كيف حقق نعمة الأفوكاتو نجاحا جماهيريا لافتا رغم كل عيوبه الفنية؟
تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT
شهدت مسيرة المخرج المصري محمد سامي العديد من الإنجازات والكبوات في وقت قصير نسبيا؛ فمنذ العام 2011 يقدم المسلسل تلو الآخر، يحقق بعضها نجاحًا يشيد به الجمهور والنقّاد، في حين يصبح البعض الآخر محل السخرية وصناعة "الكوميكس" على منصات التواصل الاجتماعي. لكن في كلتا الحالتين يمكن اعتبارها من "الأعلى مشاهدة" والأقدر على الوصول إلى شريحة واسعة من الجماهير.
يعود محمد سامي في رمضان 2024 بمسلسل آخر ينتمي لقائمة الأكثر مشاهدة، وهو "نعمة الأفوكاتو" من بطولة زوجته وشريكة نجاحاته وإخفاقاته مي عمر، وتأليفه مع مهاب طارق، ويشارك في التمثيل كل من أحمد زاهر وكمال أبو رية وأروى جودة.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4مسلسل "العتاولة".. دراما المقاولات وخلطة النجاح المضمونةlist 2 of 4مسلسل "بابا جه".. كوميديا اجتماعية من قلب الأزمات الأسريةlist 3 of 4لهذه الأسباب مسلسل "صلة رحم" الأفضل في دراما رمضان 2024list 4 of 4مسلسل "ولاد بديعة".. دراما مهلهلة تكرّس الدموية وتروّج للجريمة!end of list أكلة حريفة لا يمكن مقاومتهاحقق محمد سامي أعظم نجاحاته -من الناحية الجماهيرية على الأقل- العام الماضي بمسلسل "جعفر العمدة" مع محمد رمضان، العمل الذي جمع المشاهدين ليتابعوه بنفس شغفهم في متابعة مباريات كرة القدم، وقدم من خلاله خليطا من الميلودراما والكوميديا الشعبية الحريفة، وأعاد مسيرة سامي ورمضان إلى المسار الصحيح بعد إخفاقات متعددة لكل منهما بمفرده.
وثارت العديد من الأقاويل حول عودتهما مرة أخرى في الجزء الثاني من "جعفر العمدة"، لكنها انتهت إلى لا شيء، بينما تم الإعلان قبل رمضان عن مسلسل آخر للمخرج والمؤلف نفسيهما هو "نعمة الأفوكاتو".
تدور أحداث "نعمة الأفوكاتو" في حارة شعبية كذلك، وفيه البطلة نعمة محامية شديدة الذكاء، قادرة على مساعدة موكليها على الدوام، ولكن ذلك لا ينقذها من الفقر، فهؤلاء الموكلون ليسوا سوى فقراء تقابلهم في مقهى، حتى يأتيها الفرج على يد موكل شديد الثراء، يوكلها لإنقاذ ابنه المحكوم عليه ظلما بعشر سنوات سجنا، ويعدها بعشرة ملايين من الجنيهات إن أخرجته من هذه القضية.
تنجح نعمة بالفعل في تبرئة موكلها، وتحصل على الملايين العشرة، ولكن بدلًا من أن تضحك لها الأيام بهذه الثروة الطائلة، تكتشف أنها وبالٌ عليها، إذ تكشف عن النفوس الضعيفة المحيطة بها، وتعرضها لخطر الموت على يد زوجها، الموت الذي تعود منه مثل العنقاء إنما بنسخة أكثر عنفا وقوة لتنتقم من كل من خذلوها.
يستخدم سامي كل السمات التي كانت تميمة نجاحه في "جعفر العمدة"، من البيئة الشعبية الغنية بصفات الشهامة و"الجدعنة" إلى الجرائم العنيفة والتواءات الحبكة، بالإضافة بالطبع لغدر الأصحاب والأحباب غير المتوقع، ويُنهي كل حلقة بمفاجأة تجعل المشاهد يترقب الحلقة القادمة، رغم استنتاجاته شبه اليقينية للحدث القادم.
تشبه مسلسلات محمد سامي من هذا النوع الأكلات "الحريفة"، التي يعلم آكلها أنها سيئة المكونات وفي بعض الأحيان قد تضره أكثر مما تنفعه غير أن طعمها لا يزال شهيا، ويدفعه لتناول القطعة تلو القطعة بلا مبالاة.
بالمثل، من غير الممكن أخذ أي من عناصر مسلسل "نعمة الأفوكاتو" وتحليلها بمفردها للوصول لجمالياتها، فكل منها متواضع بالفعل، سواء التمثيل المسرحي الذي يكاد يكسر الحاجز الرابع وتتحدث فيه البطلة مع الكاميرا مباشرة موضحة مدى ذكائها وقوة شخصيتها، أو الحوار الشديد المباشرة، أو الشخصيات المسطحة.
الزوج في "نعمة الأفوكاتو" ليس أكثر من رجل خائن يكره زوجته لنجاحها، وسارة كاريكاتير السكرتيرة اللعوب، والأب المحامي المثالي الذي يربي ابنته عبر الحكم والمواعظ، بالإضافة إلى الموسيقى التصويرية التي تميل للملحمية حتى في المشاهد التي لا تستدعي ذلك، و"المكساج" المتواضع إذ نجد تغيير "تراكات" الموسيقى يتبع تعبيرات وجه البطلة أكثر من الموقف الدرامي الذي يُعرض على الشاشة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن المسلسل لا يزال مشوقا ومسليا بدرجة يصعب مقاومتها.
من الذي لا يحب نعمة؟صدر عام 1996 مسلسل تلفزيوني بعنوان "من الذي لا يحب فاطمة؟"، وعلى الرغم من عنوانه الذي يحمل اسم امرأة، فإن المسلسل يُكرس للشخصية الذكورية الرئيسية صبري (أحمد عبد العزيز) الذي تقع في حبه كل نساء العمل، هذه الثيمة نجدها متكررة في "جعفر العمدة" على سبيل المثال، فالبطل هنا لا تقع في حبه زوجاته الأربع فقط، بل تعجب به كل امرأة مرت على الشاشة بما فيها والدته "صفصف الملكة"، يعيد "نعمة الأفوكاتو" السردية نفسها ولكن يضع امرأة محل "صبري" و"جعفر"، وهي بالطبع البطلة نعمة.
يقع في حب نعمة صديق عمرها أكرم (أحمد ماجد)، فيكاد الأمر يدمر زواجه، بينما رجل الأعمال الثري ياسين (عماد زيادة) يفقد عقله ما إن تقع عيناه عليها في قاعة المحكمة وهي تدافع لتبرئته من تهمة زائفة، فيطلب من والده مثل الطفل المدلل تعيينها في شركته براتب مهول، ويترك عمله ومسؤولياته ليساعدها في مسعاها للانتقام من زوجها، ويجيب عن غضب والده عليه لحبه امرأة متزوجة بأن القلب له أحكام.
على الجانب الآخر تسحر نعمة كل من يقترب من محيطها، والدها سعيد أبو علب (كمال أبو رية) بطبيعة الحال، وصديقه المحامي الفاشل (سامي مغاوري)، وصاحبة المقهى التي دأبت مقابلة طالبين خدماتها كمحاميه عليه، والمحامي المتدرب محمد (محمد دسوقي) الذي ضحى بحياته فداء لها، والرجل الطيب الذي أنقذها من الدفن حية.
يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الحالة الأسطورية التي فرضها المؤلف والمخرج على الشخصية الرئيسية، فهي امرأة تضحي بعشرة ملايين جنيه من دون تفكير حقيقي لإسعاد كل من حولها، تُخلص في حبها لدرجة تجعلها تدير ظهرها للتفكير المنطقي وتسامح زوجها على أخطاء كبيرة، ولكن كما هي أسطورية في لطفها ومحبتها، فهي كذلك في غضبها وانتقامها، فتخطط بكل ذكاء ودهاء لتدمير حياة خصميها صلاح (أحمد زاهر) وسارة (أروى جودة)، وتبادر بشجاعة لتعريض حياتها للخطر مرة تلو الأخرى، للوصول إلى هذا الهدف، وخلال ذلك تؤسس جماعة من المقربين لها يساعدونها في هذا المسعى كأي بطلة أسطورية أخرى.
تمثل صناعة الحالة الأسطورية أحد أهم أسباب تفاعل المشاهدين مع مسلسل "نعمة الأفوكاتو"، فقد تماهى معها المشاهدون والمشاهدات، رغم جنسها، لم تختلف في أعينهم عن "جعفر العمدة" أو "رضوان البرنس" أو "رفاعي الدسوقي"، ويعيد بذلك محمد سامي نجاحه السابق في أحد أشهر مسلسلاته "مع سبق الإصرار" وبطلته كانت كذلك محامية عاشقة لزوجها قبل أن تكتشف خطته الشريرة لتدمير أسرتها، وتنتقم منه ومعاونيه شر انتقام.
تعاون محمد سامي مع زوجته مي عمر عدة مرات من قبل، كلها أتت نتائجها متواضعة في أفضل أحوالها، أو كارثية كما في حالة مسلسل "نسل الأغراب"، لكنه يكسر هذه الدائرة بمسلسل "نعمة الأفوكاتو" وقد حقق المسلسل مشاهدات عالية على مواقع البث، رغم كل عيوبه الفنية، فحصل على الوسام الأهم في عالم الفن، وهو حب الجماهير.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات رمضان 2024 نعمة الأفوکاتو جعفر العمدة محمد سامی
إقرأ أيضاً:
د.محمد الشحي: لا أحبِّذ التصنيف الجيلي وأنظر باهتمام إلى القيم الفنية العابرة للزمن
رغم أن الدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي بدأ نظم الشعر ونشره في المجلات منذ نهاية التسعينيات، إلا أن صدور ديوانه الأول تأخَّر أكثر من ربع قرن، وقد اعتبر نفسه -بتواضع- في تمرين طويل جدًا، طوال تلك السنوات.
الديوان الذي صدر عن بيت الزبير بعنوان "مقامات لام وضمَّة ميم"، يستكشف الأبعاد الجمالية في تجربة الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد، ويوقظ بعض رموز التصوف والشعر العربي الراحلين من سباتهم الطويل ويحاورهم، كما يقتنص الشعر الجميل من الأشياء التي تبدو أحيانًا عادية، بعد أن يمكِّننا من ملامسة جوهرها. في هذه المساحة نحاور الشحي حول الديوان المتميز ورؤيته للأدب العربي.
- من خلال ديوانك "مقامات لام وضمَّة ميم" تملك قدمًا حداثية وأخرى كلاسيكية.. ما تعليقك؟
• لديَّ إحداثيات خاصة نسبيًا بالمفاهيم السائلة هذه، فما الحداثة والكلاسيكية؟ هل يمكن أن نحيل النص المؤثث معماريًا على تفعيلات إلى منطقة "الكلاسيكي" بغضِّ النظر عن حمولته الشعرية وكثافته و"حداثة" ترميزاته ورؤيته الصافية؟
أعتقد أن الشعر هو اللحظة المترعة بالشجن الفتَّان وهو الدهشة التي تبحث عن المتعة والمعرفة وفق مختلف الأدوات التي لا تستسلم "لعنف السلطة"، سلطة الشكل والتنميط والمصادرة لأي جنس أو قالب، فما دام هنك تبرير نقدي وجمالي ومعرفي لتفضيلات الشاعر الظاهرة منها والمضمرة فليختر الشكل والعدة الجمالية التي يريد.
-لماذا وضعتَ قصيدتيْ تفعيلةٍ في ديوان نثري؟
• الديوان نثري كما تفضَّلت، القصيدتان لأنهما تعبِّران عن فضاء ومجال معنوي موسيقي. جاءت الأولى كأغنية للأشجار لزم معها الإيقاع الخارجي، وأما الثانية فكانت لتتماهى مع لحظة السماع في حلقات الهيام الصوفي الذي يتطلب وعيًا موسيقيًا متِّسقًا مع السياق الجمالي والإحالي، السماع هو الهيام المقفَّى، والشعر هنا كان محاولة لاكتشاف ممكناته في ترويض المواجيد والعبور إلى نواتها الطروبة.
- يبدو من خلال قصيدتي التفعيلة تمكُّنك التام من الموسيقى. هل يجب أن يتمكَّن الشاعر من كل الأدوات الشعرية قبل أن يكتب قصيدة النثر؟ *هل أردت ألا يعكس أول ديوان لك تحيُّزَك للونٍ شعري محدَّد؟
• ليس بالضرورة، قاسم حداد الذي فاز مؤخراً بجائزة الأركانة الشعرية يقول إنه لا يعرف البحور الشعرية، وهذا لم ينقص من القيمة الشعرية والأيقونية لقاسم حداد وشعريته الفارقة في مسيرته الناضحة بالجمال والعذوبة والتميز الإبداعي، المهم كما ذكرت وجود تبرير أسلوبي ونقدي وقيم فنية تحافظ على الشفرة الجمالية على مستوى المشروع الشعري أو النص الواحد.
- برغم بساطة مفردات الديوان وتأمُّلاته الجميلة إلا أن المجاز بشكله الكلاسيكي حاضر فيه.. ألم تواتِك رغبةٌ في التحرر بشكل كامل منه؟
• التحرر لا ينبغي أن يكون من المجاز بل من التعالي على الأدوات فلا تُستدعى بحجة أنه تم تجاوزها، المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها ما هي إلا أدوات لتحقيق شروط النص المضموني والنظر إلى نواته من زواياها المتعددة.
- ما الذي وجدته في تجربة شاكر حسن آل سعيد لتكون نواة لتأملاتك في هذا العمل؟
• حين تقرأ لمحمود درويش يحضر المتنبي ويوسف وأوديب، وعند أدونيس مهيار الدمشقي وجلجامش والنفَّري وعند البياتي يحضر المعرَّي والحلاج وعمر الخيام وعند عبدالعزيز المقالح وضَّاح اليمن وسيف بن ذي يزن وعند قاسم حداد الجاحظ وطرفة بن الوردة وغيرهم، في محاولة للاستعانة بتقنية "القناع" الذي يكتشف من خلاله الشاعر تخومه المعنوية والفلسفية والرؤيوية فيما لا يقوى النص مجردًا على سبره واكتشافه، منذ أمد بعيد وأنا مهجوس بالتعالق بين المنظومات المعرفية، كالشعر والتشكيل والتصوف والفلسفة، هنك مثلًا منطقة تحتدم فيها هذه المنظومات وتلتقي، منطق التماس العميقة، ذات القاع الرخامي الكثيف، وشاكر حسن آل سعيد مقيم رؤيويًا ومعرفيًا ووجوديًا في هذه المنطقة التي تحدث فيها جلبة التماس بين الأسطورة والفن والفلسفة والتصوف، هو تجربة فارقة وكونية بالمعنى الجمالي البصري، والمعنى التخريجي والنقدي فهو دائماً ما يكرِّر أن أعماله المقروءة والمرئية متواشجتان، ذهب شاكر حسن للعرفان من بابه المتمنِّع على الكثيرين وهو الحرف، واستطاع لا بالعدة الجمالية فحسب إدراك أسراره ولكن بالعدة الروحية، فالمقام هنا مقام ذوقي ومَن ذاق عرف بتعبير المتصوفة، كتابي الشعري هذا إذن كان تأملاً في التأملات وتقشيرًا "شعريًا" لطبقات اللون بحثًا عن جذور الأفكار وضراوة الالتحام بين المنظومات المعرفية في المناخ المعنوي الذي رسم إحداثياته شاكر حسن بكل كثافة وأناقة.
- ماذا أردت من وراء استدعاء الشخصيات الأيقونية كالغزالي والجيلاني والحلاج؟
• هذه الأسماء وغيرها هي عناصر المجال الحيوي المعرفي في تجربة شاكر حسن آل سعيد وهي في منزلة الحتمي الذي يتداخل بحضوره الكثيف في محاولتي الشعرية أنا أيضًا؛ لأن الكتاب تأملات في روح الفنان المبثوثة في كتبه وفي أعماله، فهي تأملات أيضًا في روافده وجداول تغذية نهره السابح في الفكرة، نحن إذن أمام جهاز اصطلاحي لشاكر حسن بأسمائه وشخوصه ومفاهيمه وعباراته وإشاراته وطقسه وإحالاته لذا لزم الاستدعاء لهذا الجهاز وعناصره الرئيسية.
- لماذا تأخَّر صدور أول ديوان لك مع أنك بدأت النشر في الصحف والمجلات منذ نهاية التسعينيات؟
• أنا أفرِّق بين التوثيق والنشر فقد كنت أنشر في الصحافة وفي مختلف الأوعية الناقلة ولكن توثيق الأعمال في مجموعة شعرية يعني الانطلاق في مشروع كتابي بما يتطلبه من عتبة تأسيسية صافية وأظن أنها تحققت في هذا العمل.
- لماذا تعاملتَ على أنك في حالة تمرينٍ طويلة على الكتابة قبل نشر الديوان؟
• الكتابة برمَّتها تمارين، تمارين على كتابة ستأتي، تمامًا كالعُرب الصوتية الناقلة للتنغيم واللحن من مقام موسيقي لآخر.
- مَن هم أبناء جيلك على مستوى عُمان أو العالم العربي؟!
• أعتقد بأن الشاعر لا يجب أن يُعنى بجيله الشعري بقدر ما يهتم وينظر فيما يمنح النص والتجربة كثافة شعرية وعمقًا ومعنى، التجييل إذن ينصرف للشعر قديمه وحديثه، موازيًا للتجربة أم سابقًا لها، لذلك لا أحبِّذ التحقيب بالأسماء بل بالقيم الفنية العابرة للزمن والتقنيات المتطورة والمستحدثة في كل حقبة.
- أنت باحث رصين كذلك.. فما تأثير الأكاديمي على الشاعر داخلك؟
• الشعر معرفة، كما هو متعة ودهشة وتخييل، الاطلاع والمقروئية في أي مجال هي مما يرفد التجربة ويغذِّي الخيال ويخدم تماسك الإحالات والدوال، كما أن الاطلاع يسهِّل تأثيث المعمار النصي على طبقته الأعمق، تلك التي تستريح في قاع البناء الشعري وينطلق منها رؤيويًا ومعرفيًا.
- لا زلت تكتب القصيدة العمودية، فما الذي يشدُّك إليها حتى الآن؟
• النص السلفي أو العمودي هو وعاء كحال باقي الأوعية الأخرى، الفكرة هي محدد المفاضلة بين الأشكال والأنواع والأوعية، الشكل هو "قصيدة بالقوة" و"فكرة بالقوة" و"المعنى المضمر بالقوة"، أستعير هنا في مصطلح الفلاسفة والمناطقة، فالشكل "يقوى" على استيعاب المعاني والأفكار وهو يأتي لاحقًا في أحايين كثيرة، بمعنى أن الجذوة الأولى بكامل أناقة دهشتها هي مَن تضع يدها على الشكل المناسب ليتحوَّل إلى معادل شعري بكل غزاراته وحمولاته، على الأقل هذه وجهة نظري.
- ما سرُّ النَفَس الصوفي في قصائدك؟
• هذه المجموعة تحديدًا تنزاح بوضوح لهذه المنطقة لأنها محاولة للتماس مع تجربة شاكر حسن آل سعيد وهو كما تعلم أقام مشروعه الجمالي على العرفان والتصوُّف بشكل عميق وآسر، من وجهة نظري، محاصرة الفكرة من عدة زوايا ومن خلال عدَّة معرفية تنهل من التصوف والفن والشعر والفلسفة يساعد على النفاذ للطبقات الأعمق في قاع الأفكار، في الشعر الصوفي مثلًا تجد شبكة ترميزات مختلفة عمَّا سواها فهي تنزع لوصف المجرَّد بالحسِّي فتشبه الحب الإلهي بكأس المدام، وفي المقابل تنزع الشعرية السائدة لتشبيه الحسِّي بالمجرَّد، وعليه فالنظر بعين العارف وروح المتصوف يريك النقطة العمياء في المعنى.
- في تقديرك، ما المختلف بين قصيدة النثر العربية ونظيرتها الغربية.. ما المشتركات الجمالية والإنسانية وما الاختلافات بينهما؟
• تجربة قصيدة النثر في الغرب تمتعت بقبول وحضور باعتبارها شكلًا من أشكال التعبير وبالتالي دخلت إلى الفضاءات النقدية باكرًا وتطوَّرت قدرتها على النفاذ للمعاني الفلسفية والذاتية والوجودية بينما تحديات الاعتراف أودت بالنص النثري في الفضاء العربي لتقديم تنازلات من قبيل الانصراف لموضوعات سياسية واجتماعية وغيرها في تمسُّح واضح للمخيال العمومي والتلقي البارد الذي تواجهه، نعم هناك تجارب متحققة خارج هذا المعنى ولكن سؤال المشروعية الجمالية كان منهكًا لقصيدة النثر طويلًا، فضل عن تباين الجذور الثقافية والمعرفية التي تنطلق منها التجربتان. أعتقد أن النص النثري لا بالمعنى الشعري الوظيفي المباشر بل بمعاني الكثافة والتخييل والجذوة التعبيرية حاضر بوضوح في أدبياتنا وتراثنا كما هو الحال في الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري والمواقف للنفَّري وغيرهم، بل حتى في القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية، تأمل هذه القاعدة الفقهية عند المالكية مثلًا: "الحياة المستعارة كالعدم"، فهناك شذريات تنطوي على كثافة أسلوبية وحمولة معرفية وجمالية لا يمكن تجاوزها، ما أردت قوله هنا، أن لدينا في تراثنا وأفقنا المعرفي ما قد يفوق التجربة الغربية ويحتضن برحابة أشكالًا إبداعية وتعبيرية أبعد بكثير من النص النثري وهذا ما سيحدث حتمًا، ولكن كيف ومتى؟ لا أعلم.
- أخيرًا.. ماذا تنتظر من الشعر؟
• في أحد نصوص المجموعة قلت: "ليسْت لديَّ أمنية قبل الموت، سوى أن أزرع شجرًة تتسلُق البيت، ثم لا تعرف طريق النزول"، وهكذا فأنا أنتظر من الشعر أن يدلَّني على الطريق لتحقيق هذه الأمنية.