الجزيرة:
2025-01-24@23:18:27 GMT

ربيع دمشق.. العقد الضائع الذي سبق الثورة السورية

تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT

ربيع دمشق.. العقد الضائع الذي سبق الثورة السورية

بدأ ما يعرف بـ"ربيع دمشق" بعد وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وتسلم ابنه بشار الأسد مقاليد الحكم منتصف يوليو/تموز 2000، وشهدت سوريا بعضا من "التحرر السياسي"، وعلت أصوات كثيرة مطالبة بإصلاحات قضائية وقانونية واقتصادية، وشكّل ذلك بداية "صحوة سياسية" في البلاد، لكنها قوبلت من النظام السوري بسلسلة اعتقالات وحملة قمع استهدفت كثيرين من رموز هذا الحراك، ويعتبر المتتبعون أن ذلك كان من المقدمات التي قادت إلى إشعال فتيل الثورة السورية عام 2011.

ومنذ بداية "ربيع دمشق" وحتى فبراير/شباط 2001 شهدت سوريا تغيرات نسبية، مع وجود منسوب من حرية التعبير وإنشاء منتديات سياسية غير رسمية، لكنها ما لبثت أن أغلقت بعد توقيف 10 معارضين للنظام، فانتهى "الربيع" خلال 7 أشهر، ووصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تلك الفترة وما لحقها بـ"العقد الضائع".

بداية الربيع و"بيان الـ99″

ساهمت كلمة بشار الأسد التي ألقاها فور تقلده الرئاسة بنشر أمل في أوساط المعارضة بإمكانية تحسين أوضاع البلاد التي ورثها عن أبيه في بلد نظامه السياسي جمهوري برلماني، إذ قال إن "الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقا لنا".

بعد هذا الخطاب نشر رياض الترك مقالات عدة كتب في واحد منها "من غير الممكن أن تظل سوريا مملكة الصمت"، وأرسل المفكر السوري أنطون مقدسي إلى بشار عبر صحيفة الحياة في أغسطس/آب 2000 تهنئة له بتوليه الرئاسة وتذكيرا له بما قاله في خطابه عن احترام الرأي الآخر وإعلاء مفهوم الدولة على الزعامة.

ومما ذكره في رسالته "سيدي، اسمح لي أن أهنئك بالرئاسة الأولى، وأيضا بكلمات وردت في بيانك، حقا واعدة (..) إنها بداية لدرب طويل إذا سلكناه يمكن أن ننتقل تدريجيا من البداوة والحكم العشائري إلى حكم القانون"، لكنه وبسبب هذه الرسالة أقيل من وظيفته التي شغلها منذ ستينيات القرن الـ20 في وزارة الثقافة.

ومن ثم بدأت جماعة من المفكرين والمثقفين السوريين بالاجتماع وتدارس أوضاع البلاد، وممن بدأ على أيديهم "ربيع دمشق" الصحفي ميشيل كيلو والسياسي رياض سيف الذي أنشأ في منزله "منتدى الحوار الوطني".

وانتشرت منتديات (صالونات) سياسية غير رسمية عقدت لفتح النقاش بشأن القضايا السياسية في البلاد وقضايا المجتمع المدني والإصلاحات حتى قيل إنه لم تبق بلدة ولا حي إلا ونادى مثقفوها بإنشاء منتدى، وأشيع أن عددها وصل نحو 170.

ومن أبرزها منتدى "جمال الأتاسي" وأنشأته سهير الأتاسي على اسم والدها المعارض، ومن داخل هذه الصالونات ظهرت المطالب بإصلاح سياسي وقضائي.

بشار الأسد (يسار) يتسلم من رئيس البرلمان عبد القادر قدورة موافقة البرلمان على ترشيحه للرئاسة عام 2000 (غيتي)

وقد قال المدير السابق للأمن الداخلي بهجت سليمان عن هذه المنتديات -التي أشار إلى معرفة الدولة بها وبمحتوياتها- إن "أغلبية ما تسمى منظمات المجتمع المدني ما هي إلا وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية أو مرتبطة بأندية الروتاري التي يتحكم بها اليهود بقصد السيطرة على العالم".

وكانت البداية الرسمية لظهور المطالب بـ"بيان الـ99″ الذي وقعه مثقفون وفنانون يوم 27 سبتمبر/أيلول 2000، أي بعد شهرين من خطاب بشار، وطالبوا فيه بالتعددية السياسية والفكرية، وإطلاق الحريات العامة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء حالة الطوارئ التي أعلنت منذ عام 1963.

تلاه "بيان الـ1000" في يناير/كانون الثاني 2001، وفيه أصر الموقعون على المطالب السابقة، وطالبوا بديمقراطية تعددية حزبية، ورفع حالة الطوارئ المفروضة في البلاد.

وصدر بيان آخر من جماعة من المحامين السوريين طالبوا فيه بمراجعة دستورية شاملة، وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة.

تدابير إصلاحية

لم يعترف النظام بالبيانات رسميا، لكن البلاد بدأت تلاحظ سلسلة تدابير إصلاحية في الأشهر الأولى من تولي بشار سدة الحكم، تلا ذلك إعلان عدد من قرارات العفو وإطلاق سراح المئات من السجناء السياسيين بعد إغلاق سجن المزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.

في تلك الفترة عادت كثير من المنظمات الحقوقية للظهور، وتأسست أخرى بالتوازي مع خطوات الحكومة للإصلاح، ولم تمنع السلطات منظمات المجتمع المدني ولم تقف أمام انتشارها، عكس توجهاتها السابقة أيام حافظ الأسد.

رويدا رويدا بدأت الصحف المؤيدة للنظام بالانتشار والرد على مقالات الصحفيين المعارضين، ولإحكام قبضته سمح للأحزاب الستة المكونة للجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة (يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي) بفتح مكاتب إقليمية وإصدار صحف خاصة بها.

وصرح وزير الإعلام السوري حينها عدنان عمران بأن "دعاة المجتمع المدني استعمار جديد"، وقال عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري آنذاك "لن نسمح بتحويل سوريا إلى جزائر أو يوغسلافيا أخرى".

ميشيل كيلو كان من المعارضين البارزين الذين بدأ ربيع دمشق على أيديهم (رويترز) ربيع لم يكتمل

بدأت الإصلاحات الطفيفة تختفي وباسم الوحدة الوطنية والاستقرار أوقفت حركة المعارضة، وفي فبراير/شباط 2001 أغلقت المنتديات السياسية قسرا فبقي من أصل 70 اثنان فقط، واشترط لفتح واحد منها تصريح رسمي وإجراءات تعسفية شبه مستحيلة، واعتقل رياض سيف ورياض الترك ومأمون الحمصي وعارف دليلة مع آخرين، ووجهت إليهم تهمة "محاولة تغيير الدستور بوسائل غير مشروعة".

وكان سيف قد اعتقل بعد أن نشر دراسة عن "مشروع للهاتف المحمول" في سوريا أشار فيها إلى "ضياع 7 مليارات دولار على الدولة السورية"، فاعتقل حينها وتمت الصفقة وباع بشار الشركتين إلى ابن خاله رامي مخلوف بثمن يعادل 10% من قيمتها الفعلية.

وصرح بشار في منتصف مارس/آذار بأن في سوريا "أسسا لا يمكن المساس بها، قوامها مصالح الشعب وأهدافه الوطنية والقومية والوحدة الوطنية، ونهج القائد الخالد حافظ الأسد والقوات المسلحة".

بدأ النظام السوري سلسلة اعتقالات واسعة طالت معارضين كثرا، وشنت الحكومة حملة قمع ضد الموقعين على البيان، وزادت رقابة الدولة على المواطنين وضيق الجيش الخناق وقمع المعارضين في محاولة لوقف الحراك الشعبي.

وفي منتصف أبريل/نيسان صدرت الوثيقة الثانية "للجان إحياء المجتمع المدني" تحت عنوان "توافقات وطنية عامة"، تلاها بيان جمع 185 مثقفا ومبعدا تضامنوا فيها مع البيانات الصادرة داخل سوريا، وطالبوا بإطلاق الحريات العامة، والسماح بعودة المبعدين.

وردَّ وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس على البيانات قائلا "إننا أصحاب حق، ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها، لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة".

وفي صيف 2002 أطلقت الحكومة حملة إعلامية ركزت على دعاوى إصلاح "الاقتصاد" متجاهلة باقي الزوايا، ورافقت ذلك سلسلة اعتقالات لم تتوقف مع تهديدات بالاعتقال القسري للمعارضين، مما أطفأ "ربيع دمشق" سريعا وخمدت الأصوات وتفككت "حركة المعارضة".

رياض سيف كان يحاول إنشاء حزب إضافة إلى المنتدى الذي أنشأه في منزله واعتقل لنشاطه السياسي المعارض (رويترز) ما بعد الربيع.. إعلان دمشق

يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2005 أطلقت المعارضة السورية "إعلان دمشق"، وهو وثيقة وقعت عليها قوى سياسية وشخصيات مدنية معارضة للنظام، بينها موقعون على البيانين السابقين.

دعت القوى في الإعلان إلى إنهاء حكم الأسد وإقامة نظام ديمقراطي تعددي مع رفع حالة الطوارئ، وإلى "انتقال تدريجي وسلمي إلى الديمقراطية والمساواة بين جميع المواطنين في سوريا علمانية وذات سيادة"، وذلك في أول بيان معارض واضح يستهدف حكم الأسد مباشرة، وبسببه اعتقل كثير منهم مثل سهير الأتاسي ورياض سيف للمرة الثانية.

وشملت قائمة الهيئات الموقعة على البيان التجمع الوطني الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين وجماعات من الأقليات من الأكراد والآشوريين وأفرادا بارزين في حركة "ربيع دمشق".

واجه هذا التكتل المعارض إشكالا في التوفيق بين مطالب اليساريين والعلمانيين والإسلاميين، فاستمرت الانقسامات داخله أواخر عام 2007 حتى انسحبت جماعة الإخوان المسلمين منه لانضمام جبهة الخلاص الوطني بزعامة عبد الحليم خدام الذي انشق عن النظام عام 2006.

وانقسمت المعارضة إلى شقين، الأول حوى الفصائل اليسارية والقومية، والآخر ضم الجناح الإسلامي المعارض وشخصيات من حراك "ربيع دمشق"، منهم رياض سيف ورياض الترك اللذان اعتقلهما النظام بعدها بأسابيع مع 10 آخرين من المؤسسين لإعلان دمشق.

استمرت المعارك على زعامة المعارضة، فشلّ التحالف وتشتت في تحالفات أخرى جديدة، ومن زعاماته من غادرت إلى المنفى، وعام 2009 أعلن عن قياديين جدد في الخارج.

وكان مما نادى به الإعلان إسقاط النظام ورفض الحوار معه والمساواة والحرية، خاصة في ما يخص الأقليات، كما دعا إلى "دولة علمانية تعترف بالإسلام بوصفه العنصر الثقافي الأبرز"، وتحرير هضبة الجولان، وتصحيح العلاقات مع لبنان التي توترت عامها، خاصة مع ثورة الأرز.

استمر النظام في التضييق على المعارضين، ومارس أشكالا كثيرة من القمع بداية من الاعتقالات القسرية والتعسفية والمنع من السفر ومنع المظاهرات، وصولا إلى القتل، فأشعل ذلك أزمة جديدة بداية عام 2011، فبدأت الثورة السورية التي راح ضحيتها أكثر من 230 ألف مدني، بينهم أكثر من 15 ألفا قتلوا تحت التعذيب، إضافة إلى اختفاء واعتقال نحو 155 ألف شخص وتشريد قرابة 14 مليون سوري، حسب ما أعلنته الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات المجتمع المدنی

إقرأ أيضاً:

الغاز يفتك بأجسادهم.. الجزيرة نت تكشف روايات مروعة لمصابي الكيميائي بدمشق

دمشق- في الساعة الثانية والنصف من صباح 21 أغسطس/آب 2012، أطلقت قوات النظام السوري المخلوع الموجودة داخل اللواء 155 بالقلمون مئات الصواريخ من نوع أرض أرض على مناطق في غوطة دمشق، محملة بغاز السارين السام (غاز الأعصاب).

حينها، كان الموت اختناقا بقذيفة الكيمائي نهاية للحدث والخبر، إلا أن قصصا أخرى مرعبة لم ترو بعد مرور أكثر من 12 عاما على الجريمة، فالغاز القاتل الذي تحمله القذيفة المميتة، بعد أن أودى بحياة المئات، مازال حتى الآن يفتك بأجساد الكثيرين من سكان المدن السورية المنكوبة.

البراميل التي كانت تحمل مواد كيميائية واستهدفت منطقة الغوطة عام 2018 (الجزيرة) صواريخ مدمرة

ووثقت الجزيرة نت الأعراض التالية الناتجة عن استنشاق تلك الغازات السامة:

ضعف في النمو. فقدان شبه كامل للعقل. تآكل الأسنان. تساقط الشعر. ضيق التنفس. ألم شديد في العيون. الأمراض النفسية الناجمة عن رؤية الموت وجثث الضحايا من الأهل والأصدقاء والجيران.

تتميز الصواريخ التي تحمل رؤوسا كيميائية، والتي استعملتها قوات النظام المخلوع، بأنها لا تُحدث صوتا بعد انفجارها، ولا تخلف أضرارا على المباني، بل تخنق الأنفاس وتدمر الأعصاب. ومنذ عام 2012، استهدف النظام عددا من المناطق 184 مرة، استخدم فيها السلاح الكيميائي 217 مرة، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

إعلان

تُعتبر مدينة المعضمية الواقعة غربي العاصمة دمشق من أكثر المناطق التي تأثرت بالهجوم الكيميائي، حيث يقول سكانها إن "مجزرة الكيميائي"، التي قتلت المئات من أهلها بصمت وهدوء بارد، ما زالت مشاهدها محفورة في ذاكرتهم وآثارها على أجسادهم، وسط تجاهل حكومي ودولي مخيف، وفق تأكيدهم.

يقول رياض عبد الغني، المسؤول عن إحدى النقاط الطبية في المعضمية أثناء المجزرة، للجزيرة نت "إننا أول وسيلة إعلامية تأتي وتسأل عن حال من أصيبوا فيها خلال وجود نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعد سقوطه"، مؤكدا أن وزارة الصحة في عهده كانت "تتنكر للمصابين بغاز الأعصاب"، ولا تقدم لهم أي خدمات صحية، مما ضاعف من الحالة السيئة التي يعاني منها المئات الآن.

ويضيف "في عهد الأسد كنا لا نستطيع القول إننا مصابون بمضاعفات غاز السارين القاتل رغم الألم المميت"، كاشفا أن كثيرين كانوا يخفون إصابتهم خشية الاعتقال والقتل من قبل مخابرات النظام المخلوع.

وحسب عبد الغني، يعاني كثير من سكان غوطة دمشق الآن من آثار غاز السارين إلا أنهم يخافون الحديث عن أمراضهم لسببين:

الأول: خشية أن يخافهم الناس ويبتعدوا عنهم ويتجنبوا الاختلاط بهم خوفا من العدوى. الثاني: ظنهم أن لا أحد سيهتم بأمرهم "لوجود مسائل أكثر أهمية لدى السلطات الجديدة"، مثل ملف المعتقلين، والاقتصاد المنهار، والبنية التحتية المدمرة.

وطالب وزارة الصحة الحالية بالتدخل السريع لعلاج المصابين من مجزرة الكيميائي حتى لا تتضاعف حالتهم الصحية وتصل لمراحل لا يمكن علاجها، مثل الأطفال الذين أصيبوا بضعف النمو، حيث أثبتت التحاليل أن غاز السارين يعوق التطور الطبيعي في أجزاء مختلفة من الجسم.

مأساة

ضعف النمو وانكماش العضلات أكدته ديبة الدوماني، وهي سيدة من سكان الغوطة الغربية، تحدثت للجزيرة نت عن مأساة حفيدها غياث مطر الذي استلهمت اسمه من أيقونة مدينة درايا المجاورة، والمعروف بأنه بطل المظاهرات السلمية الذي قتله نظام الأسد بطريقة بشعة استنكرتها المنظمات الدولية.

إعلان

أصيب غياث بنقص النمو ورغم أنه يبلغ 13 عاما، فإن عقله وجسده يشيران إلى أنه في الخامسة من عمره بسبب إصابته بغاز السارين، وفق الدوماني.

لم تتمالك الجدة دموعها التي انهمرت على وجنتيها وهي تقول "ذبح نظام الأسد زوجي بالسكين أمام عيني وأهلك حفيدي بمرض عضال، وقال أطباء مختصون إنه فقد عقله ولن يكون قادرا على العيش بشكل طبيعي مثل باقي الأطفال".

التقت الجزيرة نت بطفل آخر قال أهالي المدينة إنه مصاب بالآثار ذاتها التي ظهرت على غياث بعد استنشاق غاز السارين.

عبد الرحمن خالد الواوي يبلغ من العمر 11 عاما، إلا أن شكله وعقله يشيران إلى أنه لا يتجاوز 6 سنوات أو أقل. يقول والده للجزيرة نت إنه يعاني من سوء تغذية وضعف نمو تسببا بانكماش في الجسد وخلل في العقل بسبب استنشاق هذا الغاز السام.

وأوضح الأطباء للوالد أن عبد الرحمن استنشق كمية كبيرة من غاز الأعصاب أنهكت جسده النحيل وتسببت له بمضاعفات خطيرة، وأنه كان يحتاج تدخلا سريعا بعد الإصابة لتخفيف الآثار المدمرة للكيميائي، و"لكن هذا لم يحدث".

كان النظام المخلوع يمنع أي أحد من الحديث عن إصابته بالغاز الفتاك، يؤكد والد عبد الرحمن. وتابع "جسد ولدي يتآكل كل يوم أمام عيني ولم أستطع أخذه إلى المستشفيات أثناء حكم الأسد، وتقبلت إصابته خيرا من فقدانه أو قتله من قبل أعوان النظام في مستشفياته التي كانت تخفي أي دليل على مجزرة الكيميائي التي مازالت آثارها حاضرة حتى اليوم".

بطل المقابر

من جانبه، يملك خالد الهمشري، وهو موظف في بلدية المعضمية، عربة لنقل القمامة يعتبرها جزءا منه، ورفض الحديث مع الجزيرة نت إلا والعربة الخضراء بجانبه مطالبا تصويرها بشكل واضح.

يملك الهمشري ابتسامة مميزة، إلا أن الأسد الذي أخفى ضحكات الآلاف من الشباب في سجونه المخيفة، تسبب بتآكل أسنان خالد. ويقول "ربما خرب الأسد ابتسامتي، ولكنه هرب وأنا مازلت أبتسم".

إعلان

بحسب خالد، تسبب غاز السارين بالتهاب شديد في لثته وأسنانه وتساقط مستمر لشعره. ويضيف ضاحكا "أشعر كل يوم أن شكلي يتغير وشعري يسقط وأسناني أصبحت شبه متآكلة بسبب الكيماوي، ولكن ذلك لا يهم فأنا اليوم حر وأعمل لخدمة أهل منطقتي، فما دامت عربتي الخضراء تعمل فأنا بألف خير".

بحثت الجزيرة نت عن الأشخاص الذين كانوا يسعفون الناس أثناء قصف النظام للغوطة بصواريخ الكيميائي، لتكتشف أن معظمهم قد ماتوا اختناقا لحظيا، أو نتيجة الآثار الفتاكة لغاز السارين بعد يومين أو 3 أيام من وقوع المجزرة.

نجا منهم راتب رجب المعروف بين أهالي المعضمية بـ"بطل المقابر"، وذلك لدفنه أكثر من ألف شهيد في الغوطة الغربية. ويقول للجزيرة نت إن كثيرا من زملائه المسعفين "استشهدوا" على الفور بعد استنشاقهم غاز الأعصاب، و"لم يبق منهم إلا أنا وبعض الشباب".

يصف راتب حالة من تبقى من المسعفين بـ"المأساوية"، إذ يعانون من ضيق في التنفس حتى الآن، وعدم القدرة على التحرك في كثير من الأحيان، وضعف في النظر، وآلام شديدة في العضلات وفي الصدر، وفقدان جزئي للعقل.

وطالب بتدخل الجهات المختصة لعلاج من عاش من أصدقائه المسعفين قائلا "لقد دفنت المئات من الشهداء في مقابر مجهولة الهوية وأخرى معروفة، ولكنني لا أريد أن أدفن أحدا من أصدقائي بعد الآن".

إخفاء الجريمة

بدوره، نجا الشاب أحمد الخطيب من المجزرة، لكنه دفن أباه سعيد وأخاه عمر بعد تعرضهما لموجة كبيرة من غاز السارين نتيجة إصابة مباشرة لصاروخ يحمل رأسا كيميائيا أصاب منزلهم.

يروي أحمد للجزيرة نت مأساة صباح 21 أغسطس/آب 2012، حيث شاهد الجثث وهي تملأ حارته الضيقة المدمرة، وعلى أطرافها جثتا والده وشقيقه.

ويقول "أبي كان بطلا انشق عن النظام المخلوع لخدمة أهالي مدينته، ليقتله بصاروخ كيماوي دمر رئتيه وأخرج الزبد من فمه، وارتقى شهيدا مع الذين استشهدوا وكتب استشهاده قصة رجل رفض الذل ومات حرا بين أهله وناسه".

إعلان

حاولت الجزيرة نت التواصل مع وزارة الصحة الجديدة لمعرفة خططهم بشأن ملف المصابين بمجزرة الكيميائي، لكن لم تتلق إجابة واضحة. ورفض بعض الأطباء في المستشفيات الكبيرة بدمشق الحديث عن الأمر، قائلين إنه "حساس للغاية ويتطلب موافقة مباشرة لكشف تفاصيله".

يقول طبيب دمشقي يعمل ضمن الإدارة السورية الجديدة، رفض الكشف عن اسمه، للجزيرة نت إنه كان يعمل في مستشفى "المجتهد" أكبر مشافي دمشق وأهمها أثناء حدوث المجزرة المروعة.

وأوضح أنه عندما وقعت مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق، جاءهم توجيه من جهات عليا بعدم التعامل مع أي حالة مصابة بغاز السارين، وطُلب منهم الإبلاغ عن أي شخص يأتي للمستشفى بغض النظر عن جنسه وعمره يدعي إصابته بهذا الغاز.

ووفق المصدر نفسه، حدثت في مستشفيات عديدة بدمشق عمليات إخفاء لأشخاص قدموا لتلقي العلاج من آثار الكيميائي ولم يُعرف عنهم أي شيء بعد اعتقالهم. وأكد أنهم كأطباء يدركون تماما الآثار السلبية التي يتسبب بها غاز السارين، و"لكننا كنا نخاف حتى قول كلمة مجزرة الكيماوي أمام أي أحد خشية الاعتقال".

وخلال عام 2012 وحده، يضيف، أنه وصلتهم عشرات الحالات المصابة بالكيميائي وكانوا يسجلونها حالات اختناق أو ضيق في التنفس أو أي شيء آخر، "المهم ألا تسجَّل أنها مصابة بغاز الأعصاب السام".

وقال إن الحالات المصابة التي وصلتهم في مستشفى "المجتهد" كان معظمها من غوطة دمشق، وكانت حالات شبه ميؤوس منها، و"كنا نقول بين بعضنا: هناك جريمة جديدة مروعة ومتكاملة الأركان تحدث في غوطة دمشق بطلها بشار الأسد المخلوع".

 

مقالات مشابهة

  • ما حقيقة عودة ماهر الأسد إلى سوريا؟
  • انقطاع الإنترنت عن دمشق وريفها واتهامات لفلول النظام
  • من ملتقى المثقفين إلى رمز الثورة.. حكاية مكان شهد تحولات سوريا (صور)
  • وزير الخارجية السوري: إدارة ترامب على تواصل مع القيادة السورية الجديدة
  • وزير الخارجية السوري: نخطط لتفكيك النظام الاشتراكي في بلادنا
  • قرار هام من المصرف المركزي السوري يخص بشار الأسد
  • الغاز يفتك بأجسادهم.. الجزيرة نت تكشف روايات مروعة لمصابي الكيميائي بدمشق
  • الإدارة السورية الجديدة تعتزم خصخصة الموانئ والمصانع 
  • العلاقة الإشكالية بين نظام الأسد في سوريا والمحور الشيعي
  • تدوينة لوزير الخارجية السوري عن الأكراد وتعامل نظام بشار الأسد معهم تثير تفاعلا