الاغتيالات السياسية والأدوار المشبوهة لليسار الوظيفي في تونس
تاريخ النشر: 29th, March 2024 GMT
مهما اختلفنا في أسباب فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، ومهما تنازعنا في تحديد الأطراف الداخلية والخارجية المسؤولة عن قتل "الحلم الثوري"، فإنه من الصعب أن لا نتفق حين يتعلق السجال بدور الاغتيالات السياسية في تعطيل ذلك المسار وضرب مشروع المواطنة القائم على التعايش بين العلمانيين والإسلاميين؛ بعيدا عن منطقي الاستئصال والتكفير.
فقد تسبّب اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد ومن بعده القيادي القومي الحاج محمد البراهمي في إنهاء تجربة "الترويكا" -وهي أول تجربة للحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس بالاستناد إلى صناديق الاقتراع- كما سرّع الاغتيالان في عودة ورثة المنظومة القديمة ووكلائها لمركز القرار؛ بدءا بحكومة التكنوقراط وانتهاء بمرحلة التوافق التي فرضها نداء تونس على النهضة أو قبلت بها هذه الأخيرة نتيجة حسابات سياسية خاطئة. فالتوافق لم يكن يعني أكثر من الانقلاب على انتظارات قواعد النهضة قبل غيرها، أي القبول بدور شاهد الزور والاكتفاء بحضور صوري في الحكومة الشيو-تجمعية، مع شرعنة كل قراراتها المملاة من النواة الصلبة للمنظومة القديمة وتحمّل مسؤوليتها السياسية قبل حركة نداء تونس ذاتها.
لو أردنا أن نقف عند حجم التزييف والتلاعب بالوعي الممارَس من لدن الإعلام وأغلب النخب "الحداثية" (بوطنييها وقومييها ويسارييها)، فإننا لن نجد أفضل من الارتباط البافلوفي الذي حرصت "النخب الحداثية" على التذكير به في كل تدخلاتها الإعلامية وبياناتها القطاعية، كما حرصت على تقديمه وكأنه بداهة لا تستحق البرهنة، بل يستحق كل مشكك فيها أن يُتهم بـ"تبييض الإرهاب" أو أن يُتهم بـ"الأخونة"، وغير ذلك من التهم التي لا يجد "العقل الحداثي التونسي" أي حرج في توزيعها وفي إرهاب خصومه بها في كل سجال عمومي.
رغم أنّ الاغتيالات السياسية كانت تستهدف وجود النهضة ذاتها في مركز السلطة -زمن الترويكا- وتستهدف من وراء ذلك تجربة الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين، ورغم أن المجاميع السلفية الإرهابية كانت تُكفّر حركة النهضة "الإخوانية" التي قبلت بشروط اللعبة الديمقراطية (وهي عند السلفية منهج كفري)، ورغم كل الشبهات التي تحوم حول علاقة بعض القوى الإقليمية والدولية بـ"صناعة الإرهاب" (خاصة فرنسا ومحور الثورات المضادة)، فإن البحث عن المستفيد الحقيقي من الاغتيالات السياسية وتحديد هويته لم يكن يعني شيئا بالنسبة لورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار
ويمكن صياغة هذه البداهة أو "المسلّمة السياسية" على الشكل التالي: إن حركة النهضة هي المسؤولة عن الاغتيالات السياسية بصفة خاصة وعن تفشي ظاهرة الإرهاب بصفة عامة. فرغم أنّ الاغتيالات السياسية كانت تستهدف وجود النهضة ذاتها في مركز السلطة -زمن الترويكا- وتستهدف من وراء ذلك تجربة الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين، ورغم أن المجاميع السلفية الإرهابية كانت تُكفّر حركة النهضة "الإخوانية" التي قبلت بشروط اللعبة الديمقراطية (وهي عند السلفية منهج كفري)، ورغم كل الشبهات التي تحوم حول علاقة بعض القوى الإقليمية والدولية بـ"صناعة الإرهاب" (خاصة فرنسا ومحور الثورات المضادة)، فإن البحث عن المستفيد الحقيقي من الاغتيالات السياسية وتحديد هويته لم يكن يعني شيئا بالنسبة لورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي (بجناحيه الماركسي والقومي).
كانت النتيجة المباشرة للاغتيالين السياسيين هي إخراج حركة النهضة من الحكم، وعودة المنظومة القديمة ومن ورائها فرنسا للحكم عبر ما يسمى ب"حكومة التكنوقراط"، وكانت النتيجة الأخرى هي عدم تمرير قانون العزل السياسي الذي كان سيُمثل ضربة قاضية لكل الأحزاب التجمعية الجديدة ومنها نداء تونس. ولكنّ استفادة المنظومة القديمة وحلفائها من الاغتيالات السياسية من جهة أولى، وإمكانية وجود أياد أجنبية أو بالأحرى إمكانية وجود عقل استخباراتي إقليمي أو دولي وراء التخطيط للاغتيالات السياسية وتدمير الانتقال الديمقراطي من جهة ثانية.
كل ذلك لم يكن كافيا لتغيير و/أو مراجعة السردية "الحداثية" المتعلقة بتورط النهضة المؤكد (عبر "التنظيم السري" الذي لا دليل على وجوده أصلا)، فعندما يكون العقل مؤدلجا موتورا ووظيفيا فإنه لن يعنيه من القضايا الكبرى إلا قضاياه الصغرى. فلا جرم حينئذ ألا تحترم كل تلك العقول التي أرهقتنا -كذبا وبهتانا- بادعاءات الموضوعية والعقلانية ورفض أحادية الصوت وثقافة الإصغاء أبسط القواعد "القانونية" -فضلا عن القواعد الأخلاقية المتعلقة بآداب الحوار- عند طرح قضية الاغتيالات السياسية أو ملف الإرهاب. ومن ذلك التفاف هؤلاء على التمييز القانوني بين المشتبه فيه (وهو شخص قد يُقدّم للمحاكمة وقد لا يُقدّم تبعا لطبيعة الأدلة والقرائن)، والمتهم (وهو شخص وجد القضاء أدلة تكفي لتقديمه للمحاكمة بتهم معينة)، والمجرم (وهو شخص صدر في حقه حكم نهائي وبات بعد انتهاء كل درجات التقاضي في محاكمة عادلة ومنصفة). فالنهضة في الإعلام التونسي وعند الأغلب الأعم من النخب "الحداثية" هي حركة "مجرمة" قبل بدء المحاكمات و"مجرمة" ولو برّأها القضاء التونسي. فهي عند هؤلاء مجرمة "جزائيا"، وإن تعذر إثبات ذلك فهي مجرمة "سياسيا" بصورة لا تقبل الطعن.
يجد منطق التجريم والشيطنة جذوره الفكرية والنفسية في الضغائن الأيديولوجية ضد "الإسلام السياسي" باعتباره حركة رجعية ظلامية، وباعتباره يُقدّم نخبا بديلة قد تُهدد مكانة النخب الوظيفية التقليدية أو دورها في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي. كما يجد ذلك المنطق أسبابه المباشرة في الالتقاء الموضوعي بين اليسار الوظيفي ومحور الثورات المضادة بقيادة عرّابَي التطبيع وصفقة القرن (الإمارات والسعودية)، ومصلحتهم المشتركة جميعا في ضرب الديمقراطية والحركات الإخوانية على حد سواء. ولكنّنا نذهب إلى أن الجذر الأعمق لسردية الاستئصال والاستهداف النسقي للإسلام السياسي (خاصة الحركات الإخوانية التي دخلت الحقل السياسي القانوني ورفضت اعتبار الديمقراطية " فكرا كفريا" كما تفعل الوهابية بجناحيها العلمي و"الجهادي") هو في مقولة "الاستثناء الإسلامي" التي ما زالت تحكم العقل "الحداثي" بمختلف مرجعياته الأيديولوجية، وكذلك في تماهي الشخصيات العلمانية مع النموذج اللائكي الفرنسي وعدم انفتاحهم على بقية النماذج الأخرى أو عدم قدرتهم على صوغ نموذج وطني للعلمانية.
وجود "الإسلام السياسي" الذي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية ويخرج من منطق البديل إلى منطق الشريك ويطرح نفسه على الناخب باعتباره خيارا من جملة خيارات؛ هو أمر ينسف مقولة التعارض الماهوي وغير القابل للتجاوز بين الإسلام في ذاته وبين العقل السياسي الحديث، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية
إن وجود "الإسلام السياسي" الذي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية ويخرج من منطق البديل إلى منطق الشريك ويطرح نفسه على الناخب باعتباره خيارا من جملة خيارات؛ هو أمر ينسف مقولة التعارض الماهوي وغير القابل للتجاوز بين الإسلام في ذاته وبين العقل السياسي الحديث، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية. وهو ما يعني هشاشة التقابل "البلاغي" (لأنه ليس تقابلا مفهوميا) بين "العائلة الديمقراطية" وبين "الإسلاميين".
وفضلا عن ذلك، فإن وجود الإسلام السياسي هو أمر يحرج "القوى الحداثية" التي سيكون عليها مراجعة النموذج اللائكي الفرنسي المهيمن على تونس منذ الاستقلال الصوري عن "بلد الملائكة والشياطين". فالنموذج اللائكي "المُتَونس" لا يستطيع إدارة تجربة ديمقراطية بمشاركة "الإسلاميين"، كما لا يستطيع ذلك النموذج أن يتحمّل تحويل الإسلام غير المدجّن سلطويا إلى آلية من آليات إدارة الشأن العام، وبناء المشترك الوطني بعيدا عن أطروحات النخب الفرنكفونية ومصالحها المادية والرمزية. فهذا الأمر هو من "اللامفكر فيه" أو هو مما سعت كل القوى الديمقراطية -عبر تاريخها الطويل في السلطة أو على هوامشها أو في معارضتها "الصورية"- إلى منع حصوله بدعوى "محاربة الرجعية والظلامية" و"الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي".
إذا ابتعدنا عن المنطق المعياري الذي يُسقط المنطق الأخلاقي على الفعل السياسي، فإننا نستطيع أن نتفهم سعي المجاميع الشيو-تجمعية (بقيادة الوطد) إلى شيطنة النهضة وإلى استهدافها بصورة ممنهجة. ففضلا عن العداء الأيديولوجي المرتبط بالسرديات الكبرى وبتواريخ صراع تتجاوز تونس، فإن التقاطع أو الالتقاء الموضوعي بين منظومة الحكم وبين القوى اليسارية يبين عن مصلحتهما المشتركة في إضعاف حركة النهضة والدفع بها إلى هامش الحقل السياسي، بل إخراجها منه وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي كما كان الشأن زمن المخلوع.
وإذا كان القضاء قد حكم الآن-وهنا بعدم مسؤولية النهضة عن اغتيال بلعيد، فإن من مصلحة اليسار الوظيفي أن يواصل الضغط لترسيخ المسؤولية السياسية للنهضة عن الإرهاب والاغتيالات السياسية. وهو ما يخدم منظومة الحكم الحالية وقد يساعد على التقارب بينها وبين "اليسار الوظيفي". فهذا اليسار -خاصة الوطد- لن يتردد في خدمة آلتي القمع الأيديولوجي والأمني، كما فعل مع كل الأنظمة المعادية للديمقراطية وللإسلاميين ولأي مشروع للتحرر الوطني قبل الثورة وبعدها.
ختاما، فإن مزايدات اليسار الوظيفي (أي اليسار الشيو-تجمعي) وتضخيمه المتعمد للاغتيالات السياسية على حساب كل شهداء الثورة وضحايا المخلوع هو أمر يجد سببه الأساسي في خطأ تقديري مارسته النهضة بعد الثورة، وما زالت تستسيغه إلى يومنا هذا رغم كل تداعياته الكارثية: منطق المصالحة قبل المساءلة والمحاسبة.
اليسار الذي يقول إن بينه وبين حركة النهضة "دم"، هو نفسه اليسار الذي كان في خدمة سفك دم الإسلاميين وغيرهم من المعارضين لنظام المخلوع، فلا أحد يستطيع أن ينكر دور اليسار -خاصة الوطد- في منظومة بن علي الأمنية والأيديولوجية
فاليسار الذي يقول إن بينه وبين حركة النهضة "دم"، هو نفسه اليسار الذي كان في خدمة سفك دم الإسلاميين وغيرهم من المعارضين لنظام المخلوع، فلا أحد يستطيع أن ينكر دور اليسار -خاصة الوطد- في منظومة بن علي الأمنية والأيديولوجية. ولكنّ النهضة لم تطرح مفهوم المسؤولية السياسية لليسار عن دماء أبنائها وغيرهم فضلا عن أن تطرح مسؤولية اليساريين الجزائية.
وأمام هذه "الذاكرة المثقوبة" التي ما زالت حتى في بيانها الأخير تدعو إلى فتح "صفحة المصالحات الكبرى والإعراض عن الأصوات الناعقة بالفتنة والإقصاء والكراهية"، فإن اليسار ما زال مساويا لذاته ومتصالحا مع هويته: كيان وظيفي تخلى عن مشروعه الخاص ليتحول إلى مقاول في خدمة مشاريع غيره من ممثلي منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتهم الأجانب. وإذا كانت النهضة مصرّة على "المصالحات الكبرى" رغم عدم وجود شركاء حقيقيين في هذه العملية، فإن اليسار ما زال مصرا على "العنف الثوري" لكن بعد تغيير موضوعه (العنف لا يوجّه إلى المنظومة الرجعية البرجوازية بل إلى ضحاياها). فقضية الاغتيالات السياسية، مهما كانت مآلاتها القضائية، ليست في جوهرها إلا ملفا من الملفات التي سيمارس فيها اليسار الوظيفي -بعد أن نجا من المحاسبة القانونية والمساءلة السياسية- دوره الأصلي: خدمة المنظومة الحاكمة ورعاتها الإقليميين والدوليين بشعارات كبيرة ليس تحتها إلا قضايا صغيرة ونفوسا أصغر.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاغتيالات اليساري الإسلاميين تونس تونس اغتيالات الإسلاميين اليسار أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاغتیالات السیاسیة الإسلام السیاسی حرکة النهضة بین الإسلام الیسار الذی فی خدمة الذی ی لم یکن کانت ت هو أمر
إقرأ أيضاً:
اليمن.. الواقعُ وسؤالُ النهضة
عبدالرحمن مراد
يمكن القول اليوم إن اليمن في أشدّ الحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية تعيد ترتيب النسق الحضاري والثقافي، وتعمل على تحديد المفاهيم وصياغة أهداف وطنية جديدة، فالذي يحدث هو أننا واقعون تحت تأثير سياق من التلقي والاتصال؛ باعتبَارهما وسيلة تفاعل أَسَاسية بين الجماعات والأفراد؛ للتحكم بالأنظمة المادية والرمزية في السياق التاريخي والثقافي إلى درجة أننا نتقبل الحدث ونعيد إنتاج دلالته في وسط زمني مغاير، وهو الأمر الذي يجعلنا في تيهٍ دائم وفي حالة اغترابية مُستمرّة عن واقعها.
علينا التفكير بمسؤولية معرفية وأخلاقية بالغة الإحساس؛ فالمجتمعات من حولنا في عالمنا الحضاري الجديد حصلت على ميزات اجتماعية من القوة، والثروة، والمهارة، والعقلانية..، ونحن ما نزال -نحن العرب- ندور حول أنفسنا ونستغرق أنفسنا في جدل عقيم في حين أننا عاجزون عن ملء الفراغ الحقيقي الذي يشتهي الامتلاء، ونقف في تمترس عجيب وراء الصورة النمطية في أذهاننا عن أنفسنا وعن الآخر وعن الدولة.
وفقًا لطبيعة الإنسان في اليمن فإن حضور سؤال النهضة في عملياته النفسية والذهنية يرتبط بأجهزة السلطة السياسية ونوعيّة علاقاتها بحركة المجتمع وتفكيره وردود الفعل العام، فالسؤال في جلّ ضروراته يبحث في طبيعة السلطة السياسية والعلاقات الاجتماعية، فالسؤال النهضوي في جوهره موضوع سياسي في المقام الأول، فهو يضع السلطان والسلطة والسياسة والسياسي والحكم وأدواته وتفاعلاته موضع التساؤل والسؤال نظرًا إلى تعدد المرتكزات والمرجعيات النظرية الحضارية التاريخية، وتنوع القوى الاجتماعية / السياسية في المشهد السياسي الوطني؛ فسؤال النهضة الوطنية موضوع أَو قضية كلية متكاملة المعطيات والأبعاد؛ فالصراع الذي استمد السؤال النهضوي شرعيته منه، يفترض به أن يتخلّى عن أدواته وآلياته القديمة، وعلية أنْ يتجه إلى البُعد المعرفي فيطرح سؤال النهضة في التاريخ والفكر والسياسة والحضارة والاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية والاقتصاد السياسي والفلسفة والعلاقات السياسية بعد أن تفاعل مع هذا السؤال من خلال حالة التفكيك للبناءات وخاض الصراع الدامي ووصل إلى خلق حالات جديدة، وتلك الحالات الجديدة حملت روح التوازن الاجتماعي والسياسي وهي تتهيأ الآن لتقبل الواقع الجديد الذي تنتظر منه إعادة ترتيب شكل العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع، وبرؤية ذات توافق وتناغم مع سؤال النهضة الوطنية.
***
ما هو ثابت أن جدلية القديم / الجديد -كثنائية تاريخية مُستمرّة منذ ظهور الجماعات الاجتماعية البدائية وحتى ظهور الدولة وفق المفهوم الفلسفي والثقافي والمعاصر- فالجدلية ظلت كحالة تدافعيه تسير وفق سنن كونية ثابتة، فالقديم في أدواته وآلياته وفي أساليبه الحضارية والثقافية لا يصل إلى حالة الفناء المطلق ولكنه يعيد إنتاج نفسه في حالة من حالات التكيف مع مظاهر الزمن الجديد..، وحتى يبلغ الجديد مقاصده عليه أَلَّا يغفل عن الحقائق التالية:-
1- الماضي يمتد في كُـلّ جديد ويفترض ألا يرى الجديدُ عدميته بل يقوم بترميمه وإعادة إنتاجه تخفيفاً لحدة الصراع، ونرى ضرورة تطهير الماضي بالنقد والرؤى الجديدة وَاستخلاص نافذة منه للمستقبل مع الإيمان المطلق بالتجديد والتحديث وبصناعة اللحظة الحضارية وصناعة المستقبل.
2- الذات الداخلية مكون أَسَاسي لمصادر الطاقة والإمْكَانات وإحداث المتغير الحضاري، مع التركيز على تنمية القدرات الذاتية وتفجير إمْكَاناتها النفسية والذهنية والإبداعية وفي ذات السياق رفض شخصنة الأشياء والدولة.
3- التأكيد على القول إن القيمة المثلى للفكرة ليس في الإشباع الذي تحدثه بل في وظيفتها وقدرتها على التفاعل مع الواقع لحل كُـلّ إشكالاته حتى يتجاوب ذلك الواقع مع حاجات الناس وميولهم، ويملك القدرة على إحداث المتغير من خلال مرونته وقابليته للعمل، وتأكيد الطابع الحضاري الجديد.
4- الوجدان بطبيعته يفرق بين الناس لذلك يفترض التأكيد على العقل؛ باعتبَاره أدَاة تمثيل وتوحيد، وهو قادر على فهم الروابط بين الأشياء وخلق روابط جديدة مع التأكيد على دور المدركات في التعبير عن الواقع.
5- الإنسان هدف التنمية ومحورها وتحديث وظائف مؤسّسات الدولة بما يتوافق وهرم الحاجات للإنسان ضرورة حضارية وهرم الحاجات يتطور مع التطور الحضاري والثقافي وتعزيز قيم الانتماء وتصميد الهوية الإيمَـانية والوطنية لا يمكن أن يتحقّق دون أن يجد الإنسان اهتمامًا فوقيًّا في الرؤى والفلسفات والإجراءات تحدث الإشباع اللازم في فراغاته الوجودية الفيسيولوجية والسيكولوجية وشعوره بالوجود والفاعلية في معادلة الحياة.
***
مع التأكيد أن هذه الإشارات الواردة في السياق تأتي إسهاماً منا ضمن مشروع التغيير الجذري الذي أطلقه قائد الثورة السيد العلم عبدالملك الحوثي، وهي قد تسهم في إضاءة بعض الجوانب لحكومة التغيير والبناء التي يعول عليها القائد -حفظه الله– في التغيير والبناء وُصُـولًا إلى التغيير الجذري كمشروع لثورة 21 سبتمبر؛ إذ لا بُـدَّ لنا من إثارة سؤال النهضة في مقابل فرضية التغيير الجذري.