عوامل التشكيل المعرفي:
الإنسان مهما تغيرت أفكاره وأحب أن يوصف بوصف ما ويتلمس أن يوضع في صندوق ما، لكنه في الحقيقة سيتخذ مظهر ما يحب أن يوصف به بينما طريقة تفكيره هي الحاكمة، وطريقة التفكير تتبع في تصميمها منظومة التفكير التي لبها الجهاز المعرفي، والجهاز المعرفي يدخل في معظم خطوط الإنتاج الفكري والبنيوي للإنسان، وهذا يعني التركيبة للعقلية وأغلب نواحي النفسية، لذا نرى المجتمع يتقارب في العقلية وجانب النفسية، وجانب نفسية الآخر الخاضع للظرفية هو من يتمايز بين الطبائع في الأمة الواحدة تحت متعدد المواقع الجغرافية أو البيئية الدقيقة، وهو ما يميز مثلا العراقي عن السوري عن المصري.
وعوامل التشكيل المعرفي هي:
1- الطفولة والأم، الطفولة والأسرة.
2- المدرسة، والبيئة المحيطة.
ظروف متداخلة سياسية وسلطوية وتأثيرات خارجية وداخلية على النفسية التي تؤثر في إعادة تفسير أو تشكيل للعقلية، وهي ظروف آنية بعمر التاريخ قابلة للإصلاح والتغيير، وهذا يمكن أن اسميه "السمة البيئية"
3- المعارف المستسقاة والتي يواجها أثناء البحث.
4- خلاصة تجارب الآخرين وتجربته الشخصية.
5- السمة الذاتية للطفل في تركيبته الجينية، وهذه نفسية تدير التوجه المعرفي ومنظومة العقل.
مسار التلقي المعرفي وتكوين الجهاز المعرفي:
الناس في موضوعنا هنا نوعان، نوع يتلقى ولا يُبدع وإنما يدخل المعلومة في صلب اليقين؛ ونوع يناقش المعلومة ويقسمها وفق ما توصل إليه من تشكل لمعايير فإن تغيرت معاييره نتيجة سعة أفق أو معلومات حديثة تفتح أبواب فهم جديد فالطبيعي أن يعيد النظر في كل ما سبق لتتوازن العقلية مع النفسية وهما عنصرا الشخصية، لكن ليس دائما ينعكس تأثير الجهاز المعرفي وتأثيراته على الذاكرة المعرفية والنفسية، فأحيانا نجد من يهاجم ما كان مؤمنا به وربما يعاقب من يقف ضده، لكن في تأمل لحالته نجد أنه أنكر فعلا مظهر ماضيه وبعض تفاصيله وبقيت طريقة التفكير نفسها بتحول نحو رؤية يظن أنه تحول إليها يقينا.
1- الأم والطفولة والأسرة:
الأم مدرسة التعليم المستمر لأبنائها وبناتها، وهي الأقرب إليهم حتى لو كانت أشد قسوة من الأب، ومنها يتلقون الانطباعات المعرفية. وإن كانت متعلمة أو مثقفة لها خططها في التربية يمكن أن تشرح الأمور لتتحول من انطباعات إلى فواعل معرفية في التفكير عند أبنائها لأنها أقامت الدليل على ما علمتهم. وتعليمها يعبر في الحقيقة عما تعلمته هي أيضا فهي الأساس في كل المراحل التالية من الأسرة والى حيث يصل، فهي إذن تمهد للتلقي التالي وهذا عامل مهم إن كانت الأم واعية تحمل فكرا حيا وتفكيرا سليما، وهو عامل مهم أيضا إن حملت الخزعبلات والانطباعات الجامدة. وهنا قد يحمل الطفل تناقضات ومعلومات غير مستقرة من الأسرة أو العائلة التي خاضت تجارب الحياة بشكل إضافي، فتكونت انطباعات عن البيئة وحلول ما ومعايير اجتماعية للحكم على ما سيوجه في المستقبل.
2- المدرسة والبيئة المحيطة:
وهنا تأتي الإضافات سواء كانت إضافة خبرات أو انطباعات أو صداما بين ما اعتبره ثابتا وبين آخرين قد يخالفون ما تولد عنده وينمو، وتلاقح الأفكار الهشة مع الأقوى لتجد هنالك قناعات يرفضها وأخرى يتماهى معها وأخرى يعتنقها وإن خالفت الأسرة؛ لوقعها الأقرب لفهمه وذهنه.. زملاؤه ومدرسوه لهم منظومتهم المعرفية وقناعات جديدة، وهذا يتعرض له الإنسان الشاب بغض النظر عن انتماء أهله، وسيجد مقاومة في داخله ومن أهله، وربما هذا ينعكس على نفسيته، إضافة لعقليته لنجد تغييرا في الشخصية وكأنها لم تخرج من هذه العائلة.
الصراعات في البيئة والتحديات ستشكل عنده عقدة ومفصلا، أما العقدة في الموقف المتوارث وأما المفصل فهو ما يتحرك به خارج ما متعارف عنه في عائلته.
3- المعارف المستسقاة والتي يواجها أثناء البحث
الآدمي أثناء بحثه وقراءاته ومستجدات المعرفة قد ينتج الجديد أو يكرر التقليد، فإما يشكل نحوها انطباعا عدائيا أو إمكانية تقبل أو لا يهتم بها.
4- خلاصة تجارب الآخرين وتجربته الشخصية:
قد تأتي خلاصة تجارب الآخرين ومعارفهم لتضاف له كانطباع لكن ليس بالضرورة أن تتوافق مع مسيرته، وبالتالي سيكرر الفشل في امر نجح سابقا لكن تغيرت حيثياته وظروفه، وهذا لب المشكلة عندما يكون الجهاز المعرفي رافضا للتحديث مقاوما للتغيير، ويحكم على كل ما يمر به متوقفا عن التفكير لأنه يعتقد أن التجارب الناجحة عنده وهو لا يحتاج أن يفكر أو يتفكر أو يجرب ويمر بالصح والخطأ والتعديل.
5- السمة الذاتية للطفل في تركيبته الجينية وهذه نفسية تدير التوجه المعرفي ومنظومة العقل:
فالجينات والوقفات السلبية في القدوة كالأب وألام والأستاذ والبطل الذي يظهر أنه ليس بطلا، إضافة للأمراض النفسية والعقلية المتوارثة وطفراتها، كل ذلك يجعل الإنسان إما متقبلا للتغيير بلا حدود والشطحات بلا توقف، أو يرفض كل شيء ويكون انطباعا عن شيء ولا يغيره فهذا أصبح بقوة المبدأ والمعيار بينما هو فهم كلامك خطأ فقط ليفرض فهمه عليك الذي قلت الكلام.
ما هو المشترك؟
لا بد من إصلاح للجهاز المعرفي والبناء للإنسان لكن أي بناء مدني يمكن أن يصبح خرابا في أيام إن لم تبنَ شخصية الأفراد ويقام المجتمع على أساس العدل، لا حقوق المكونات في ظل اختلال المعايير وتوازن القوى والعصبيات
المشتركات بين كل هؤلاء والتي تكون نقلية وفهما انطباعيا تشكل لب الجهاز المعرفي بما يحوي من معلومات حقيقية أو خزعبلات وتقوقع نفسي وخوف من المتغيرات يخلق حالة من أغرب الحالات، التجاوب مع القوة مثلا ورفض الحق بقوة إن لم يكن له قوة، وهذا أمر يعيق النهضة والتغيير والفهم والتطوير وإبقاء التخلف المدني والانحدار الفكري الحضاري وتلاشي أمم قد تملك أسلحة الانتصار على ما يستعبدها لكنها لا تستخدمها بل ترفضها وتتمناها وهي جانبها، فنجد العلماني يتحدث عن حكم بلا تدخل الدين ويعني القدسية، وهو لا يعرف أن هذا موجود في الإسلام وفق معايير حضارية فكرية، ويتحدث المرء عن سلوك يستفقده في مجتمعه وهو ذاته يسلكه ويحارب الفكر الموصل إليه.
فلا بد من إصلاح للجهاز المعرفي والبناء للإنسان لكن أي بناء مدني يمكن أن يصبح خرابا في أيام إن لم تبنَ شخصية الأفراد ويقام المجتمع على أساس العدل، لا حقوق المكونات في ظل اختلال المعايير وتوازن القوى والعصبيات.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الطفولة التربية الأسرة المعرفة الأسرة التربية المعرفة الطفولة مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یمکن أن
إقرأ أيضاً:
النجاة معًا: لنتحدث عن الأبعاد السياسية والاجتماعية للصحة النفسية
قبل دخولي إلى المدرسة -أذكر أن إخوتي كانوا يذهبون إلى حصص الزراعة - كطالبة كانت لدينا حصص التربية الأسرية التي تعلمنا منها أشياء عن الطبخ، والخياطة والحياكة. مساقات صارت تتناقص، لتُصبح شؤون الحياة الفعلية أمرًا هامشيًا، مُقابل التدريب التقني على الأعمال المكتبية والمهن، ونُترك مع شعور أن الحياة بحاجة إلى تمرين تنقصنا ممارسته. ضاعف هذا فكرة التخصصية، التي تؤكد على أننا لا نحتاج إلا لإتقان شيء واحد في الحياة من أجل أن ننجو. فإذا ما أتقنت مهنتك، فبإمكانك أن تُؤجر أحدًا ليفعل لك أي شيء يخطر ببالك. أخذ هذا منا طقوسًا اجتماعية من شأنها أن تمنحنا مشاعر اللحمة والتضامن. أتحدث عن أمور مثل أن نطهو معاً، أو نُسرّح شعرنا، أو نفعل أياً من الأنشطة الحميمة التي نكلف اليوم الغرباء بها.
«فين الدواء»؟
«يقولك واحد راح لطبيب نفسي، وما شخصه باضطراب الشخصية الحدية» هكذا تذهب النكتة التي تلتقط جانباً من مشاكل التشخيص النفسي. عندما تشتكي من ألم في الحلق، تقول: آآآه وينظر الطبيب إلى البقع البيضاء على لوزتيك ويخبرك ليس عن الالتهاب الذي تعانيه، بل وحِدّته أيضاً. ماذا عن الأمراض التي لا نملك لتشخيصها لا الفحص عبر الأشعة السينية، ولا أخذ خزعات، ولا تحليل أي من إفرازات الجسم؟ فوق هذا، فواحدة من تحديات التشخيص في المرض النفسي، أنه يعتمد على الحكم الذاتي على المشكلة وحدتها، وما إذا كانت تستدعي التدخل.
في عملية تشخيص الأمراض النفسية، يقوم الطبيب أولاً باستبعاد الأسباب العضوية للأعراض التي يُظهرها المريض. على سبيل المثال، يتسبب قصور الدرقية بأعراض مماثلة للاكتئاب، وكذلك بعض الحالات من عوز فيتامين B12. لهذا يتم إجراء فحص الدم للتثبت أولاً - كما قلنا - من أن السبب غير عضوي. ما يفعله هذا النوع من الفحوص إذا هو استبعاد كل احتمال آخر إلى أن لا يبقى سوى الاكتئاب، والأمر ذاته يحدث مع أمراض نفسية أخرى. بالإضافة لفحص الدم، ثمة أيضا مسوح الدماغ، وتحديدا التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي fMRI الذي يرصد نشاط المخ عبر رصد التغيرات المرتبطة بتدفق الدم.
اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه يُمكن، والذي يؤدي إلى ضعف التركيز، وتذكر المعلومات،والذي -لدى الأطفال خصوصا- يتجلى في صعوبة التحكم بالسلوك. تدعي بعض الدراسات الحديثة أن مسوح الدماغ لا تقتصر فائدتها على أنها ترصد وروم الدماغ، والتلف، والإصابات الناتجة عن الصدمات، وبذلك يُمكن الاستنتاج من غيابها أن المشكلة نفسية - ولكنها فوق ذلك قادرة على رصد الفارق في أدمغة المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه والمتمثل في صغر حجم الدماغ، وزيادة في ترابطه الوظيفي، والنقص في تدفق الدم. مع هذا ففحوص كهذه لا تزال في مراحلها المبكرة، عدا أنها مُكلفة وقليلًا ما يلجأ لها الأطباء النفسيون، إلا إذا كان لديهم اعتقاد بإمكانية وجود تلف أو ورم في الدماغ، ونادرا -حتى لا أقول قطعا- ما تستخدم في تشخيص الاضطرابات النفسية.
وإن كان اضطراب الشخصية الحدية هو الموضة قبل سنوات، فالدارج اليوم هو التشخيص باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه عند البالغين، أو الحالة الخاصة منه اضطراب تشتت الانتباه أو نقص الانتباه. وكلمة «موضة» هنا لا تقصد التسفيه، إنه يُعبر فقط عن ظاهرة تنمو. تقول الأرقام إن 366 مليونا من سكان الكوكب يعانون منه.
كيف يجب أن نُفكر في المسألة؟
يسهل صرف النظر عن الظاهرة باعتبار أن الجميع يُظهر بين الفينة والأخرى خصيصة من الخصائص السلوكية لهذا الاضطراب، وأن أعداد المشخَصين المتنامية ليست انعكاسًا حقيقيًا لانتشار المرض. يُمكن المجادلة بعكس ذلك والقول إن الزيادة في الحالات المشخصة هو انعكاس لزيادة الوعي بهذا الاضطراب، ورفع العار عن المرض النفسي، وفوق ذلك هو نتيجة لطبيعة الحياة المتسارعة اليوم. يُمكن نقل النقاش إلى بعد آخر، ومناقشة خطورة التشخيص الخاطئ أو أخطار التداوي دون التيقن من صحة التشخيص. يمكن أن نذهب خطوة أبعد ونفكر لماذا يضع الناس الفعالية فوق أي اعتبار آخر؟ أي أنهم يختارون تعاطي الأدوية دون تيقنهم من دقة التشخيص، ولمجرد أنه يجعلهم أكثر إنتاجية. بل وفي بعض الحالات الإصرار على تعاطيها لأنها تساعدهم فقط، رغم معرفتهم بأنهم لا يعانون من هذا المرض.
لا يُمكنني أن أصف لكم عدد الإعلانات التي تحاول إقناعي بإني مريضة بنقص الانتباه. إنها تطاردني حيثما أذهب في فضاء الإنترنت. وهذا تمثيل لواحدة من ميزات عصرنا: الترزق على مخاوف الناس الحقيقية، من انخفاض الإنتاجية، وبالتالي تهديد أمانهم الوظيفي والمالي.
إننا أمام معضلة حقيقية، حيث يُطالب المرء بأن يكون منتجًا، لحدٍ يُشجع إساءة استخدام الأدوية. ويُطالب المرء بأن يكون «واعيًا بذاته»، ويتعامل مع صدمات الطفولة، مع الوعد الضمني بأن هذا سيشفيه، وسيجعله أكثر حضورًا، أكثر لياقة ببيئة العمل، ويمنحه الصداقات والشراكات العاطفية التي يتوق لها. في تجاهل كامل للظرف الذي أنتج المشاكل التي يحاول المرء تجاوزها أو علاجها.
«الثيربي» أيضًا خيار
يُستخدم هذا التعبير عادة للهزء ممن يذهبون بعيدًا (ممارسة أنشطة رياضية متطرفة، الرياضات الخطرة، إدمان العمل) في تعاملهم مع التحديات النفسية. وهو ما يختصر التحول ليس بإزالة وصمة العار عن العلاج النفسي فحسب، بل اعتباره أمرًا جذابًا (كوول)، هو وإظهار الهشاشة، ومعالجة التروما. بشرط أن لا يتسرب من الفضاء الإلكتروني أو الاجتماعي الخاص إلى أماكن العمل.
عائشة خان كتبت مؤخرًا مقالًا مطولًا من جزأين بعنوان «هل يجعلنا التركيز على التعافي والعناية بالذات وتطوير الذات أكثر مرضًا؟» تختصر القضية في قولها: «وها هي الرأسمالية كعادتها، تخلق القلق ثم تعده مرضًا، لأنه لا يخدم العمل. يقلل القلق من إنتاجيتنا ولكن عبء إدارته يُلقى على عاتق الفرد؛ الأمر الذي يُفسر الشعبية الهائلة لعلم وطب النفس الشعبوي». وهي تُلفت الانتباه إلى أننا غير مصممين لقضاء هذا الوقت في رؤوسنا. وتُجادل أنه وإن يكن تعلم الوعي بالذات، والمُراجعة الناقدة لسلوكنا الرأسمالي الباطن (أي الشعور بالذنب في أوقات الراحة، والحط من إنجازاتنا، وجعل الإنجاز أولوية تعلو على العافية)، إلا أن هذه أمور يُفترض بنا ممارستها جماعيًا، من خلال الحياة نفسها.
تُوفر النظريات النفسية الشعبية قدرًا من المعرفة يُربك أكثر من كونه يكشف ويُعين. إذ تُجهدنا بإيجاد الروابط العجيبة لتحليل سلوكنا (خصوصًا الجوانب التي لا تُرضينا من سلوكنا)، والتنظير حول أصل ونمط السلوك. والنتيجة؟ من فرط محاولتنا لأن نُحسن أنفسنا، ونراعيها ونراعي الآخرين، نُصبح متمركزين حول ذواتنا على نحو هوسي، حتى صرنا نُعرف بأننا «جيل من المفرطين في التفكير»، أو بكلمات عائشة خان: «نصبح مستغرقين في أنفسنا أكثر فأكثر بمجتمع مصمم أصلًا لتوليد النرجسية والفردانية الشرسة».
الفردانية التي تذكي التركيز على الذات والبعد عن مفهوم النجاة الجماعية، تجعلنا أكثر وحدة وأقل تنظيمًا. وعوضًا عن معالجة المشاكل السياسية والاجتماعية، ونسعى لحلها، نعمل على تطوير أنفسنا، ورعاية أنفسنا بحيث نتقبل وجود هذه المشاكل كواقع حتمي. لتصبح مساعدة الذات هي صناعة تقدر قيمتها بـ52 بليونا، أما الاهتمام بالذات والعافية فهي صناعة تقدر قيمتها بـ5.6 تريليون دولار. من هنا تأتي أهمية معالجة المشاكل النفسية من منظور اجتماعي وسياسي، وباعتباره نتيجة لظواهر اجتماعية وسياسات، وليس كمشكلة فردية.
طيب، إن لم يكن هذا سبيل الخلاص، فما السبيل؟
ثمة طرق طبيعية وغير واعية للتعامل مع الأزمات، علينا أن نشجعها ونربيها. الفكاهة مثلًا إحدى آليات التكيف. تقزم المآسي عوضًا عن الانشغال بها، وتكبيرها، والانهماك في معرفة جذرها. لعلها ليست صدفة أن يكون للغزيين حس فكاهة استثنائي. ليس هذا للدفاع عن إيجابية مزيفة، ندعي فيها أن بإمكان البسمة أن تحل أعتى المشاكل، وأن الحرمان من الغذاء، والسكن، وفقدان المرء لعائلته يُمكن أن يُتجاوز عبر الهزء من الظروف. بل هو لنقول بإعطاء الجراحات الصغيرة والصدمات المبكرة موقعها وثقلها الحقيقي، وتجاوزها من أجل أن يُفسح المجال لمعالجة مشاكل العالم الحقيقية، والعمل على التفكير بالنجاة كفعل جماعي، وليس باعتباره حقا حصريا لمن يملكون ثمنه.
الحياة الاجتماعية المتراحمة، والانتظام لحل قضايا العالم هو طريقنا للعافية. التبادلية في الدعم الاجتماعي، عدم أخذ الأمور بجدية، حسن الظن، وعدم حساب النقاط في علاقات الأخذ والعطاء اليومية مع أقاربنا، زملائنا، معارفنا، وبالطبع أصدقائنا. وقد يُفيدنا أيضًا القبول بأن العالم ليس مكانًا منصفًا، دون أن يعني هذا فقدان الأمل في تغييره.
دعونا نضحك على مشاكلنا، نتحمل بعضنا، معارفنا وزملاؤنا وأصدقاؤنا، ونطالبهم بأن يتحملوا أمزجتنا بدورهم.
تغيير الوضع القائم يتطلب شجاعة، يتطلب قبولًا بأن محاولة النجاة الجمعية مكلفة على المدى القريب، لكنها الطريقة لتحدي الوضع القائم.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم