ما فضل العفو عن المسيء ومسامحته عند القدرة، حيث سائل يقول: شخص أساء لي وتجاوز في حقي، فطلب مني بعض الناس العفو عنه ومسامحته، وأخبرني بأنه قد ورد في القرآن والسنة أن العفو عن المسيء سبيل للوصول إلى عفو الله تعالى، كما أنه يكسب صاحبه عزة. فما مدى صحة هذا الكلام؟

أساء لي وتجاوز في حقي فهل مسامحتي له تجلب العفو عني؟

وقالت دار الإفتاء: رغَّب الشرع الحنيف في العفو عن المسيء ومسامحته عند القدرة؛ فإن كانت المعاقبة هي جوهر العدل والإنصاف، فإن العفو هو قمة الفضل والإحسان، وهذا الخلق الكريم هو سمة من سمات وأخلاق الإسلام الذي دعا إليه ورغب فيه في مواضع متعددة؛ فقال تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾ [الحجر: 85]، وقال سبحانه: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 89]، وقال سبحانه ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين﴾ [الشورى: 40].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (27/ 607، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾ [فصلت: 34]، فأجره على الله، وهو وعد مبهمٌ لا يقاس أمره في التعظيم] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 40، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو؛ ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أي: إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة] اهـ.

وقال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133-134].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (6/ 57، ط. دار هجر): [قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم، وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم. وأما قوله ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعد للعاملين بها الجنة التي عرضها السماوات والأرض، والعاملون بها هم المحسنون، وإحسانهم هو عملهم بها] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 207): [قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ العفو عن الناس أجلُّ ضُروبِ فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يَعفو وحيث يَتجِهُ حقُّهُ، وكل من استحق عقوبةً فتركتْ له فقد عُفِيَ عنهُ] اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» أخرجه مسلم؛ قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (8/ 59، ط. دار الوفاء): [قوله: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عِزًّا": فيه وجهان: أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو، ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه. الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك] اهـ.

وقال العلامة ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (3/ 586، ط. دار الوطن): [وقوله: "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عِزًّا": وذاك لأن العافي في مقام الواهب والمتصدق، فيعز بذلك] اهـ.

شيخ الأزهر: نصيب العبد من اسم الله «الغفار» أن يجعل العفو منهج حياة

وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 693، ط. دار الحديث): [وفي قوله: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عِزًّا": حث على العفو عن المسيء وعدم مجازاته على إساءته وإن كانت جائزة؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]، وفيه أن يجعل الله تعالى للعافي عزًّا وعظمة في القلوب؛ لأنه بالانتصاف يظن أنه يعظم ويصان جانبه ويهاب، ويظن أن الإغضاء والعفو لا يحصل به ذلك، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يزداد بالعفو عزًّا] اهـ.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» أخرجه البيهقي في "الشعب"، والطبراني في "مسند الشاميين" و"مكارم الأخلاق".

قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 474، ط. المكتبة التجارية الكبرى): ["واغفروا يغفر لكم": لأنه سبحانه وتعالى يحب أسماءه وصفاته التي منها الرحمة والعفو، ويحب من خلقه من تخلق بها] اهـ.

وشددت: الآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة يطول المقال بذكرها، وحسبنا ما ذكرناه عبر هذه اللمحات السابقة التي تبين منهج الشرع الحنيف ودعوته إلى العفو والتسامح والتحلي بهما، بما يعود بالنفع على الجميع أفرادًا ومجتمعات؛ إلا أن العفو المأمور به هنا شرعًا هو العفو الذي لا يترتب عليه أمر محرم شرعًا.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: العفو الإفتاء الله تعالى قال الإمام قال تعالى اهـ وقال الله ع

إقرأ أيضاً:

كيف ترد بذكاء؟

 

 

 

جابر حسين العُماني **

jaber.alomani14@gmail.com

 

يعد فن الرد من المهارات التربوية الأساسية التي ينبغي على الآباء والأمهات الاهتمام بتعليمها لأبنائهم، وذلك لتهيئتهم على التواصل المباشر مع الآخرين بما يتوافق مع شخصياتهم، وسمو أخلاقهم، ومكانتهم الاجتماعية في الأسرة والمجتمع، وفن الرد هو مهارة تحتاج إلى سرعة البديهة والذكاء عند إطلاق الرد، كما تحتاج إلى القدرة الكافية على اختيار أفضل الكلمات المناسبة وأعذبها.

هناك العديد من الأساليب التي من الممكن تعلمها، وهي في حد ذاتها تساعد على تحسين الرد وتقديمه للآخرين بأجمل حلة وصورة، بلا تلعثم أو تردد أو خجل، فما هي الأساليب النافعة والفعالة لتحسين مهارة فن الرد؟

أولًا: كن مستمعا جيدًا قبل اتخاذ قرار الرد، وذلك يتطلب منك فهم من يتحدث معك، وهو أسلوب يساعدك كثيرًا على إبراز وتقديم أفضل الردود بذكاء ودقة وفطنة. ثانيًا: عليك بالانتظار قليلًا قبل إطلاق الكلام، وبعبارة أخرى، حاول أن تتجنب التسرع في الرد على حديث الآخرين، خذ وقتا قصيرًا جدا للتفكير في نوعية الرد المؤثر والمقنع والحكيم الذي ينبغي عليك أن تقدمه مع من يتحدثون معك. ثالثًا: اختر كلماتك التي تريد إطلاقها للآخرين بعناية فائقة، وجعلها لطيفة وجميلة ومريحة وحفظها جيدًا حتى تستطيع تقديم رد واضح للجميع ومقبول ومؤثر وملفت بلا تعقيد أو تصعيب. رابعًا: تحكّم بنبرة صوتك أثناء الرد، فلا تجعلها عالية فتؤذي، ولا خافتة فلا تُسمع، بل اجعلها لطيفة مسموعة مفهومة بشكل لائق تعكس من خلالها مدى أخلاقك وذوقك الرفيع. خامسًا: كن دبلوماسيا في ردك فأنت بحاجة ماسة أحيانا إلى تجاهل الرد والاكتفاء بالصمت لتفادي التصعيد والمواجهة، خصوصا مع من يمارسون الاستفزاز، والصمت يكون في كثير من الأحيان من أفضل الردود وأحسنها وهو في حد ذاته انتصار، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63). وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَاَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". سادسًا: إذا كان من يتحدث معك يستخدم أسلوبا معينا خاصا به فينصح في كثير من الأحيان بالرد بنفس الأسلوب، على أن يكون الرد مبنيا على اللياقة اللغوية، والقوة التعبيرية بما يتناسب مع المقام. سابعًا: إذا كنت تريد أن يكون ردك أكثر إقناعا وحكمة ودراية عليك باستخدام الأمثلة والحجج والبراهين التي من خلالها تدعم موقفك وكلامك مع الآخرين. قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. ثامنًا: ركز على عنصر الابتسامة والبشاشة، أصحبهما معك في كل ردودك مع الآخرين، وذلك لأهميتهما في إبداء الرد الأجمل والأفضل، وهما في حد ذاتهما يلعبان دورا هاما في تخفيف حدة الحوار وتقريب وجهات النظر مع الآخرين، كما يجعلان الآخرين يتقبلون كلامك وحوارك بأريحية دون أي تكلف. تاسعًا: توظيف لغة الجسد أثناء الرد فلغة الإشارة الجسدية وتعبير الوجه والإيماءات لها دورها الفاعل في إعطاء الرد رونقه الأجمل والأفضل. عاشرًا: الثقة بالنفس أثناء الرد، ويتجلى ذلك في عدم التسرع بالرد إلا بعد التأكد من المعلومات التي يراد طرحها وتوضيحها للجميع.

أخيرًا.. على الإنسان أن يدرك أن الله تعالى أعطاه لسانا ناطقا وميزه به من بين مخلوقاته بهدف تشكيل الكلمات الطيبة والعذبة التي من خلالها يستطيع إثبات إنسانيته وشخصيته وأخلاقه وقيمه ومبادئه لذا عليه ألا يتحدث به إلا بما يرضي الله تعالى لا ما يرضي به شيطانه، وقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب: "تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا، فَإنّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ".

** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • هل الإيذاء من الأقارب يبيح قطيعة الرحم.. الإفتاء توضح
  • سب الدين وهو صائم هل يكمل الصيام أم يفطر.. الإفتاء توضح
  • هل يجوز تأخير إخراج الزكاة إلى رمضان؟ الإفتاء توضح الحكم الشرعي
  • حكم الأذان والإقامة للمنفرد .. الإفتاء توضح
  • ركعتان في الصباح تجلبان الخير والبركة لمن يواظب عليهما .. الإفتاء توضح
  • حكم التأمين على الحياة.. الإفتاء توضح
  • هل ندخل الجنة بأعمالنا أم برحمة الله .. الإفتاء تجيب
  • كيف ترد بذكاء؟
  • حكم صيام النصف الثاني من شعبان |الإفتاء توضح
  • ما حكم صيام يوم الشك عند المذاهب الأربعة؟ دار الإفتاء توضح حالات الإباحة والكراهية