أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها: "لقد انقضى تقريباً من شهر رمضان ثلثيه وبقي الثلث الأخير، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم وأن يوفّقنا لإتمامه واستغلاله فيما يحقّق الغاية التي أراد الله تعالى لنا بلوغها والتي أنبأنا بها وأوضحها لنا في كتابه الكريم في الآية التي شرَّعَ فيها الصوم وأوجبه على المؤمنين حيث قال عزّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالغاية المطلوب أن تتحقّق من أداء هذه الفريضة هي التقوى وهي درجة من العصمة للنفس من أن تتلوَّث بالإنحراف والضلال بافتقاد المناعة أمام جاذبية الشهوات والغرائز كما قال رسول الله: "الصوم جُنّة من النار" أي منجاة من النار، وإنما يكون منجاة من النار لأنه يمنح المؤمن المناعة بما يوفّره له من قوة الارادة التي تمنعه من السقوط والانجراف وراء المغريات التي تستهوي النفس فيتحقّق له التوازن بين متطلباتها وبين المصلحة، لأنّ متطلبات النفس لا حدّ لها لو تركت وشأنها، ولذلك نَبَّهَ رسول الله ن خطرها قائلاً: "أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك".



أضاف: "فالصوم له وظيفة وهي معالجة الخطر الخفي الذي يترصّد الإنسان ويلاحقه من داخله وهو لا يشعر به ولذلك كان أعدى الاعداء حسب تعبير رسول الله ومعه يرتقي الإنسان ليبلغ درجة التقوى التي هي شرط لقبول أي طاعة قال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، ولذلك كان لا بدّ للمؤمن من أن يؤدي هذا التكليف عن معرفة وعن قصد التقرّب إلى الله تعالى، والتقرّب الى الله تعالى إنما يكون بالإتيان بالفعل لتحقيق الغاية التي أرادها الله تعالى منه التي لا تتحقق مع الجهل.  ثم ان من المعلوم ان المناسبات الهامة في هذا الشهر الشريف التي زادته شرفاً وكرامةً جعل الله تعالى في الثلث الأخير منه ليلة هي أشرف لياليه أسماها بليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر، أي إن إحياءها بالطاعات والعبادات من تلاوة القرآن والتخشّع والتخضّع له تعالى بالدعاء والتصدق على الفقراء والمحتاجين وكل عمل صالح هو خير من ألف شهر من الطاعة يقضيها الانسان فيها والإلحاح عليه بالطلب لقضاء الحوائج، فقد سُمّيت بليلة القدر لأن فيها تُقدّر الاعمار والأرزاق وكل شيء من عام إلى عام، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، فهي دعوة لنا لاستغلاها والاستفادة من كل لحظة من لحظاتها وعدم الانشغال عنها بأمور الدنيا التافهة، فقيمتها تساوي قيمة ألف شهر يقضيها الإنسان في عبادة متواصلة وهو مما يعجز الإنسان طول حياته عن تعويضه فيما لو فَوَّت على نفسه هذه الفرصة".

 وسأل الخطيب: "وهل هي بما أنها ليلة تقدير للأمور والتدبير بما فيها الأمور التكوينية مختصة بزمن الرسالة؟ أو أنها مُقدَّرة من الله وثابته من حين بداية وجود هذا الكون وكان كشفها من فضل الله على المسلمين ومن بركات رسول الله؟"، مضيفا "لم أجد مَنْ تحدّث عن هذه المسألة واقتصرت التفاسير عن الحديث حول أهميتها وفضلها، ولكن الرجوع إلى سورة القدر يُظهِر أنها غير مختصة بالاسلام وهي سابقة عليه، فقوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) انها الظرف الزمني لنزول القرآن، فهي جزء لا يتجزأ من الزمن الذي سُمّيَ بشهر رمضان، وانه الوقت الذي اتخذه الله تعالى ليفرق فيه كل أمر حكيم منذ بداية الخلق، وكان نزول القرآن فيه مناسبة للكشف عنه ومما اختص الإسلام والمسلمين به دون غيره من الرسالات وغيرهم من الأمم بياناً لأهمية الإسلام ورسوله وتَفضُّلاً على المسلمين".

وقال: "من المناسبات أيضاً في هذه الليالي الأخيرة مناسبة أليمة التي قد تكون ليلة القدر ذكرى فُجِعَ بها الإسلام وأهل البيت بل الانسانية والعالم أجمع بشهادة سيّد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد خسر العالم أعظم شخصية بعد رسول الله، أراد الله تعالى لها أن تقود الانسانية وتُحقّق لها حلمها المفقود في تطبيق العدالة الالهية وتلقينها المعارف الربّانية، فكانت امتحاناً امتحن الله به هذه الامة التي ضيَّعت على نفسها وعلى العالم هذه الفرصة التاريخية بإخراج العالم من الظلمات الى النور وسقطت في التجربة باكراً حيث لم تستطع الخروج من العقلية القبلية ولم تستوعب أهمية المهمة الرسالية التي كُلّفت بها، واختارت حين خُيّرت بين الرسالة والسلطة أن تختار السلطة على الرسالة، فعليّ وتر العرب وهو يدافع عن الإسلام بأمر رسول الإسلام، فهذه واحدة والأخرى أنهم وبعقلية جاهلية يرفضون أن تجتمع الخلافة والامامة في بني هاشم ولم يزدهم كلام رسول الله ووصاياه في علي وأهل بيته إلا عداوةً وانتقاماً ولا تزال هذه العقلية عقلية السلطة تتحكم في الأمة حتى يومنا هذا، حتى أصبحت الأمة أُمماً للحكّام لا أمة للرسالة، وتنكّروا لنعمة الله عليهم إذ ألَّف بينهم ليعودوا أعداء وعلى شفا حفرة من النار التي كان أنقذهم منها وليكونوا نكرة بين الامم تستذلهم الاذلة في موقفٍ مخزٍ أمام ما يحصل في غزة وما يتعرّض له الشعب الفلسطيني الذي يموت أبناؤه جوعاً وعطشاً وتُقتل أطفاله ونساؤه وشيوخه إلا من قلة من أبناء الأمة الغيارى الذين وقفوا إلى جانب هذا الشعب الأبي الذي قرّر إلى جانب مقاومته البطلة أن يخوضها معركة كربلائية آبيّاً الخضوع والمسكنة تحت شعار هيهات منا الذلة ونموت ولا نركع، الذين حقّقوا النصر قبل دفع الثمن في سابقة غير معهودة في تاريخ الحروب مؤمنين بوعد الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. فأنتم اليوم تفرضون أنفسكم على العالم وتقضّون مضاجع الوحش الصهيوني ومن خلفه من القوى الغاشمة وستحتفلون بالنصر المؤزّر الذي سيتحقّق بإذن الله تعالى قريباً على الرغم من كل عمليات القتل والتهديد باجتياح رفح والسيناريوهات والألاعيب والضغوط التي تُمارس بحقكم: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)".

وأضاف: "ونحن لم نقل ولا نقول لكم كما قالت اليهود لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل قلنا لكم وفعلنا ما قلنا ما قاله عمار بن ياسر لرسول الله "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".  فالقضية ليست قضية الفلسطينين فقط وإنما هي قضية الامة ولبنان معني بها والعدوان والاحتلال والتهديد والقتل والإرهاب طال ويطال العرب ومنها لبنان أيضاً، والبعض في لبنان كما عند بعض العرب لم يأخذ دروس الماضي وما زال يكابر ويمارس التضليل والتهويل وكأن العدو الصهيوني سينكفىء عن الارهاب والقتل والعدوان إذا وقفنا على الحياد أو سيعفيهم من دفع الثمن، وهذا يضحك الثكلى بعد أن استنجد به البعض لتحقيق مشاريع وهمية ما زال يحلم بها فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، هؤلاء أول ما يسيؤن لأنفسهم وللجماعة التي يمثّلونها وبعد ذلك لوطنهم وللشعب اللبناني جميعاً، ويتشاطرون اليوم بمحاولات خائبة لمحاصرة المقاومة وبتحميلها كافة خطاياهم وبالتحريض الطائفي والمذهبي الذي وصل الى حدّ التحريض على النازحين مما يضطرنا للأسف الى وصفهم بالموتورين لأنّ هذا لا يصدر إلا عن موتور لا يُعرَف له سبب، نقول لهم: إنّنا نشفق عليكم وعلى هذا المستوى من التفكير والخطاب وندعو لكم بأن يفتح الله بصيرتكم وتتخلوا عن حقد كنزتموه لمن يدفع ثمن الدفاع عن السيادة فيدّعيها من لا يستحقها وهو أنتم المزورون ويدفع ثمنها السياديون الحقيقيون حقد كنزتموه في أنفسكم غير مبرر، فالمقاومة أثبتت ومن دون حاجة إلى التكرار أنها فوق حساباتكم وهي تلتزم قول السيد المسيح: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ".  

وتابع: "فالذي لا يُرى منه إلا الحقد ليس تلميذاً للسيد المسيح وإن ادّعاه. وقول رسول الله محمد: "أحبوا للناس ما تحبوا لأنفسكم واكرهوا لهم ما تكرهوا لها". فمن لا يحمل الحب لأخيه كما لنفسه زوراً يَدّعي انه من تلاميذ محمد، فمن يحاسبنا على موقفنا في دعم القضية الفلسطينية جدير به أن يحاسب نفسه على تقصيره وعلى حساباته الخاطئة، فمن يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني لا يُحاسَب بل يكافأ، أما المذهبيون والذين تخلّفوا عن النصرة جدير بهم أن يتوبوا إلى الله: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). والله تعالى يقول: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، المتمثل اليوم بالصهاينة والغرب فلا تستمعوا لوسوساتهم التي يسدونها لكم بصورة نصائح (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)". 

وختم الخطيب: "ولا بد أولاً واخيرا من كلمة تبريك للمؤمنين بولادة الامام الحسن وهو حدث ليس عابراً ويمكن بوضوح قراءته في كلام رسول الله من حين علم بولادته الى ارتحاله، فسلام الله عليه وعلى جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الصديقة وأخيه الشهيد ورحمة الله وبركاته، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين، اللهمّ انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المجاهدين والمقاومين والمرابطين الذين يدافعون عن الأمة والوطن، اللهم احفظهم وسدّد قيادتهم وانصرهم نصراً عزيزاً وافتح لهم فتحاً يسيراً واجعل لهم من لدنك سلطاناً نصيرا، اللهم أظهر لنا وليّ أمرك وعجّل فرجه، اللّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، حَتَّى لا يَسْتَخْفِي بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ مَخافَةَ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

المصدر: لبنان ٢٤

كلمات دلالية: الله تعالى ة من النار رسول الله له تعالى إلى جانب

إقرأ أيضاً:

اغتصاب الشعب الفلسطيني

نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرا هذا الأسبوع يفيد بأن جنودا إسرائيليين اعتدوا جنسيا على شقيقين فلسطينيين بعد خطفهما وتعذيبهما في شوارع الضفة الغربية خلال شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. وهذه ليست حادثة استثنائية، إذ أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل، تقريرا يوثق العنف الجنسي الممنهج الذي تمارسه إسرائيل ضد فلسطينيي غزة والضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأكد رئيس اللجنة أن التقرير المعنون "أكثر مما يحتمله أي إنسان" يقدم أدلة دامغة على تورط إسرائيل في هذه الجرائم، مشددا على أنه "لا مفر من الاستنتاج بأن إسرائيل استخدمت العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ضد الفلسطينيين لإرهابهم وترسيخ نظام قمعي يقوض حقهم في تقرير المصير".

ومع ذلك، ورغم وفرة التقارير التي توثق حوادث الاغتصاب والاعتداءات الجنسية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ عام 1948، لا تزال وسائل الإعلام الغربية تكرر، دون أدنى مستويات التحقق الصحفية فضلا عن الاستقصاء، مزاعم إسرائيلية عن وقوع عمليات اغتصاب ارتكبها فلسطينيون بحق إسرائيليين. في الواقع، وثقت تقارير حقوقيّة عديدة استخدام الجيش الإسرائيلي للتعذيب الجسدي والجنسي ضد الفلسطينيين بشكل ممنهج منذ عام 1967 على الأقل، فكيف يمكن لهذه الحقائق أن تتوافق مع السرديّة التي تروجها إسرائيل والغرب؟

 يمكن العثور على الإجابة في حقيقة أن العنصرية ضد الفلسطينيين متجذرة في إسرائيل وفي الغرب، وهي التي تغذي هذه الروايات استنادا إلى تصوّر راسخ في الوعي الغربي بأن الفلسطينيين، بخلاف الأوروبيين البيض، بمن فيهم اليهود الإسرائيليون، هم همجيون وبرابرة. ويبرز هذا الخطاب بوضوح عندما يتعلق الأمر بمزاعم "الفجور الجنسي" للرجال العرب المفترسين، وخاصة الفلسطينيين، وضرورة حماية النساء اليهوديات الإسرائيليات من "شهواتهم وعنفهم" المزعوم.

تسرّع وسائل الإعلام الغربية في تبني المزاعم الإسرائيلية غير المؤكدة وتقديمها على أنها حقائق يجب أن يُقارن بإهمالها التقارير الإسرائيلية والأممية المؤكدة والموثقة عن الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية واغتصاب الفلسطينيين، والتي غالبا ما تُهمَّش أو يُقلَّل من شأنها، إن لم يتم تجاهلها تماما
لقد سارع المسؤولون الإسرائيليون، في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الترويج لعمليات اغتصاب جماعي ارتكبها فلسطينيون بحق نساء يهوديات، إلى جانب تلفيقات أخرى مفبركة عن قطع رؤوس أطفال يهود وشويهم في الأفران، وهي صور ادعى الرئيس جو بايدن أنه شاهدها، على الرغم من أن البيت الأبيض نفى ذلك لاحقا. ورغم عدم تقدم أي امرأة إسرائيلية حتى الآن بادعاء تعرضها للاغتصاب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وعدم ظهور أي دليل مصوّر من مئات الساعات من لقطات الفيديو لعملية حماس يوثق أي حالة من حالات الاغتصاب المزعومة، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا العام الماضي يزعم وقوع جرائم جنسية في ذلك اليوم، رغم إقرارها بعدم توفر أدلة مرئيّة أو طبية أو شهادات مباشرة تؤيد هذه المزاعم. وبينما نفت حركة حماس ارتكاب أي عمليات اغتصاب من هذا القبيل على يد مقاتليها، لم تقدم الحكومة الإسرائيلية، حتى اليوم، أي دليل ملموس يدعم مزاعمها.

لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، نفي وقوع حالات اغتصاب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل يشير إلى أن إسرائيل لم تقدم حتى اللحظة أدلة دامغة لإثبات مزاعمها، ومع ذلك، لم يتردد الخطاب الإعلامي والرسميّ في إسرائيل والعواصم الغربية في تبني هذه المزاعم كحقيقة لا تقبل الجدل، لدرجة أن أي محاولة لمساءلة الإسرائيليين بشأن هذه الادعاءات تجعل المرء متواطئا في إنكار وقوع هذه الفظائع المزعومة و/أو في تحيز جنسوي ضد النساء، وهذا بالرغم من عدم تقدم أي امرأة إسرائيلية حتى الآن بادعاء تعرضها للاغتصاب في ذلك اليوم.

إن تسرّع وسائل الإعلام الغربية في تبني المزاعم الإسرائيلية غير المؤكدة وتقديمها على أنها حقائق يجب أن يُقارن بإهمالها التقارير الإسرائيلية والأممية المؤكدة والموثقة عن الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية واغتصاب الفلسطينيين، والتي غالبا ما تُهمَّش أو يُقلَّل من شأنها، إن لم يتم تجاهلها تماما.

تستمد مزاعم إسرائيل بوقوع عمليات اغتصاب جماعية للنساء الإسرائيليات في 7 تشرين الأول/ أكتوبر مصداقيتها من عقود من القلق بشأن التهديد المُفترض للذكورة الفلسطينية على النساء اليهوديات، وهو ما أثار في الواقع قلق العديد من الصهاينة منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي. وفي سياق تحليلها لهذا القلق الصهيوني، وصفت الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة أرندت مظاهره بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 على النحو التالي: "يبدو أن المواطنين الإسرائيليين، المتدينين وغير المتدينين، مُتفقون على استصواب وجود قانون يحظر الزواج المختلط [بين اليهود والفلسطينيين]، ولهذا السبب الرئيس.. فهم مُتفقون أيضا على عدم استصواب وجود دستور مكتوب يُلزم فيه بتوضيح مثل هذا القانون بشكل مُحرج"، مُعتمدين بدلا من ذلك على الشريعة اليهودية للحماية منه. وقد أشارت أرندت إلى المفارقة التي وجدتها في سياق محاكمة المجرم النازي أدولف أيخمان عام 1961 في إسرائيل، حيث "أدان الادعاء قوانين نورمبرغ [النازية] المشينة لعام 1935، التي حظرت الزواج المختلط والعلاقات الجنسية بين اليهود والألمان. كان المراسلون [الصحفيون] الأكثر اطلاعا على دراية بهذه المفارقة، لكنهم لم يذكروها في تقاريرهم".

تصاعدت حدّة المعارضة الصهيونية للاختلاط الجنسي العرقي بشكل ملحوظ بعد عام 1948، وبلغت مستويات متطرفة منذ سبعينيات القرن الماضي، مع صعود الحاخام المستوطن اليهودي الأمريكي مائير كاهانا، مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، إلى الواجهة السياسية. كان كاهانا الأمريكي، الذي عمل مستشارا لمكتب التحقيقات الفيدرالي وأدين بالإرهاب، قد انتقل للاستقرار في إسرائيل عام 1971، وكان يشعر بهلع شديد من الاختلاط الجنسي والعرقي بين اليهود والفلسطينيين، مرددا صدى قوانين المجتمع الأمريكي العنصري الأبيض ضد الاختلاط العرقي الجنسي، خاصة بين النساء البيض والرجال السود، الأمر الذي أثار إعجابه بوضوح أثناء نشأته في الولايات المتحدة الأمريكية العنصرية. ومع ذلك، لا تقتصر هذه النزعة العنصرية في إسرائيل على محاكاة قوانين نورمبرغ النازية، التي قارنتها بها أرندت، بل تتماشى مع التوجه العام لمجتمعات المستعمرات-الاستيطانية الأوروبية التي حرصت على فرض الفصل العرقي وعدا الاختلاط الجنسي في معظم أنحاء العالم المستَعمر. وتجدر الإشارة إلى أن ولاية ألاباما الأميركية لم تلغ قانونها المناهض للاختلاط الجنسي بين الأعراق إلا في عام 2000، ليكون بذلك آخر قانون من نوعه في الولايات المتحدة.

لكن الرغبة الجنسية الجشعة التي يُقال إن الرجال الفلسطينيين يكنّونها للنساء اليهوديات كانت شديدة لدرجة أنه حتى عندما لم يغتصبوهن، يبدو أنهم اغتصبوهن بالفعل، كما حصل حين قضت محكمة إسرائيلية عام 2010 بإدانة رجل فلسطيني بتهمة "الاغتصاب عن طريق الخداع"، بزعم أنه تظاهر بأنه يهودي لممارسة الجنس بالتراضي مع امرأة يهودية. وعندما اكتشفت المرأة أن الرجل الذي جامعته ليس يهوديا، رفعت دعوى قضائية ضده، وأدانته محكمة إسرائيلية بالاغتصاب. وقد تزايدت عمليات ضرب وقتل الرجال الفلسطينيين على يد يهود في القدس ومناطق أخرى من إسرائيل خلال العقدين الماضيين بافتراض أنهم يواعدون أو يسعون لمواعدة نساء يهوديات، كما ازداد عدد المنظمات اليهودية الملتزمة بمنع الاختلاط الجنسي بين الأعراق وحماية النساء اليهوديات من إفساد الرجال الفلسطينيين.

هذا النمط من العنصرية ليس فريدا في السياق الإسرائيلي، بل يتطابق مع أنماط القمع الاستعماري الأخرى. وقد أشارت الناشطة الأمريكية السوداء الشهيرة أنجيلا ديفيس منذ عقود إلى أن أسطورة الرجل الأسود المغتصِب في السياق الأمريكي "تُستحضر بشكل منهجي كلما تطلبت موجات متكررة من العنف والإرهاب ضد المجتمع الأسود مبررات مقنعة". إن قيام إسرائيل بتقديم هذه المزاعم بالاغتصاب في خضم إبادة الشعب الفلسطيني في غزة يتناسب تماما مع النمط الذي وصفته ديفيس.

لكن ما يغفل ذكره عادة في الولايات المتحدة هو الاغتصاب المنهجي للنساء السود على يد رجال الشرطة البيض، الذي كان ممارسة شائعة رافقت أسطورة "المغتصِب الأسود" في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وما بعدها. وقد استمرت هذه الجرائم بحق السود بوصفها امتدادا للإرث الوحشيّ لاغتصاب الأسياد البيض للنساء السود المستعبدات؛ الأسياد البيض الذين لم تهتز مكانتهم الاجتماعية بعد انتهاء العبودية، رغم تاريخهم الحافل بجرائم الاغتصاب للنساء السود التي تواصلت بعد الحرب الأهلية على يد جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية.

في السياق الإسرائيلي، يُفصّل المؤرخ الإسرائيلي المناهض للفلسطينيين، بيني موريس، العديد من عمليات الاغتصاب التي ارتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين خلال حرب عام 1948 ومن الأمثلة على ذلك "اغتصاب أربعة جنود من الكتيبة الثانية والعشرين (كارميلي) لفتاة عربية وقتلهم والدها". وفي قرية صفصاف، "تم تقييد 52 رجلا بحبل وإلقاؤهم في بئر وإطلاق النار عليهم. فقُتل 10. وتوسلت النساء طلبا للرحمة. [وكانت هناك] 3 حالات اغتصاب.. فتاة تبلغ من العمر 14 عاما تعرضت للاغتصاب. وقُتل 4 آخرون". أما في بلدة الجش، "فقد قُتلت امرأة وطفلها". وفي دير ياسين، حيث قُتل "ما مجموعه حوالي 250" فلسطينيا، "معظمهم من غير المقاتلين؛ وكانت هناك أيضا حالات قطع الأعضاء واغتصاب".

تحول العنف الجنسي إلى أداة قمع تُستخدم ضد الفلسطينيين من كلا الجنسين. وآخر فضيحة تناولتها وسائل الإعلام نتيجة تسريب فيديوهات لها؛ كانت حالات الاغتصاب الجماعي للرهائن الفلسطينيين الذكور في الزنازين الإسرائيلية العام الماضي. ويوضح تقرير الأمم المتحدة الأخير أن الجرائم الجنسية التي ترتكبها إسرائيل ليست مجرد تجاوزات فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة
على الرغم من هذا السجلّ المروع، الذي تفاقم بشكل كبير في العقود اللاحقة، فقد أدت العنصرية المتفشية في المجتمع والشعور بالتفوق الغربي على الفلسطينيين في إسرائيل إلى التأثير على الذاكرة الإسرائيلية لأحداث الحرب على النحو التالي، وفقا لموريس: "إن الذاكرة الجماعية للإسرائيليين عن المقاتلين [اليهود] الذين يتميزون بـ"نقاء السلاح".. تقوضها أدلة عمليات الاغتصاب التي ارتكبت في المدن والقرى المحتلة. وردت في الوثائق المعاصرة المتاحة حوالي اثنتي عشرة حالة -في يافا وعكا وغيرهما- ونظرا لتردد العرب في الإبلاغ عن مثل هذه الحوادث وصمت الجناة (المتوقع)، ورقابة جيش الدفاع الإسرائيلي على العديد من الوثائق، فمن المرجح أن العدد الحقيقي أعلى، وربما أعلى بكثير، من هذه الحالات. ويبدو أن العرب لم يرتكبوا سوى القليل من أعمال الاغتصاب. وفي المجمل، فإن حالات الاغتصاب في حرب عام 1948، نسبيا، تعد منخفضة جدا".

ويضيف اليميني موريس أنه "بعد الحرب، مال الإسرائيليون إلى الإشادة بـ"نقاء سلاح" رجال مليشياتهم وجنودهم، ومقارنتهم بالهمجية العربية، التي عبّرت أحيانا عن نفسها بتشويه جثث القتلى اليهود. وقد عزز ذلك الصورة الإيجابية للإسرائيليين عن أنفسهم وساعدهم على "ترويج" دولتهم الجديدة في الخارج؛ كما قاموا بشيطنة العدو. لكن في الحقيقة، ارتكب اليهود فظائع أكثر بكثير من العرب، وقتلوا عددا أكبر بكثير من المدنيين وأسرى الحرب في أعمال وحشية متعمدة خلال عام 1948".

ليست روايات موريس عن الاغتصاب خلال حرب عام 1948 استثنائية، بل استمرت لتصبح ممارسة شائعة لدى الجنود الإسرائيليين عند مواجهتهم للاجئين الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى ديارهم داخل إسرائيل بين عامي 1948 و1955. على سبيل المثال، في آب/ أغسطس 1949، اعتقل الجنود الإسرائيليون لاجئا فلسطينيا وزوجته وقتلوه، ثم تناوب 22 جنديا على اغتصاب زوجته قبل قتلها. وفي آذار/ مارس 1950، اختطف الجنود الإسرائيليون فتاتين فلسطينيتين وصبيا من غزة، قتلوا الصبي ثم اغتصبوا الفتاتين قبل إعدامهما. وفي آب/ أغسطس 1950، اغتصب أربعة من رجال الشرطة الإسرائيليين امرأة فلسطينية بينما كانت تقطف الفاكهة من بستان عائلتها عبر حدود الضفة الغربية.

أصبحت هذه الممارسات أكثر منهجية بعد احتلال عام 1967، حيث تحول العنف الجنسي إلى أداة قمع تُستخدم ضد الفلسطينيين من كلا الجنسين. وآخر فضيحة تناولتها وسائل الإعلام نتيجة تسريب فيديوهات لها؛ كانت حالات الاغتصاب الجماعي للرهائن الفلسطينيين الذكور في الزنازين الإسرائيلية العام الماضي. ويوضح تقرير الأمم المتحدة الأخير أن الجرائم الجنسية التي ترتكبها إسرائيل ليست مجرد تجاوزات فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة تهدف ليس فقط إلى إذلال الفلسطينيين وإلحاق الأذى بهم، وإنما إلى "الهيمنة عليهم، وقمعهم، وتدميرهم جزئيا أو كليا". ومع ذلك، فإن عنصرية المجتمع الإسرائيلي وإيمانه العميق بتفوقه، إلى جانب الدعم الغربي غير المشروط، لا يزال يحصّن إسرائيل من المساءلة، ويعزلها عن مواجهة هذه الحقائق الموثقة.

مقالات مشابهة

  • سلطنة عُمان تدين الجرائم المُمنهجة ضد الشعب الفلسطيني
  • حزب الله: لفضح الشراكة الأميركية- الصهيونية في ‏حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني
  • النائب العام يقف على حجم الانتهاكات التي ارتكبتها القوات المتمردة خلال فترة سيطرتها على مقر منطقة قري العسكرية
  • 50 مسيرة جماهيرية في صنعاء تأكيداً على الاستمرار في نصرة الشعب الفلسطيني
  • تعز تشهد 33 مسيرة تأكيدا على الثبات في دعم الشعب الفلسطيني والتصدي للعدوان
  • 35 مسيرة حاشدة في صعدة تأكيدا على الثبات في دعم الشعب الفلسطيني والتصدي للعدوان الأمريكي
  • خروج مليوني استثنائي بوجه التصعيد الأمريكي في العاصمة صنعاء
  • اليمنيون في مسيرات “ثابتون مع غزة “يوجهون رسالة تحذيرية قوية للعدو الامريكي
  • اليمنيون في مسيرات ثابتون مع غزة يوجهون رسالة تحذيرية قوية للعدو الامريكي 
  • اغتصاب الشعب الفلسطيني