تعيدني الذاكرة في التعرف عليه وعلى سجاياه الجميلة الرائعة مُنذ أن كُنا طلاباً يافعين في ثانوية / باجدار لدراسة المرحلة الثانوية في مدينة زنجبار في العام 1975م ، كنا يوم ذاك مجموعة من طلاب أبناء محافظة شبوة ، انتقلنا إلى مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين لاستكمال الدراسة الثانوية فيها ،حيث انتقلنا من إحدى محافظات اليمن الجنوبية البدوية القاسية ، وانتقلنا إلى حاضرة أبين الخضراء الجميلة زنجبار حيث الماء والخُضرة والوجه الحسن ، وكنا نردد كزملاء فيما بيننا بأننا كنا محظوظين حينما اتخذ القرار بمواصلة دراستنا في هذه المدينة الجميلة ذائعة الصيت والشهرة يوم ذاك ، وذات التاريخ والشأن السياسي اللافت في صنع الأحداث الراديكالية في تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، كيف لا وهي المدينة الفضلية الأبينية التي تزخر بالأحداث والمواقف النضالية ، والرموز الثورية  الكفاحية والإبداعية .

فكان اسم الرئيس / سالمين يتردد صداه بقوة وسحر وجاذبية في أرجاء اليمن باعتباره زعيم الكادحين والفقراء والمعوزين، واسم الرفيق/ علي صالح عباد ( مقبل ) باعتباره المنظر الروحي والتنظيمي للتنظيم السياسي للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل من بريطانيا ( العظمي ) ، واسم الأخ / جاعم صالح اليافعي الذي شغل منصب سكرتير أول للتنظيم السياسي للجبهة القومية في محافظة أبين ، وكان الرفيق / محمد علي أحمد العوذلي المحافظ الحديدي الصلب لأبين ، وكان الفنان المثقف الأنيق  / محمد محسن عطروش الذي ملأ سماء وأثير اليمن كلها بالأغاني والأناشيد الوطنية والعاطفية ، وكان الرفيق / ناصر صالح جعسوس يُعدُّ الأب الروحي للشباب اليمني في اليمن الديمقراطية ، والكابتن / فيصل محمد سعيد الحوثري كان يومها قائداً لمنتخب كرة القدم لنادي حسان الشهير بالمحافظة ، هؤلاء الكوكبة اللامعة من الرموز الإنسانية الوطنية اليمنية لهذه المدينة / المحافظة الصاخبة الراقية في أزهى عصرها الذهبي ، قد شكلوا رموزاً وقناديلاً مشعة ومنيرة لمحافظة أبين.

جئنا من محافظة شبوة لنلتقي كشباب متوثب ومتحفز ، منطلقين في الحياة بعنفوانها وحيويتها وتفاؤلها بعالم زنجباري أبيني طلابي جديد مليءٍ برونق الحياة العصرية الزاهية ، مقرونة بالتفاؤل والأمل والحيوية المشرقة.

في هذه الأجواء الطلابية الشبابية التقينا وتعارفنا بزميلنا وصديقنا الفقيد المرحوم السفير الدكتور / خالد راجح ، وكان يوم ذاك يتبوأ منصب قيادي نقابي طلابي في الحركة الطلابية اليمنية في محافظة أبين ، تعارفنا به وكان شديد الاهتمام بنا كوننا ضيوفاً على المدرسة والمدينة ، وكان يُقدم لنا النصائح والتوجيهات اللازمة في كيفية التعامل مع الحياة الطلابية الجديدة في ثانوية زنجبار ، علما بأنها كانت الوحيدة في محافظتي أبين وشبوة معاً.

أتذكر من زملائي في الدفعة القادمة من م/ شبوة ، والبعض منهم لا زالوا  بصحة وعافية ممتازة بإذن الله ، وهم : ـــ

الأستاذ/أحمد سالم الجرباء البابكري ( بروفسور كبير في جامعة عدن ) ، والأستاذ/ أحمد محمد ثابت العولقي ( بروفسور لامع في جامعة شبوة ) ، والأستاذ/ ناصر محسن باعوم الخليفي ( بروفسور في جامعة عدن وقيادي سابق في الدولة اليمنية ) ، والأستاذ/ حسين أحمد لقور بن عيدان الهلالي ( طبيب استشاري يعيش في السعودية ، وهو معارض جنوبي سياسي انفصالي عنيد لم يحقق بعد شيئاً من أحلامه ) ، والأستاذ/ حسين الباكري البيحاني ( طبيب اختصاصي كبير في مجال الأدوية ) ، والأستاذ/ عبدالله حسن بن فهيد ( أخصائي تربوي مرموق ومحترم في مجال التربية والتعليم ) ، والأستاذ/ علي سعيد نصيب ( ضابط أمني كبير وتطور حتى أصبح داعية إسلامي سلفي ) ، والأستاذ/ محمد سالم العاض الهلالي ( خريج جامعي من جمهورية رومانيا ، واستشهد في أحداث 13 يناير الحزينة ) ، والأخ / سالم ناصر النقيب بن فهيد ( كابتن طيار على طائرة الهيلوكبتر العسكرية ) ، والأخ /محمد حسين باعينين بن فهيد ( تخرج من ألمانيا ، واستشهد في أحداث 13 يناير الحزينة ) ، والأخ / سعيد محمد باعوضه الحِميري ( هاجر إلى إحدي دول الخليج وانقطعت عنا أخباره ) ، وهكذا هي مسيرة الدنيا الطبيعية في هذه الحياة المؤقتة والعابرة  ، تضمنا وتجمعنا صفوف الدراسة بمراحلها المختلفة وتفرقنا دروب الحياة العملية الوعرة.

جميع هؤلاء الزملاء أعلاه قد احتفظوا بعلاقات أخوية زمالية طيبة مع فقيدنا العزيز الدكتور / خالد راجح اليافعي حتى آخر حياته الزاخرة بالعطاء والنجاحات المهنية القيادية.

بعد الانتهاء من دراسة المرحلة الثانوية اتجه كل واحد منا في تلك الدروب التي تؤدي به إلى تحقيق أحلامه ورغباته وطموحاته في هذه الحياة ، فقد اتجه زميلنا الفقيد للدراسة خارج الوطن تحديداً إلى  جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية واستمر حتى أكمل الدراسة هناك وحصل علي شهادة الدكتوراه العليا في تخصص الاقتصاد ، وأعد وأنجز في اختصاصه مجموعة وازنة من الأبحاث العلمية والكتب الاختصاصية التي تزين عدداً من المكتبات اليمنية والعربية.

لقد أبدع كثيرا في عمله القيادي كوزير للتجارة والصناعة في حكومة الأستاذ / عبدالقادر باجمال وطوّر من آليات عمل الوزارة متكئاً علي دراساته البحثية الجادة ، وأبدع كذلك في مهمته القيادية كسفير في دولة الكويت الشقيقة في حكومة البروفسور / علي محمد مجور ، وطور يوم ذاك علاقات بلدينا الجمهورية اليمنية ودولة الكويت.

وأتذكر أنني في إحدى زياراتي الأكاديمية لدولة الكويت الشقيقة وكان حينها يشغل منصب سفير بلادنا هناك ، قد قام بمهامه البروتوكولية الدبلوماسية بنجاح لافت ، و أظهر مهارات نوعية وكفاءات عاليه أثناء الزيارة ، في سير المحادثات والتوقيع على الاتفاقيات الأكاديمية والعلمية والثقافية مع المؤسسات ذات العلاقة.

واختتم حياته الزاخرة بالنشاط والعطاء والمثابرة في أن يعمل كخبيرٍ دولي في صندوق النقد العربي ومقره دولة الكويت .

ماهي الخصال الحميدة التي يتميز بها صديقنا الفقيد السفير الدكتور / خالد الذكر والمروءة والقيم الإنسانية السامية :  ـــ

 

أولاً :

مَن تعايش وعرف صديقنا الفقيد/ خالد سيلمس عن قرب ، وسيعرف حجم اهتمامه الشديد بالعلاقات الأخوية والزمالات الرفاقية مع زملاء الدراسة وزملاء العمل السابقين ، ويحترم كثيراً العشرة السابقة ويحافظ عليها وعلى تلك العلاقات السابقة من أي موقع قيادي كان يشغله ، وأنه قد ساهم كثيراً في دعم أصدقائه وزملائه بما تمكنه ظروفه وإمكاناته ، وهذه ميزة من أهم مميزاته ، وهي نادرة الحدوث في أيامنا هذه.

 

ثانياً :

يتصف صديقي/  خالد بن راجح بصفة التسامح الجم والذي يفتقده الكثيرون ، وبحكم ما حدث من صراعات سياسية وحزبية ومناطقية وقبلية بين منطقته يافع وعدد من المناطق الأخرى في جنوب الوطن ، تجده يبحث دائماً عن قواسم مشتركة مع الغير للحث والعمل علي تجاوز سنوات الكراهية المناطقية التي حدثت وربما لازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا ، فبحكم قربنا وزمالتنا كنت أحس وألمس حجم التسامح الذي كان يشغل ذهنه ونفسيته وطبيعته الإيجابية جداً تجاه خصومه السابقين.

وما أكثر الحوادث الدموية المرعبة التي حدثت في جنوب الوطن من ظواهر الكراهية والبغضاء والقتل بالبطاقة والهوية الشخصية بين الإخوة الأعداء.

 

ثالثاً :

امتاز صديقي /  الخالد بالقراءة الدائمة وتطوير الذات ، وتحدثنا وإياه كثيراً في شؤون الثقافة والمثقفين ومستوى التطور أو التأثر أو التأخر في هذا المجال ، فهو مثقف نوعي مطلع وسياسي ذكي ورجل حوار ماهر.

 

رابعاً :

كان شغوفاً بالحوارات  السياسية والفكرية والثقافية العامة والشاملة ، ولديه عمق وغزارة في مفاهيم الفكر السياسي ، وكان في جميع حواراته يحترم كثيراً الرأي والرأي الآخر ، مع أننا تتلمذنا - أنا وهو - على التربية الحزبية أحادية الفكرة ، وشمولية الموقف من الآخر ، وهي طبيعة التربية الثقافية الحزبية الاشتراكية التوتاليتارية ، ومع ذلك فصديقي/  خالد تميّز عن الآخرين بروحه الإيجابية القابلة للغير في الفكر والثقافة والأيديولوجيا .

خامساً :

عُرف عن الدكتور/ خالد راجح مثابرته في تطوير قدراته الوظيفية والمهنية والثقافية والنظرية من خلال الاطلاع على آخر الأفكار والكتابات والأبحاث النظرية الإدارية والاقتصادية والفكرية ، وتطوير قدراته تعتمد على الاطلاع على آخر العلوم والمعارف والخبرات في مجال اختصاصه.

 

 

سادساً :

 

له موقف ايجابي ثابت من الصراعات الحزبية السلبية التي دارت في جنوب اليمن ونتائجها في المؤسسات السياسية والحزبية والإدارية ، وذلك الموقف له أثر ايجابي جداً على جميع الزملاء المتخاصمين حد العداوة المقيتة.

 

سابعاً :

كان صديقي السفير الدكتور / خالد راجح شيخ اليافعي محباً للثقافة والمثقفين من جميع الشرائح الاجتماعية ومن جميع محافظات اليمن بشطريها ، وكارهاً بوضوحٍ لجميع الشلل المناطقية والانفصالية والقروية المريضة ، وللعلم فإن ظاهرة المناطقية القروية التي تستلهم تغذيتها من قِبَل عدد من مطابخ في قيادة المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني للأسف يوم كان قابضاً بكلتا يديه وأسنانه ونواجذه على تلابيب ومفاصل سُلطة ( العمال والفلاحين والبروليتاريا الرثة ) في جنوب الوطن قبل تحقيق الوحدة اليمنية المباركة.

 

الخلاصة :

 

لقد خسرت الجمهورية اليمنية كادراً قيادياً سياسياً مثقفاً موهوباً في وقت احتياجنا الشديد له ونحن نعيش الفصول الأخيرة لحرب العدوان الأَعْراَبِي الرجعي وحصاره علي اليمن السعيد ، وخسرت أنا شخصياً صديقاً صدوقاً جمعتنا وأياه زمالة مراحل الدراسة والعمل معاً في إطار أجهزة الدولة اليمنية القيادية ، تقبل الله روح ابن راجح بواسع الرحمة والمغفرة وقبوله مع الصديقين والشهداء الأبرار ، وألهم الله أهله وذويه وأصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

وفوق كل ذي علم عليم

 

*رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في الجمهورية اليمنية/ صنعاء

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: محافظة أبین فی جنوب فی هذه

إقرأ أيضاً:

الحاج عبد الله السودانية.. عودة حزينة إلى منازل سُرقت منها الحياة

تعود الحياة ببطء إلى مدينة الحاج عبد الله في ولاية الجزيرة وسط السودان، لكنها عودة مثقلة بالألم والحسرة، فالعائدون من النزوح يجدون أنفسهم أمام مشهد قاتم من الدمار والخراب، إذ تحولت منازلهم إلى أطلال وذكريات.

"البيت مخيف"، بهاتين الكلمتين يصف محمد سعيد مشاعره المختلطة عند رؤية منزله، ويروي محمد كيف وجده منهوبا، حتى وثائق زواجه وصور أولاده لم تسلم من السرقة.

وبحسب تقرير لمراسل الجزيرة الطاهر المرضي، فإن آثار الدمار امتدت لتشمل كامل النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة.

فسوق الحاج عبد الله -الذي كان يوما شريان الحياة الاقتصادية في المنطقة- أصبح اليوم ساحة مهجورة يسكنها الفراغ والغبار، وامتد الخراب ليطال جميع الوحدات الإدارية السبع في الولاية، مخلفا وراءه أثرا عميقا على حياة السكان.

وفي محاولة لاستعادة النظام، تسعى الشرطة المحلية إلى جمع المسروقات المبعثرة وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين، لكن حجم المأساة يتجاوز هذه الجهود المتواضعة.

فالمؤسسات الحيوية في المدينة تحولت إلى هياكل بلا روح، المستشفى أصبح مبنى مهجورا بلا معدات طبية أو أجهزة منقذة للحياة، والمحكمة التي كانت رمزا للنظام والقانون صارت مجرد أطلال تتناثر فيها أوراق القضايا التي لم يحسم مصيرها بعد.

إعلان

بوادر أمل

يحيى -وهو أحد العائدين- يقف أمام ما كان يوما منزله، محاولا استحضار ذكريات السعادة العائلية التي عاشها فيه "لا زلت أتذكر ضحكات البنات في هذه الغرفة"، ويقول بحسرة "20 سنة من العمل والبناء تبخرت في لحظة".

هذه المشاعر المؤلمة تتكرر في قصص العديد من العائدين الذين يجدون أنفسهم أمام تحدي إعادة بناء حياتهم من الصفر.

ورغم المشهد القاتم فإن بوادر أمل خجولة تظهر مع عودة السكان التدريجية إلى مدينتهم "الحمد لله بدأت العودة"، يقول أحد المسؤولين المحليين، لكنه يضيف بأسى أن "الناس رجعوا ليجدوا بيوتهم منهوبة، يجب أن نبدأ من الصفر".

وبينما تستمر عملية العودة يبقى السؤال الأكبر معلقا: كيف يمكن إعادة بناء مجتمع تعرّض لمثل هذا الدمار الشامل؟ العائدون إلى مدينة الحاج عبد الله يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة تحدٍ مزدوج: إعادة بناء منازلهم المادية، وترميم النسيج الاجتماعي والنفسي لمجتمعهم المنكوب، وفي خضم هذه المأساة تبقى قصصهم شاهدا حيا على تكلفة الحرب الباهظة على المدنيين الأبرياء.

وكان الجيش السوداني أعلن في 8 يناير/كانون الثاني الماضي سيطرته على مناطق جنوب وغرب ولاية الجزيرة بعد هجوم واسع على مواقع وارتكازات للدعم السريع ليسترد منطقة الحاج عبد الله.

يذكر أن قوات الدعم السريع سيطرت في ديسمبر/كانون الأول 2023 على أجزاء كبيرة من الولاية، بما فيها مدينة ود مدني، وأدى ذلك إلى نزوح عشرات الآلاف باتجاه القضارف.

مقالات مشابهة

  • لمن تهدي مشاعرك؟!
  • في لقاء مع السفير الأمريكي.. البركاني يطالب واشنطن تغيير طريقة تعاطيها مع قضية اليمن
  • اليافعي يلتقي رئيس المركز اليمني للمخطوطات وإحياء التراث
  • الحاج عبد الله السودانية.. عودة حزينة إلى منازل سُرقت منها الحياة
  • أسرة سامي عبدالعزيز: لا جنازة ولا عزاء على روح الفقيد
  • 165 معلم متقدم للعمل رئيس لجنة ومراقب أول بامتحانات الثانوية العامة 2025 بالفيوم
  • الأهلي بطلًا للبطولة.. اختتام بطولة الفقيد القاضي التنشيطية لأندية تعز لكرة القدم
  • خلال استقباله السفير الفرنسي في العراق .. وزير العدل د. خالد شواني يناقش استكمال إجراءات توقيع مذكرة تفاهم في المجالات العدلية والقانونية
  • لهذا السبب.. الحوثي يزور الحدود اليمنية السعودية
  • السوشيال ميديا كلها حزينة عليه.. من هو محمد طارق زوج الميكب أرتيست نورا بلال؟