تجنيد الحريديم.. أزمة تكشف هشاشة المجتمع الإسرائيلي وتفككه المحتوم
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
في أوج المعارك الدائرة بغزة، ثمة معارك أخرى داخل دولة الاحتلال، ليست بين نتنياهو ومعارضيه تعمق الأزمة التي يعيشها، بل صراع داخلي يضرب الفكرة الدينية التي قامت على أساسها "إسرائيل".
ويرفض اليهود الأرثوذكس "الحريديم" الذين يشكلون 13بالمئة من نسبة الإسرائيليين، التجنيد، كونهم يرون أن حياة المتدين تتعارض بالكامل مع الأعراف العسكرية.
ويرى حاخامات الحريديم الكبار، أن الجيش، مؤسسة علمانية، بعيدة عن التعاليم اليهودية التوراتية، ولذلك من المحرم عليهم الخدمة فيه.
أساس الأزمة
ومنذ قيامها النكبة عام 1948، واجهت دولة قضية انخراط اليهود المتدينين بالجيش، حيث خصهم أول رئيس وزراء ديفيد بن غوريون بمعاملة خاصة، وعزا ذلك بأنهم يضمنون استمرار دراسة تعاليم الديانة اليهودية، وللحفاظ على نمط الحياة اليهودية التقليدية، ولممارسة طقوسهم وعباداتهم في مجتمعاتهم الخاصة وفقاً لتشريعات التوراة.
وفي عام 2018 أبطلت المحكمة العليا قانون إعفائهم من الخدمة العسكرية، عملا وفق مبدأ المساواة، ولم تفلح مساعي البرلمان في التوصل إلى قواعد جديدة، وينتهي سريان أمر أصدرته الحكومة بتعليق التجنيد الإلزامي للمتشددين الشهر المقبل.
وفشل ساسة الاحتلال منذ ذلك الوقت في صياغة قانون في الكنيست، يلزمهم بالخدمة العسكرية، واستمر في تمديد القانون القديم لإعفائهم لحين الوصول إلى توافق.
وأمهلت المحكمة العليا، الحكومة لغاية نهاية آذار/ مارس المقبل، لتقديم مشروع قانون وإبلاغ المحكمة، وإلا فإن فرض التجنيد عليهم سيفرض بالقوة.
وطلب نتنياهو من المحكمة العليا الخميس تمديد المهلة المتاحة للحكومة لوضع خطة جديدة للتجنيد الإلزامي من شأنها معالجة الغضب السائد إزاء الإعفاءات الممنوحة لليهود المتدينين، والذين يعرفون بالحريديم.
رفض التجنيد
يعارض الحريديم التجنيد الإجباري، ويطالبون بالحق في الدراسة بالمعاهد اللاهوتية بدلا من الخدمة بالزي العسكري خلال السنوات الثلاث.
ويعتبر كبار الحريديم أن مهمتهم تقتصر على دراسة التوراة، تلك الحجة التي يمتنع بها الشبان عن الخدمة العسكرية.
ويعتبر الحريديم آلية العمل في الجيش معارضة لتعاليمهم الدينية من ناحية الاختلاط والتزام "السبت" المخصص لزيارة الكنيس وقراءة التوراة.
التهديد بالهجرة
في التاسع من الشهر الجاري، تسببت تصريحات لكبير حاخامات السفارديم بخصوص رفض التجنيد العسكري في جيش الاحتلال بعاصفة من ردود الأفعال الغاضبة.
وقال الحاخام الأكبر لليهود السفارديم "اليهود الشرقيين" يتسحاق يوسف إنه في حال أُجبر المتدينون على الخدمة العسكرية فإنهم سيسافرون جميعا إلى الخارج.
ونقلت القناة 12 العبرية عن يوسف قوله "إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش فسنسافر جميعا إلى خارج البلاد، نشتري التذاكر ونذهب".
وأضاف مستنكرا "لا يوجد شيء من هذا القبيل، إن العلمانيين يضعون الدولة على المحك ويجب أن يفهموا هذا، كل العلمانيين الذين لا يفهمون هذا الأمر".
يوجود في دولة الاحتلال حاخامان رئيسيان، أحدهما يمثل السفارديم "الشرقيين" والآخر يمثل طائفة الأشكناز "الغربيين"، ويطلق عليهما الحاخامان الأكبران، ويتولى كل منهما منصبه لـ10 سنوات.
ووصف غانتس حينها تصريحات يوسف بأنها "تمثل ضررا أخلاقيا على الدولة والمجتمع الإسرائيلي".
كما اتهم رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان الحاخام يتسحاق بتعريض أمن إسرائيل للخطر.
صراع أطراف مأزومة
يقول الكاتب "الإسرائيلي" أنشيل فيفر في مقال نشرته "هآرتس"، "إن هناك صراعا حقيقيا يجري داخل اليهود المتشددين على مستوى السلطات المحلية، حيث يشي نَهَم أحزابهم للظفر بكل مقعد انتخابي بتضعضع نفوذ الحاخامات وبتمرد شباب الحريديم على قيادتهم".
وأضاف فيفر، "أن الحرب في غزة لا يبدو أنها تعني الحريديم، لكن هذه المجموعة السكانية سعيدة بالتعبئة من أجل انتخابات محلية وتجد في نفسها، ومن دون كل الشرائح السكانية، الحماسة الكافية للتنافس على منصب عمدة أو عضوية مجلس بلدي".
وأردف فيفر، "أن الأمر لم يعد يقتصر على الصراع التقليدي بين مكونات اليهود المتدينين "الليثوانيين والسفارديم" بل تعداه إلى انشقاقات داخل المكون الواحد.
وتابع، "أنه بعد 10 سنوات على وفاة الحاخام عوفاديا يوسف، لم تعد توجد سلطة واحدة داخل مجتمع الحريديم، وإن سيطرة الحاخامات على مئات الآلاف من شباب هذه المجموعة آخذة في التضعضع".
وختم الكاتب، "بأن آثار الحرب الدامية بينهم محليا تتغلغل إلى مستويات أعلى، وتشي بما سيحدث مستقبلا عندما لا يستطيعون الاختباء وراء نتنياهو، لا سيما أن مجتمع الحريديم بالعيش في عالم مواز خال من الحرب والقتلى والجرحى ومن أشهر الخدمة العسكرية الطويلة".
الحاجة للجنود
كما تسببت معركة طوفان الأقصى بزلزال سياسي في دولة الاحتلال فإن ما تلاها حاضرا ولاحقا، حطم مفهوم الأمن للاحتلال كما هشم صورة الجيش الذي لا يقهر.
وباتت أخبار خسائر الاحتلال المتتالية وانسحابات ألوية النخبة من غزة، أمرا مألوفا في الحرب المستمرة منذ ستة أشهر، لذا بدا قادة الاحتلال العسكريون محاولات تعويض النقص بالمجندين الجدد.
يقول موقع "والا" العسكري العبري، إن قادة الجيش أبلغوا وزير الحرب يوآف غالانت، أنهم بحاجة إلى تجنيد حوالي 20 ألف جندي إضافي كي يتمكن الجيش من القيام بالمهام الروتينية والعمليات الحربية في ميادين مختلفة".
ونقل الموقع عن كبار قادة الجيش تأكيدهم على ضرورة هذا التجنيد الإضافي في ضوء التهديدات المتزايدة وتقديرات الاستخبارات بشأن الجبهة الشمالية مع لبنان.
وأشار الموقع إلى الحاجة لتغيير أنماط تجنيد اليهود المتدينين (الحريديم)، من حيث تعديل قواعد التدريب ومراعاة قواعد الأكل الحلال والفصل بين النساء والرجال في الوحدات العسكرية.
ويطالب وزراء بينهم عضو مجلس الحرب بيني غانتس ووزير الدفاع يوآف غالانت وزعيم المعارضة يائير لبيد بوضع حد لإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.
وقال الوزير في حكومة الحرب، بيني غانتس، الأسبوع الماضي، إن الأمر المؤقت الصادر عن المحكمة بتجميد الدعم لطلاب المدارس الدينية سببه حاجة البلاد للجنود في أوقات الحرب الصعبة.
وأضاف، "القضية ليست محكمة العدل العليا أو المدعية العامة التي تقوم بعملها بإخلاص – ولكن حاجتنا للجنود في أوقات الحرب الصعبة، وحاجة مجتمعنا لمشاركة الجميع في الواجب في خدمة الدولة".
وقضت المحكمة العليا، بتجميد الدعم لطلاب المدارس الدينية الذين يجب عليهم الالتحاق بالتجنيد اعتبارا من 1 نيسان/أبريل.
الأزمة تتوسع
لم يستطيع نتنياهو وقف كرة اللهب من التدحرج خصوصا داخل الحكومة، فهو بين كماشتين إما الموافقة على تجنيدهم وهذا سيثير جنون الأحزاب الدينية، أو المضي بالإعفاء ما يفجر أزمة بين حلفائه وصولا لقادة الجيش.
ووصل الأمر، إلى حد أن طالبت المستشارة القضائية لحكومة الاحتلال غالي بهراف ميارا، بالبدء بتجنيد الحريديم.
وكشفت صحيفة هآرتس العبرية عن فحوى رسالة بعثتها ميارا إلى المحكمة العليا تؤكد على ضرورة البدء في تجنيد المتدينين الحريديم من بداية الشهر المقبل.
وذكرت ميارا في الرسالة ، "بأنه يتعين على سلطات التجنيد التصرف فيما يتعلق بإجراءات التجنيد لمن تم تأجيل الخدمة المقدمة لهم بموجب القانون أو من بلغ سن التجنيد من الحريديم مع ترك طريقة التنفيذ لاحقا".
وأكدت ميارا أن الحكومة لن تتمكن من تحويل أموال الموازنة لمراكز ومدارس المتدينين لمن لا ترسل طلب التجنيد ومن هم غير المتجندين.
وسبق أن مكتب النائب العام كان قد عارض محاولة حكومة نتنياهو تمديد الموعد النهائي لمشروع قانون تجنيد اليهود المتزمتين الحريديم.
وكان ديوان المظالم قد طالب بتمديد تقديم الطلب حتى ظهر اليوم الخميس، وهو ما اعتبرته الصحيفة صفعة من المستشارة القضائية لرئيس الحكومة.
تفكك الائتلاف
نقلت هيئة البث العبرية عن قادة الأحزاب الحريدية قولهم خلال لقاء مع نتنياهو إن المطالب بوضع حد لإعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية تتعارض مع اتفاق تشكيل الائتلاف.
وأضاف قادة الحريديم أن هناك خشية من أن يطلب منهم الحاخامات الانسحاب من الحكومة في حال تم إقرار قانون جديد يلغي الإعفاء.
في المقابل كشف عضو حكومة الحرب، بيني غانتس، عن تفاصيل مفاوضاته مع الحريديم، التي فشلت بإقناعهم بالانضمام للجيش.
وقال غانتس وفقا لصحيفة "معاريف" العبرية،" حاولنا أن نوضح أنه بعد 7 أكتوبر، يجب على المجتمع الحريدي أيضا أن يفهم أن شيئا ما قد تغير. وأن لدينا فرصة للتصحيح التاريخي، وهو ما سيعززنا أيضا الآن في الحرب".
وأضاف، "لسوء الحظ، لم نتمكن من التوصل إلى اتفاقات بيننا وسد الفجوات، وما زلت آمل ألا يكون الأوان قد فات".
تفكك مجتمع
وتتعدى أزمة تجنيد "الحريديم" فحواها العسكرية والسياسية، إلى صدع يوضح هشاشة دولة الاحتلال مجتمعيا وهذا ما يكشفه مقال للكاتب "الإسرائيلي" نيهيميا شتراسلر في صحيفة "هآرتس" العبرية.
يقول شتراسلر، "إن على الإسرائيليين العلمانيين أن يدركوا أن الأرثوذكس المتطرفين، لا يحترمونهم، ويعلمون أطفالهم أن يحتقروهم. فهم لا يعترفون بالدولة، ومعادون للصهيونية وبالنسبة لهم، نحن ببساطة احتياط مالي يجب سرقته".
وأضاف، "أن الحريديم ينظرون إلى الحكومة العلمانية على أنها حكومة أجنبية يجب استغلالها وخداعها والكذب عليها وابتزاز أكبر قدر ممكن من المال منها إنهم لا يرون الدولة على أنها بداية الخلاص بل على أنها استمرار مباشر للنفي التوراتي".
وتابع شتراسلر، "أن الحكومة لدى الحريديم هي مثل مالك الأرض غير اليهودي الذي كان يعمل معه اليهود في أوروبا الشرقية، وكان عليهم التعايش معه، ولهذا السبب ليست لديهم مشكلة في عدم الوفاء بأي واجب مدني: تدريس المناهج الأساسية، والعمل، والخدمة في الجيش".
وأردف، "يمكننا التعرف على الموقف الحريدي تجاه الجنود الإسرائيليين من تصريحات اثنين من القادة البارزين في التيار الأرثوذكسي، أحدهم الحاخام دوف لانداو الذي ينصح طلاب المدارس الدينية بعدم حضور الجنازات العسكرية أو حتى القيام بزيارات المستشفى للجنود الجرحى، ويقول دعهم يموتون في سلام، ماذا يهم؟، والآخر هو الحاخام يسرائيل بونيم شرايبر الذي يقول إن جنود الجيش الإسرائيلي هم مثل رجال القمامة، ولا يهمنا من قُتلوا، ليس لديهم أي صلة بنا، فهم ليسوا إخواننا".
وخلص الكاتب، "لقد حان الوقت لأن ندرك أن السبب الحقيقي لتهرب الحريديم هو الرغبة الصريحة والمباشرة في حماية حياة أبنائهم. فحتى المشرعين الحريديم يتم انتخابهم وفقا لالتزامهم بتعاليم المذهب".
من هم الحريديم
الحريدي، هو الشخص "الورع" وفقا للتعريف اليهودي، وتأتي من العزلة والاعتكاف عن الناس، خاصة وأن هذه الطائفة من اليهود، يلتزمون بدراسة التوراة في المعاهد الدينية الخاصة بهم بعيدا عن المدارس والنظام الاجتماعي لدى الاحتلال.
ويعد الحريديم من الطوائف المتشددة في مجتمع الاحتلال، وتهتم في أدق التفاصيل الدينية التوراتية، فضلا عن الأزياء الموحدة للرجال، وكذلك للنساء.
ويغلب على زيهم المعطف الأسود الطويل، والقبعة السوداء الأوروبية الكبيرة، والشال الأبيض ذو الخطوط الزرقاء "التاليت" لأداء الصلوات التوراتية، وعلى صعيد الجسد، يمتازون بتربية خصلات شعر من رأسهم بجانب آذانهم وتشكيلها بطريقة ملتوية.
ويرى الحريديم أن اللغة العبرية مقدسة، لدرجة أنهم يقللون التحدث بها، ويلجأون للغة تدعى الإيدش والتي كانت سائدة بين يهود أوروبا، وهي خليط من عدة كلمات لدول أوروبية فضلا عن العبرية.
ويعتكف اليهود الحريديم، وهم من أتباع الشريعة الأرثوذكسية، ويشكلون نحو 13 بالمئة، من مجمل الإسرائيليين، في مدارس دينية تدعى بالعبرية "اليشيفات"، وتخصص للعلوم الدينية والشريعة اليهودية فقط، والقليل من العلوم الدنيوية، بما يحتاجونه فقط سواء لتنمية نشاطهم الاقتصادي أو الطب، وهناك علوم محرمة عليهم مثل الأدب والفلسفة.
وتصل درجة التزامهم بالتعاليم اليهودية، إلى تضييق استخدام التكنولوجيا، ويشترطون أن تكون الهواتف المحمولة "كوشر" (حلال)، بحيث لا تحتوي على كاميرا أو محركات تصفح، وتستخدم فقط لمراجعة الكتب الدينية التوراتية، أو للاتصال المسموع بعيدا عن برامج المحادثة حتى لا تلهيهم عن التعليم الديني.
وتعد مدينة بني براك، القريبة من تل أبيب، بؤرة للحريديم، وأغلبية سكانها منهم، فضلا عن استيلائهم على مناطق واسعة في القدس المحتلة، ومنها حارة ميئه شعاريم.
والحريديم ليسوا جسما واحدا، فهم مكونون من أصول مختلفة، شرقيين وغربيين، ولديهم تيارات وأحزاب مختلفة، وأبرزها الأشكناز "اليهود الغربيون" ويمثلهم كتلة يهودات هتوراه والسفارديم "اليهود الشرقيون" ويمثلهم حزب شاس المتطرف.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية سياسة دولية الاحتلال الأزمة صراع الحريديم التجنيد الاحتلال أزمة الحريديم صراع التجنيد المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخدمة العسکریة المحکمة العلیا دولة الاحتلال من الخدمة
إقرأ أيضاً:
تسييس الجيش الإسرائيلي لتعميق هيمنة الفاشية
منذ إعلان الدولة العبرية ظلَّ على الدوام قائمًا ذلك التقاسم الوظيفي بين المؤسستين السياسية والعسكرية، وفق قواعد صاغها في حينه زعيم حزب مباي، ديفيد بن غوريون.
ويقوم هذا التقاسم على أساس أن المؤسسة السياسية تقوم على أساس انتخابات عامة، لكنها تعتمد تقدير المؤسسة العسكرية في قراءة الواقع المحيط. كما أن المؤسسة العسكرية تخضع لإمرة المؤسسة السياسية، لكنها صاحبة القرار في التعيينات الداخلية، وفي تحديد وقراءة المخاطر التي تتهدد هذه الدولة.
وبالتالي كان هذا التقاسم يتيح للجيش من خلال شعبة الاستخبارات العسكرية التأثير الواسع في توجهات القيادة السياسية من خلال احتكار التقدير الإستراتيجي السنوي.
وحسب هذا التقدير كانت على الدوام تصاغ احتياجات الجيش، وتخصص له الميزانيات المناسبة. وقبل القفزة الاقتصادية الإسرائيلية مطلع الثمانينيات، كانت ميزانية الجيش تقتطع حوالي 30% من الميزانية العامة، ما يعني أن الجيش كان أكبر مستهلك لقدرات المجتمع.
وقد تغير هذا الواقع مع زيادة الدعم الأميركي لإسرائيل، وتنامي الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وتطور الصادرات التكنولوجية، وتغير بنية الاقتصاد الإسرائيلي. وترافق مع ذلك تغييرات أيديولوجية هامة في بنية المؤسسة السياسية الإسرائيلية، خصوصًا بعد امتلاك اليمين الحكم بعد العام 1977.
إعلانوهنا بدأت معادلة التقاسم الوظيفي في الاختلال؛ نظرًا لإيمان اليمين بأن ما كان يعرف بـ "اليسار"، هو من بنى المفاهيم المؤسساتية في المجتمع، وبذلك أثر كثيرًا في بنية القطاع العام والخدمة العامة، وكذلك الجيش والإعلام.
ورغم نجاحه في السيطرة على مقاليد الحكم فإنه اعتبر أنه غير قادر على الحكم؛ بسبب الإرث الذي تركه "اليسار" في المؤسسات. ومع نشوة انتصارات اليمين الداخلية، تعاظمت لديه الحاجة لتغيير هياكل وبنى المؤسسات العامة، ومن بينها الجيش والقوانين، وصولًا أيضًا إلى الإعلام.
وفي العامين الأخيرين، تفاقمت الصراعات حول ما بات يعرف بـ "الإصلاح القضائي" والذي يرى كثيرون أنه يهدف إلى تكييف الديمقراطية الإسرائيلية مع متطلبات الفاشية المهيمنة.
وانقسم المجتمع الإسرائيلي انقسامًا حادًا حذر كثيرون من أنه قد يقضي على مستقبل هذه الدولة. لكن هذا لم يمنع اليمين الحاكم من مواصلة مساعيه لإقرار قوانين تخدم اليمين سياسيًا وشخصيًا، وتزعزع أسس المفاهيم الديمقراطية.
وفي ظلّ الحرب المستمرة منذ أكثر من 14 شهرًا، ظهرت بشكل بارز محاولات تسييس الجيش عبر استغلال مبدأ خضوع الجيش لإمرة المؤسسة السياسية عبر وزير الدفاع.
غير أن وزير الدفاع على الدوام كان يأخذ بالحسبان موقف الجيش، ويحاول الدفاع عنه أمام المؤسسة السياسية لاعتبارات كثيرة. ونادرًا ما كان وزير الدفاع في موقع مغاير لما تريده المؤسسة العسكرية من مواقفَ، وتحديد احتياجاتٍ، ووجهةٍ.
وقد برز بشكل واضح في الحرب الأخيرة حجم الصدامات بين الجيش ورئاسة حكومة نتنياهو عبر الخلافات الصارخة بين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت. وقادت هذه الصراعات إلى إقالة نتنياهو لغالانت أثناء الحرب، وهو ما اعتبر عملًا عدائيًا ضد الجيش.
ومعروف أنه سبق للجيش أن أجبر، مثلًا، رئيس الحكومة ووزير الدفاع عام 1967 على تعيين موشيه ديان وزيرًا للحرب قبل أيام من شن حرب يونيو/ حزيران 1967. وهذا يظهر مكانة الجيش الذي كان ولا يزال يحظى بثقة لدى الجمهور، أعلى من تلك التي تتمتع بها الحكومة ورجال السياسة.
إعلانوكانت وسائل الإعلام قد أكدت أن ثقة الجمهور في الجيش الإسرائيلي ظلت مستقرة بشكل ما خلال الحرب؛ بسبب أنه ليس لديهم من يحميهم غيره. ووفقًا لبيانات معهد دراسات الأمن القومي (INSS) الشهر الماضي، تبلغ الثقة في الجيش الإسرائيلي الآن 85%، لكن الثقة في الحكومة 25%.
ومع ذلك، تراجعت الثقة في المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قليلًا منذ بداية الحرب، ولكنها في ارتفاع مستمر منذ شهر يوليو/ تموز، وهي تبلغ حاليًا ضعف الثقة في بنيامين نتنياهو التي لا تزيد على (34%) فقط.
غير أن قوة الجيش هذه لم تمنع نتنياهو وقوى اليمين من التطاول على رئيس الأركان وقيادة الجيش، ومحاولة تقييد حرية عملهم. ومع ظهور قضية التسريبات في ديوان رئاسة الحكومة ومتابعتها جنائيًا ازدادت الحملات على قيادة الجيش.
ومنذ تعيين يسرائيل كاتس وزيرًا للحرب بدلًا من غالانت، تعاظمت الأصوات القائلة إنه جاء ليخدم مصلحة اليمين في تقييد حرية الجيش وتسييسه. وكان بين أول قرارات كاتس الدالة على رغبته في تسييس عمل الجيش، مطالبته بإلغاء استدعاء إيال نافيه – من مؤسسي حركة "إخوة السلاح" – وشخصيات أخرى تلعب دورًا في الاحتجاجات ضد الحكومة؛ للخدمة الاحتياطية في الجيش.
ومعروف أن حركة "إخوة السلاح"، أعلنت رفضها الخدمة في الجيش، ما دام أن اليمين يصر على مواصلة مساعيه لإحداث "الانقلاب القضائي". وكثير من أعضاء هذه الحركة هم ضباط في وحدات نخبة، وخصوصًا في "سييرت متكال".
ولكن هؤلاء ومجموعة من الطيارين الذين أعلنوا أيضًا رفضهم الخدمة، كانوا بين أول من التحق بالجيش في الحرب الجارية. لكن اليمين رفض انضمامهم للجيش، بحسب ما قال وزير الإعلام شلومو كرعي: " شعب إسرائيل سيتدبر أمره بدونكم وأنتم ستذهبون إلى الجحيم".
كما أن قناة الـ 14 التلفزيونية اليمينية حملت عليهم، واعتبرت وحداتهم العسكرية يسارية، ويجب طرد جنودها من الجيش. يذكر أن قسمًا من هؤلاء وقّعوا على عريضة يشترطون فيها خدمتهم العسكرية بتنفيذ الحكومة صفقة لتبادل الأسرى مع حماس.
إعلانولا بد من الإشارة إلى أن تعيين كاتس وزيرًا للدفاع تم أساسًا لتفعيل مسار يتجاوز المحكمة العليا في قضية التجنيد، كان نتنياهو قد وعد به الأحزاب الحريدية. وتوفر مسألة تجنيد الحريديم جانبًا هامًا لتسييس الجيش، إذ ترفض الأحزاب الحريدية – لاعتبارات دينية – تجنيد طلاب المدارس الدينية التابعة لها.
كما أن أحزاب اليمين المحتاجة لأصوات الحريديم لاستقرار الحكومة، ومواصلة الهيمنة على المجتمع، تخضع لإملاءات الحريديم، وترفض سريان مبدأ التجنيد الإلزامي على شبابهم. ونظرًا لحاجة الجيش لجنود – وخاصة في ظروف الحرب – ازدادت الانتقادات للمتهربين من الخدمة العسكرية لأسباب دينية، فأمرت المحكمة العليا الحكومة بتجنيدهم على قاعدة المساواة وتقاسم الأعباء.
تسييس متطرفوتشهد الأيام الأخيرة مظاهر تسييس للجيش عبر استخدام اليمين قدرته على سنّ قوانين في الكنيست. وبين أبرز هذه المظاهر موافقة اللجنة الوزارية للتشريع على "قانون فيلدشتاين"، الذي يمنح الحصانة من الملاحقة القضائية لأفراد من الأجهزة الأمنية ينقلون معلومات سرية لرئيس الوزراء دون موافقة قادتهم.
وقد جاء هذا القانون لتبرئة أمثال إيلي فيلدشتاين، الذي خدم كمتحدث باسم نتنياهو، وضبط متلبسًا بتزوير وثائق سرية عسكرية وتوزيعها على صحيفتَي "بيلد" الألمانية، و"جويش كرونيكل" البريطانية؛ لتبرير عدم تنفيذ صفقة التبادل، واحتلال محور فيلادلفيا. وكان فيلدشتاين قد حصل على هذه الوثائق من ضابط احتياط يميني في الاستخبارات العسكرية.
وقد احتفظ فيلدشتاين بهذه الوثائق إلى أن تطلب الوضع تخفيف الضغط الشعبي على نتنياهو وحكومته لإبرام صفقة تبادل في سبتمبر/ أيلول الماضي بعد اكتشاف جثامين ستة أسرى إسرائيليين في رفح. وبحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية فإن "قانون فيلدشتين" يهدف للإيحاء لفيلدشتاين وشريكه وبالتالي لأمثالهما بأن نتنياهو لا يتخلى عن رجاله تحت أي ظرف.
إعلانوقد أثار الناطق بلسان الجيش دانيال هاغاري عاصفة سياسية قوية عندما هاجم "قانون فيلدشتاين"، معتبرًا أنّه "قانون خطير؛ لأنه يخلق وضعًا يتيح لأي جهة صغيرة في الجيش أن تسرق وأن تخرج من الجيش وثائق حسب رغبتها. وهذا ما سوف يعرض للخطر أرواح مدنيين وجنود.
لذلك هو قانون خطير جدًا على الجيش، وكذلك على أمن الدولة. وبسبب الحملة السياسية على هاغاري، اضطر هاليفي لتوبيخه "لخروجه عن صلاحياته"، ولأن الجيش "لا ينتقد المشرعين، وإنما يعرض موقفه أمام المستوى السياسي في القنوات المعهودة".
ومن جهة أخرى، وفيما يسعى اليمين لتحميل الجيش مسؤولية إخفاقات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، يتم البحث عن أكباش فداء. وهذا ما يرفضه الجيش الذي قدم عددٌ من قادته استقالاتهم، مبدين استعدادهم لتحمل المسؤولية عن هذه الإخفاقات.
لكنّ نتنياهو والقريبين منه يريدون تحميل المسؤولية العليا لرئيس الأركان هرتسي هاليفي، على أمل أن يكون هذا التحميل مخففًا بدرجة كبيرة للمسؤولية الواقعة على كاهل نتنياهو والمستوى السياسي.
وقد جرت الإشارة مرارًا إلى اتهامات متزايدة بحق هاليفي، وعن وجود نية لإقالته من منصبه وتعيين ضابط كبير آخر مكانه. ويتحدث كثيرون عن جهود يبذلها نتنياهو ومقربوه للتدخل بنشاط في التعيينات داخل الجيش، وهو أمر كان قائمًا قبل الحرب، وازداد بشكل كبير أثناءها.
وقد حذّرت افتتاحية "هآرتس" مؤخرًا من أن "عمليات التطهير السياسي في الجيش، استمرار الانقلاب النظامي، ملاحقة المستشارة القانونية للحكومة ورفع لائحة اتهام بتهمة الإرهاب على مطلقي قنابل الإنارة البحرية نحو منزل رئيس الوزراء الفارغ، كل هذه تراكمُ خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية. الجمهور ملزم بأن يقاوم ذلك، قبل فوات الأوان".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية