عائلة يمنية، وهو ما تعتبره مليشيا الحوثي تهديداً لمشروعها وفكرها العنصري، فأقدمت عقب سيطرتها على العاصمة صنعاء إثر انقلابها على النظام في 21 سبتمبر/ أيلول 2014م على ممارسة كل محاولاتها الممنهجة لطمس الدلالة الرمزية للجامع من حياة اليمنيين، وفي مقدمة ذلك محاولتها تغيير تسميته.
وتعرّض الجامع وملحقاته لنهب جامع الصالح لعديد من الهجمات والاعتداءات الحوثية، منها نهب مقتنيات، بما فيها متحف "الصالح" والمصابيح والتطريزات التي يزدان بها سقفه. نقلتها إلى قصورها واستبدلت بعضها باخرى من صناعات رديئة الجودة في تعارض مع المواصفات الاصلية، واتخذت منه وكرا لنشر أفكارها الطائفية المستوردة من إيران، وتعاط القات، وبث خطابات زعيمها في باحته، علاوة على أهماله لغرض تدميره
وازدادت العبثية الحوثية بالجامع ومقتنياته من يوم إلى آخر، حينما أدركت أنه بشكله واسمه محفور في وجدان الشعب، وما يزال الجميع يردد اسمه في كل تفاصيل حياتهم وتحركاتهم.
المصدر: وكالة خبر للأنباء
كلمات دلالية: جامع الصالح
إقرأ أيضاً:
سياحة جامع السلطان قابوس الأكبر وخطوة في مجال التّصحيح
السياحة الدينية من أهم أنواع السياحة في العالم لا تقل أهمية عن مثيلاتها من أنواع السياحة الأخرى، وقد كتبتُ مقالة سابقة في جريدة عُمان بعنوان: السياحة الدينية في عُمان، ومما ذكرتُ في مقدمتها أن «السياحةُ الدينية بما تحمله هذه المفردة من أبعاد روحية وطقوسية، وآثار مادية كدور العبادة والنقوش والمقابر، وتأريخ ديني عريق، وتنوع ديني ومذهبي، ومعارف طقوسية وكلامية وعرفانية، وتصورات وأساطير وشيء من الخرافة، لما تشكله الذاكرة الدينية من تراكمات روحية وطقسية لأزمنة موغلة في القدم، ومحاولة مبكرة لفهم الوجود، وتشكل العلاقات المجتمعية، فلها تأثيرها على الفنون والعادات والتقاليد، كعادات الزواج والولادة والدفن والنواح وغيرها..».
ولأني كثير التردد على جامع السلطان قابوس الأكبر بمحافظة مسقط، خصوصًا على مكتبته العامرة بأكثر من خمسين ألف عنوان حتى الآن، وأيضا سبق لي أن كتبت عن هذه المكتبة بشكل سريع؛ أرى في هذا المعلم الديني حضورًا واسعًا من السياح من العالم، ومنه العالم العربي، ولا يكاد زائر يزور عُمان إلا ويأخذ جولة في الجامع، إلا أنه لم يكن يوجد هناك تنظيم واستثمار سياحي حقيقي لهذا المعلم، وأحيانا تسمع الصراخ من هنا وهناك، وفيه حديقة جميلة يمكن أن تستثمر في مقهى، ومكان للتصوير والإبداع، كما رأيته في حديقة ضريح الشاعر الفارسي الشهير حافظ الشيرازي (ت 792هـ/ 1390م) في شيراز بإيران.
كما نجد استغلالًا للسائح من قبل بعض الشركات السياحية، وأحيانا ينقلون معلومات ومفاهيم مغلوطة لعدم اطلاعهم وتخصصهم، كذلك من قبل بعض سيارات الأجرة، والتي تستغل السياح، فتنقل صورة سيئة عن عُمان، وكنت أرجو -لكون هذا الجامع أكبر معلم ديني في عُمان، وبوابة السياحة الدينية في سلطنة عمان- أن يرفق بمتحف يعرف بالثقافة الدينية في عُمان قديمًا وحديثًا، وبتعددها الديني والمذهبي، وبتسامحها وتعايشها، مرفقا بالصور والنقوش والمخطوطات والرسائل، وأن يكون بوابة للسائح لزيارة المعالم الدينية الأخرى في البلد.
وأسعدني ما وجدته مؤخرا من تنظيم لهذا الجامع، من قبل الجهة المختصة، وتشجيعها للشركات الصغيرة، مع تعجبي من الجدل السلبي الذي شاهدته في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قررت الذهاب بنفسي، وقراءة الواقع عن قرب، فأدركت أن العديد مما تسمعه في وسائل التواصل ليس صحيحا، والعديد من الكلام عن عجل، وعن عدم تثبت وتأنٍ، ولا أريد الدخول في النيات، فقد يكون صادقًا، لكن يحتاج إلى تثبّت وتأنٍ قبل التسرع في إطلاق الأحكام.
شاهدت فتية يقتربون من أربعين موظفًا، يتحدثون بما يقارب عشر لغات، معهم أفواج من السياح بالعشرات يوميًا، ومنظمون في أفواج منتظمة، وبطرق واضحة، يحملون ثقافة واسعة عن المعلم ومرافقه، وعن الثقافة الدينية في عُمان، وعن نقوشها وفنها، فلا استغلال لسائح، ولا فوضى في زيارة المعلم، ولا معلومات خاطئة توصل إليهم، مع تدريب القائمين بالتفويج السياحي على حسن المعشر، وجميل الخلق، فينقلون صورة حسنة عن هذه البلاد، لهذا ما رأيته كانت خطوة مهمة في مجال تصحيح المسار، فليس الخطأ أن تأتي متأخرًا، لكن الخطأ أن تظل في مكانك ولا تتقدم لتصحيح الخطأ.
كما سمعت منهم أن المشروع ما زال في أيامه الأولى، وهناك برامج سياحية للمعلم، كتوفير سماعات ترجمة مباشرة، وتوفير ما يتناسب في السياحة من مقهى متطور وتصوير وملابس وعيادة متنقلة وعناصر السلامة وغيرها، فضلا عن توفير فرص عمل جديدة، وخلق وظائف للباحثين، وجميع الكادر من العمانيين أنفسهم، ومن جيل الشباب، وهذا يعطي صورة حسنة للجانب السياحي، وفي الوقت ذاته استثمار مثل هذه المعالم هي الصورة الحسنة، بدل العشوائية، وسوء التنظيم، فضلا عن سوء استغلال مثل هذه المعالم.
إن تفعيل الجانب السياحي لهذا المعلم يعطيه صورة متكاملة، ففي المنظور الجمعي يقتصر عند الصلاة والجمعة، بيد أنه واقع أوسع بكثير، ففيه -كما أسلفت- مكتبة من أضخم المكتبات في عُمان من حيث جودة العناوين، وما توفره من جاهزية للباحثين، يقصدها باحثون من عُمان وخارجها، وفيه قاعة لطالما شهدت فعاليات ومؤتمرات وندوات محلية ودولية، وملحق به مركز ومعهد للدراسات الإسلامية والشرعية بجانب المواد الأساسية، وفيه مركز للتعريف بالإسلام وسماحته وتعايشه، كما فيه حديقة غناء تضفي جمالًا وبهاءً للموقع، كل هذا إذا أضيف إليه متحف يروي ذاكرة عمان الدينية، وإذا ألحقت به زوايا للإبداع والفن والرسم والنقش، خصوصا في الجوانب الدينية والإسلامية، ومقاهٍ للحديث والمثاقفة، وأماكن تصوير للذكرى والتوثيق، جميع هذا يعطيه صورة سياحية متكاملة، وجذبًا أكبر للسياحة.
إنَ تفكير العقل الجمعي في تنشيط الثقافة السياحية، كما شاهدناه في بعض الحارات العمانية؛ لهي حالة صحية، وتحتاج إلى دعم مجتمعي، كان رسميًا أم أهليًا، هذا لن يخلو من أخطاء، لكنه الصورة الصحيحة لرقي وتطور المجتمع سياحيا، كما أن تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة، يساعد في خلق وظائف أفقية تسهم في دوران المال بشكل إيجابي، وتوسع من دائرة الأمان المعيشي، وهذا ما نلحظه اليوم في جامع السلطان قابوس الأكبر، فعلينا أن نعطي الشباب شيئًا من الثقة، وشيئًا من سعة تجربة المحاولة، وألا نكون مطلقًا عنصر تذمر وتنمر، مع الحالة السلبية التي لا تتوافق والحالة الإيجابية التي ينبغي أن تصاحبنا في مثل هذه الجوانب التصحيحية.