لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها.

.

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

هل الرسول شخصية خرافية؟

وصلنا الآن إلى غاية النقد الموجه إلى الإسلام بصورة جذرية. وهو التشكيك الرابع المترتب على كل ما تقدم وهو يراوح بين اتهام الرسول الخاتم بكونه ناطقا باسم الشيطان قدحا في أخلاقه إن سلمنا بوجوده وبين نفي وجوده قدحا في قدرته على تحقيق ما حقق ونسبته إلى غيره: والحصيلة هي الذهاب إلى حد نفي وجود الرسول فيكون شخصية خرافية.

فإن سلموا بوجود الرسول الخاتم فأفعاله كلها شريرة وهي أفعال الشيطان وأوهام العقل الإنساني الذي يخضع الرب لمعايير إنسانية ويلغي المعاملة باللطف الإلهي كما ورد في خطاب لوثر الذي عرضناه في الفصل السابق،  وإن سلموا بوجود الآثار التاريخية للقرآن نفوا أن يكون هو مؤلفه بل ينسبونه إلى غيره وهو إما فارسي أو يهودي أو مسيحي لأنهم لا يشككون في انتساب المنتحلات المزعومة للوحي.

ومن ثم فهم يجزمون بأنها مما لا يمكن أن ينتجه بدوي جلف ومن ثم فهو من الوحي الذي لقنه إياه أحد هؤلاء لأنهم لا ينفون انتساب هذه المنحولات المزعومة للوحي الحقيقي الممثل لخطاب الله.

وإذن فيمكن رد المسألة إلى عنصريها:

1 ـ الأول هو التشكيك في أخلاق محمد عند التسليم بوجوده ويتعلق التشكيك في ما يعيبونه عن سلوكه الجنسي والفتوحات التي عرف بها الإسلام وخاصة الغزوات التي شارك فيها الرسول وهي ستون غزوة ونيف يصفها بعضهم بالإرهاب.

2 ـ الثاني هو التشكيك في وجوده ونسبة المنحولات إلى ما أخذه من تسمى باسمه من معلمين فرس أو يهود أو مسيحيين أي من مصادر المنتحلات التي لا يمكن أن تكون من تأليف بدوي جلف لأنها وحي حقيقي.

وقبل الشروع في بيان سخف هذين العنصرين لا بد من التذكير بأن وجودها ليس جديدا، لكن الجديد هو تبني الكثير من النخب العربية وخاصة من بين أدعياء التحديث ممن لا علاقة لهم بالحداثة قبل أن تصبح أيديولوجيا استعمارية بحيث إنهم يخلطون بين الحداثة كما صارت في عصر انحطاطها الاستعماري كما يخلط الرادون عليهم بين الأصالة وما صارت عليه في عصر انحطاط المسلمين.

وهذه الظاهرة لها ممثلون في تونس شهيرون. وقد كان لي معهم جولات. الأول يطبق هذه الرؤية ولكن بصورة مواربة أعني يوسف الصديق الذي يصوغ العنصرين معا ويطبقهما على القرآن: فقراءته للقرآن تجعله انتحالا من الفكر اليوناني.

والضمني في هذا الكلام إذا ضممته إلى نفي أن يكون القرآن في المصحف هو القرآن الشفوي يعني أنه ينفي وجود محمد لأن القرآن الشفوي يرد إلى الحديث الموضوع والقرآن في المصف يرد إلى الانتحال عن اليونان ومن ثم فلا شيء يمكن أن ينسب إلى شخص معين اسمه محمد.

أما الثاني فهو أستاذ يدرس الفلسفة السياسية في جامعة الحقوق والقانون التونسية الناطقة بالفرنسية ألف كتابا في منتصف حكم النظام الذي كان يعمل بسياسة تجفيف المنابع ونشرته له مؤسسة يهودية فرنسية جاء فيها جواب عن سؤال مصدر الإرهاب في "قلب" حدث الحادي عشر من سبتمبر الشهير، أن الإرهاب أصله في ما فعله محمد في خيبر وقتل سبعين يهوديا. وقد دار بينه وبيني جدال حينها ليس في المحتوى لأن ذلك ليس من صنعه بل في القصد منه باعتباره وسيلة للشهرة والاعتراف به رغم خواء وطابه: لأن من يدرس الفلسفة السياسية بمجرد الزاد الذي يستعمله لا علاقة له بالقانون وأخلاقة ولا بالفلسفة وشروطها.

ومعنى ذلك أن مشكله في الموقف من الرسول مباشرة ومشكل الصديق في الموقف من القرآن مباشرة من نفس الطبيعة وعلة تعليقي عليهما لا علاقة له بالموقف لأنه ليس من صنعهما بل هما تبنياه لنفس الغاية دون أن يكونا مؤهلين الأول للكلام في فلسفة القانون والاستراتيجية السياسية والثاني في فلسفة الدين والانثروبولوجيا.

ويمكن القول إن كل الذين يتخرجون من الدراسات الأدبية من نقدة التراث عامة والتراث الديني خاصة يجمعون صفتي هذين الدعيين ومن ثم فالجماعة كلها من باعة الفريب التي ينتجها الاستشراق المتخلف وليس كبار المستشرقين..  أعني التي تنتجها الحرب النفسية والبروباغندا الاستعلامية في الحرب على الشروط التي تتعلق بشروع الأمة في استئناف درها اعتمادا على الرؤية القرآنية التي تسعى إلى توحيد الإنسانية بشهادة الأمة على العالمين.

فلسطين التي برهنت على أن الانتقال من رد الفعل إلى الفعل في الاستراتيجية التحريرية لم يحققه العلمانيون بل الإسلاميون بدليل طوفان الأقصى الذي أنهى سر قوتي أعدى أعداء الإسلام أي الصهيونية والصفوية.وقد لا يفهم الكثير هذا الكلام لأنه يبدو مناقضا تماما لمجريات الأحداث التاريخية الظاهرة  عندما ينسى الناس الفرق بين التاريخين القصير المديد. فهم يجهلون الثاني ويردونه إلى الأول:

1 ـ فلا يفهمون مثلا أن الأمة صمدت منذ بداية الانحطاط إلى بداية النهوض بخلاف كل الامبراطوريات القديمة والوسيطة رغم تكالب المغول الغربي (الصليبيات والاسترداديات والاستعماريات) والمغول الشرقي (الباطنيات والمغوليات والحروب الأهلية بين الطوائف واهل البدع).

2 ـ ولا يفهمون مثلا أن الأحداث الراهنة تثبت أن الأمة انتقلت من الدفاع إلى الهجوم في صمودها. ولنا في ذلك علامتان لا يمكن نفي دلالتهما:

الأولى هي فشل كل محاولات فرض تفتيت الجغرافيا الإسلامية وتشتبت التاريخ الإسلامي وهو معنى بداية نهاية سايكس بيكو.

والثانية هي فشل محاولة فرض العلمنة التي تمثلها هذه الرؤية المزعومة حداثية وهي في الحقيقة آخر ما بقي من السياسة الاستعمارية.

ولنا في ذلك علامتان:

الأولى هي فشلها في تركيا التي برهنت على أن التحديث لم يحقق العلمانيون فيه إلا سلبياته وأن من حقق إيجابياته هم الإسلاميون الذين نقلوا تركيا وحتى باكستان من التبعية في شروط المناعة والردع في مجاليهما بمنطق الآية 60 من الأنفال أي القوة رباط الخيل بمعناهما الحديث.

الثانية هي فشلها في فلسطين التي برهنت على أن الانتقال من رد الفعل إلى الفعل في الاستراتيجية التحريرية لم يحققه العلمانيون بل الإسلاميون بدليل طوفان الأقصى الذي أنهى سر قوتي أعدى أعداء الإسلام أي الصهيونية والصفوية.

فكل من ذكرت في هذه الفصول علتها محاولة الإبقاء على التبعية الحضارية التي شرطها الحرب على القرآن والحديث وعلى محمد الذي يمثل أهم قائد عرفته البشرية في استكمال ثورتين:

ثورة الأخوة البشرية التي حددتها الآية الأولى من النساء التي ترفض الاقتصار على الرحم المباشر الذي قد يفرق بين البشر وتقدم عليه الرحم الكوني الذي يجعل البشر اخوة لانهم من نفس واحدة ولهم رب واحد.

ثورة التعدد الحضاري التي حددتها الآية 13 من الحجرات والتي ترفض المفاضلة بين البشر بالعرق والجنس والطبقة وتكتفي بالتفاضل عند الله بالتقوى فتسوي بينهم في كل ما يترتب على التعارف معرفة ومعروفا.

ذلك هو جوهر ما يحاربه هؤلاء الحمقى الذين وصفت. وهم يفعلون خدمة لما يتوهمونه حداثة واصالة خلطا بينهما وبين كاريكاتورين منهما لان جل هؤلاء الحمقى يراوحون بين استلاب  الإرادة والعقل والانتهازية التي يرونها طريقا للنجومية والاعتراف بهم. لكن الأحداث التاريخية الحالية تثبت أن العالم كله بدأ يفهم طبيعة الثورتين ويتحرر من أكاذيب السرديات التي تفرضها الأسلاموفوبيا بما تزعمه إسلامولوجيا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير القرآن الحديث القرآن رأي الحديث تاويلات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة طوفان الأقصى ومن ثم

إقرأ أيضاً:

الشيخ محمد الصغير: التقوى مقياس التفاضل والخيرية ليست ميراثا

جاء ذلك خلال حلقة من برنامج "الشريعة والحياة في رمضان" والتي ناقش خلالها مفهوم الأفضلية في القرآن الكريم، مؤكدا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار ويفاضل بين خلقه وفق حكمته وعدله، مستشهداً بقوله تعالى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".

وأوضح الشيخ أن الله فضّل بعض الأنبياء على بعض، كما فضّل أزمنة وأمكنة على غيرها، فكما اختار الخمسة أولي العزم من الرسل، وفضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق، فقد ميّز أماكن كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأوقاتا كشهر رمضان وليلة القدر، مشددا على أن هذه الأفضلية ليست عبثية، بل لها حكم وأهداف ربانية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4ما الإيمان؟ عن غزة وصلاة الاستسقاء في الصيفlist 2 of 4"الإِلهُ الأخلاقيّ" وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدّسlist 3 of 4بين رمضانين.. هكذا يعيش ذوو الشهداء بغزة أجواء الشهر الفضيلlist 4 of 4ما أسباب عداوة الغرب للمسلمين؟ ولماذا يعيش رعبا حاليا من الإسلام؟end of list

وأشار إلى أن الفهم الخاطئ لمفهوم الرزق يؤدي إلى اختلال موازين التفاضل بين الناس، لافتا إلى أن الرزق لا يقتصر على المال، بل يشمل الصحة وراحة البال والعلم وصلاح الأبناء.

واستشهد بقول العلماء إن من نظر إلى نعم الله عليه بعيدا عن المقارنات المادية أدرك حجم فضله عز وجل وكرمه، مشيرا إلى أن البعض لا يدرك قيمة النعم التي يمتلكها حتى يفقدها، مثلما حدث مع الناس عند فقدان صوت الأذان خلال فترة جائحة كورونا.

العامل المادي

كما بين الشيخ محمد أن النظرة الدنيوية القاصرة تجعل البعض يعتقدون أن التفاضل يقوم على الامتلاك المادي، مستشهدا بحال الصحابة رضي الله عنهم عندما مرّ رجل فقير على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا إنه لا يُلتفت إليه، ثم مرّ رجل غني فاعتبروه أفضل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن لهم أن ".. هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".

إعلان

وفي سياق حديثه عن معايير الاختيار في المجتمعات، شدد الشيخ على أن المفاضلة بين الناس في الزواج والعمل والمكانة الاجتماعية يجب أن تكون وفق الدين والأخلاق، لا الجاه والمال، مستشهدا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" محذرا من أن تقديم الاعتبارات المادية في الزواج يؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع.

وعرج الشيخ محمد على قضية الجهاد، مبيّنا أنه لا يقتصر على القتال في ساحات المعارك، بل يشمل جهاد المال والكلمة والعلم، وأشار إلى أن الله قدّم في أغلب مواضع القرآن الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لما له من دور أساسي في إعداد الأمة وتقويتها.

وأوضح أن العلماء قديما أشاروا إلى أن الجهاد يشمل كذلك جهاد الرأي والخبرة، حيث يمكن للمرء أن ينصر الحق بعلمه أو قلمه أو حتى صوته.

كما لفت الشيخ إلى أهمية دور الإعلام في كشف الحقائق ونقل صورة عادلة عن القضايا العادلة، موضحا أن الجهاد الإعلامي بات سلاحا مؤثرا في مواجهة الدعاية الزائفة التي تستهدف تغييب وعي الأمة. وفي هذا السياق، أشاد بالدور الذي تلعبه القنوات الحرة في تسلط الضوء على المظلومين ونقل الحقيقة بموضوعية.

العلامة الكاملة

وفي حديثه عن النصر والصبر، أكد الشيخ محمد أن أهل غزة جسّدوا نموذجا عمليا في الثبات، محققين "العلامة الكاملة" في هذا الاختبار، بينما تراوحت مواقف الأمة بين الدعم المحدود والصمت أو الانشغال بالماديات.

وأشار إلى أن بعض المسلمين الذين تخاذلوا عن دعم القضية الفلسطينية سيندمون حين يتحقق النصر، كما ندم البعض عندما رأوا الثورات تنتصر بعد أن كانوا محايدين أو متخاذلين.

وتناول الشيخ أيضا مسألة الافتراء على الإسلام والمسلمين، مشيرا إلى أن بني إسرائيل زعموا أنهم "أبناء الله وأحباؤه" وأن الأمم الأخرى أقل منهم شأناً، بينما يوضح القرآن أن الأفضلية ليست وراثية بل مكتسبة بالأعمال الصالحة.

إعلان

وأضاف أن هذه القاعدة تنطبق على الأمة الإسلامية نفسها، إذ أن خيريتها مشروطة بالإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تخلت عن هذه الشروط فقدت هذه المكانة.

ودعا الشيخ المسلمين إلى إعادة النظر في معايير التفاضل لديهم وفق الميزان الإلهي، مؤكدا أن الأمة الخاتمة لن تحتفظ بأفضليتها إلا إذا التزمت بشروطها، وأهمها الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وحذر ضيف "الشريعة والحياة في رمضان" من أن استبدال العلماء بالمشاهير والفنانين كقدوات في المجتمعات يعد اختلالا في الموازين، ينبغي تصحيحه بإعادة الاعتبار للعلماء والمصلحين والدعاة الذين يعملون لخدمة الأمة.

11/3/2025

مقالات مشابهة

  • الشيخ محمد عيد كيلاني: الاجتهاد في العشر الأواخر قد يكون سببًا في أن يُكتب الإنسان من المقبولين
  • المنشاوي.. "القارئ الباكي" الذي نجا من محاولة اغتيال بالسم
  • من هي الفنانة التي تمنى محمد سامي أن تقع ضحية «رامز إيلون مصر»؟
  • خواطر رمضانية
  • اليوم النبوي.. برنامج اليوم الكامل في حياة النبي
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطاراً جنوب غرب باكستان
  • استعراض المبادرات والمشاريع الحيوية لتطوير المناطق الاقتصادية والحرة
  • الطبلاوي.. آخر المقرئين الكبار وصاحب التلاوة النادرة في جوف الكعبة
  • عباس شومان عن إمامة الطالب محمد أحمد للمُصلين: «أعلم أنك في الأزهر الشريف»
  • الشيخ محمد الصغير: التقوى مقياس التفاضل والخيرية ليست ميراثا