ليس من اليسير على الإنسان أن تتجه هِمته إلى النظر فى أمر نفسه من أجل تقويم سلوكها وإصلاح عيوبها، كما أنه ليس من اليسير أنه إن وجد فى نفسه داعية الإصلاح أن يتيسر له السبيل إلى ذلك وأن يُعان عليه، فتقويم النفس من أشقّ الأمور وأشدها على الإنسان، لاسيما إذا طال عليه أمد وهو على حالة مستقرة من الخلق والطّبع، ما يجعل أمر تغيير أى منهما عسراً غير هيّن.

ولعل من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم ما يعينهم على تهذيب أنفسهم فكان من ذلك صوم رمضان، والذى يعد -بطبيعته- بيئة خصبة مُذللة للنفس، كاسرة لشهواتها، مُمكّنة من التحكم فيها على نحو كبير، بدليل قوله صلوات الله وسلامه عليه: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّى صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» [صحيح البخارى] فالصوم بطبيعته جُنةٌ أى: ساتر عن الشهوات، كافٌ عن المعاصى والآثام، التى لو استرسل الإنسان معها لربما قادته إلى النار، ثم إن المرء حين يأخذ نفسه -حالة الصوم- بالتحرز عما يؤدى به إلى الهلكة، عليه -فى ضوء التوجيه النبوى- عليه أن يعتنى أيضاً بضبط سلوكه وأخلاقه، فلا يرفُث، أى: لا يفحش فى القول، ولا يجهل، أى: لا يفعل فعلاً أو يقول قولاً بخلاف الحكمة والصواب، بل ولا يجارى أحداً استفزه إلى خُلق سيئ ما أمكنه ذلك، فلا يسب ولا يشتم ولا يجادل.

فأنت ترى الصوم إذن مُعيناً على كبح جماح النفس بمُعاضدة ما يُؤثِّره فى الإنسان من حالة الضعف والانكسار، فضلاً عن الحالة الروحية التى تجعل انقياده لتوجيهات الشرع أكثر سهولة، والتى ربما جاء التوجيه بها مع الصيام ليس فقط لجعله ذا قيمة أكبر من جهة الاكتمال وحصول الثواب، بل أيضاً لاستثماره والاستفادة منه فى إعانة الإنسان على ما ربما حاوله مع نفسه مراراً أو رغب فيه من الإصلاح والتهذيب، لكن من دون جدوى تذكر.

وليس الحديث الذى ذكرناه هو فقط كل ما وجَّه الشرع به حال الصيام، فقد جاء فى غيره قوله صلوات الله وسلامه عليه: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» [صحيح البخارى] فهذا توجيه آخر باجتناب خُلقين من أشد الأخلاق فتكاً بالمجتمعات، وهما قول الزور، والعمل بالزور، والزور هنا ليس مُختصاً بالشهادة، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، بل يدخل فيه الكذب والغش والتدليس، وكل ما فيه انحراف عن الحق قولاً وفعلاً.

ثم إنه لا ينبغى أن يغيب عن بالنا الأساس الذى قام عليه الصيام من ترك الطعام والشراب والنكاح، والتى هى أمور -فى الأصل- قد أحلها الشرع وأباحها فى غيره، لكن ليكون هذا المنع هو الآخر أحد عوامل الإصلاح المرجو لتنبيه النفس إلى فضيلة الاقتصاد والاعتدال فى مباحات الشرع الشريف، حتى لا يؤدى الاسترسال فيها إلى نهم وشره يجران إلى الحرام، وغير ذلك كثير مما يمكن أن يفيده الصوم فى تقويم المرء لنفسه وضبط سلوكها.

هذا كله فضلاً عن كون صوم رمضان على وجه الخصوص يأتى كحالة مُجتمعية عامة، لا يشعر معها الشخص بالانفراد الذى يُصَعِّب من الأخذ بموجبات الصيام من الأخلاق الحسنة، بل على العكس من ذلك تزيد هذه الحالة العامة من تعدى الأخلاق الفردية واتساع رُقعتها لتنتشر فى المجتمع، مما يجعله بحق موسماً لإصلاح النفوس وتهذيبها وشيوع الخير فى المجتمعات.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: شهر رمضان التهذيب التقوى

إقرأ أيضاً:

أستاذ علاج نفسي: الشخص غير القادر على التسامح ليس ضعيفا

أكد الدكتور أحمد هارون، أستاذ العلاج النفسي والصحة النفسية، أن الإفراط في التسامح قد يكون خطأ، موضحًا أن لوم النفس وانتظار عودة شخص قد تخلى عنك يمثل أزمة نفسية كبيرة.

أحمد هارون: الجروح النفسية التي يسببها الأهل تترك أثرًا عميقًاأحمد هارون: مفهوم اعتزل ما يؤذيك ليس مجرد عبارة عابرة بل هو مبدأ أساسي في الصحة النفسيةأحمد هارون: الانسحاب من العلاقات التي تسبب الاستنزاف العاطفي ليس ضعفًا بل قوة وحكمةلماذا تتعلق الفتيات بأشخاص لا تناسب مستواها الاجتماعي.. أحمد هارون يكشف مفاجأةالقادر على التسامح ليس ضعيفا 

أوضح الدكتور أحمد هارون، خلال تقديم برنامجه «علمتني النفوس» المذاع على قناة «صدى البلد»، أن هناك اعتقادًا شائعًا يروج بأن الشخص غير القادر على التسامح هو شخص ضعيف، مشيرًا إلى أن هذا التصور غير دقيق.

وأضاف أن بعض الأشخاص يعانون نفسيًا بسبب عدم قدرتهم على التسامح، لافتًا إلى أن كثيرًا من النفوس تجد صعوبة في مسامحة من ظلموهم، خاصة إذا كانت تربطهم بهم علاقات قوية وكان بينهم "عيش وملح".

مقالات مشابهة

  • كيفية اختيار المستحقين للزكاة و الصدقات في رمضان.. الدكتور على الله الجمال يوضح
  • الدكتور عبد الرحمن الخضر يكتب للمحقق: الوطني والتفكير في اليوم التالي (1- 3)
  • عبدالقادر خوسانوف يحتفل بزفافه .. فيديو
  • الدكتور حسام بدراوي يكتب: فلسطين والفرص الضائعة
  • بالدم.. قصة مشوّقة أم اقتباس غير معلن؟ جدل حول العمل اللبناني الأبرز في رمضان
  • كريم خالد عبد العزيز يكتب: رسالة تقوية وتشجيع: ذكريات خالدة وحب متجدد
  • الصيام هلاك في هذه الحالة.. الدكتور حسام موافي يوضح
  • أستاذ علاج نفسي: الشخص غير القادر على التسامح ليس ضعيفا
  • بين الانقسام والانتقام.. سوريا تدخل مرحلة اضطرابات جديدة
  • روحانيات الشهر الكريم