الجزيرة:
2025-01-03@08:46:43 GMT

العودة إلى روح القرن التاسع عشر

تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT

العودة إلى روح القرن التاسع عشر

روح القرن التاسع عشر هي روح الهزيمة النفسية والمادية أمام الغرب وقوته وحضارته، هذه الروح عادت لتفرض سلطانها علينا مرتكزة على ما تمثله إسرائيل في الإقليم من تفوق وعدوان. القرن التاسع عشر كان طليعتَه الغزو الفرنسي لمصر، ثم تتابع الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي، ثم كان خاتمتَه تأسيسُ الحركة الصهيونية.

بين الغزوة الفرنسية 1798م والمؤتمر الصهيوني الأول 1897م مائةُ عام بالتمام، هذه الأعوام المائة هي حجر الأساس في تكوين وتشكيل الشرق الأوسط المعاصر، ثم بين المؤتمر الصهيوني الأول 1897م، وصدور وعد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين 1917م، عشرون عامًا بالتمام، ثم بين وعد بلفور، وقرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود 1947م عشرون عامًا بالتمام، ثم بين هزيمة العرب أمام العصابات الصهيونية 1948م، ثم هزيمتهم القاصمة مرة ثانية 1967م، عشرون عامًا بالتمام.

حروب بلا خطط

وبين وعد بلفور نوفمبر/تشرين الثاني 1917م، وزيارة الرئيس السادات للقدس في التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1977م سبعون عامًا بالتمام، وبين آخر حروب العرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973م، وآخر أيام المقاومة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م، خمسون عامًا، ذهبت بالعرب في طريق مغاير تمامًا للطريق الذي سلكوه في الثلاثين عامًا بين حرب 1948 م، واتفاق كامب ديفيد 1978م. وهنا يلزم الوقوف على عدة ملاحظات:

1- أن حروب العرب مع إسرائيل دامت ثلاثين عامًا، دخلوا أولاها – 1948م – وهم تحت الاستعمار، وبتحريض من الاستعمار، فقد أراد الإنجليز اختلاق قدر من التوازن بين قوتَي العرب واليهود، ثم أرادوا الحد من عنف اليهود، ثم أرادوا الحفاظ على مصالحهم وصورتهم في الشرق الأوسط.

دخلت الجيوش العربية الحرب دون خطة، ودون إعداد، وكانت الجيوش تحت قيادة الجيش الأردني، وكان الجيش الأردني تحت قيادة جنرال بريطاني، العرب لم يكونوا فقط تحت الاستعمار، لكن كذلك دخلوا الحرب تحت قيادة بريطانية تمامًا، مثلما كانت قيادة الجيش المصري تحت قيادة ضباط بريطانيين، حتى توقيع اتفاقية 1936م.

ثم لم يقاتل العرب في حرب 1956م، انسحبت القوات غرب القناة، وكفلت التوازنات الدولية ردع العدوان وانسحاب المعتدين مع كسب إسرائيل حق الملاحة الدولية في خليج العقبة ومضايق تيران. ثم حرب 1967م دخلها العرب – كما اعترف الرئيس عبدالناصر – بقرارات مبنية على حسابات خاطئة. ثم حرب 1973م وكانت خاتمة الحروب، لم يقصر فيها المقاتل العربي، لكن السياسة كانت تخطط لمسار السلام.

حروب العرب ضد إسرائيل تبدو كما لو كانت زلات أو سقطات أو اندفاعات جبرية أو اضطرارية غير مقصودة لذاتها، حروب – فيما عدا حرب 1973م –  تنقصها روح الحروب وهمتها وعزيمتها، روح فرضتها الظروف العابرة ولم يفرضها تصور قومي أو رؤية وطنية أو دوافع عقائدية، حروب لم يكلف العرب أنفسهم إثبات أو تأكيد أنهم أمة حرب وبأس.

مفارقات تاريخية

2 – مسار السلام استغرق خمسين عامًا، بدأ غريبًا يرفضه أغلب العرب، ثم صار هو الأصل الذي لا يفكر في غيره العرب، هذه هي أخطر خمسين عامًا في تاريخ الشرق الأوسط من 1973- 2023 م، وهي لا تقل في خطورتها عن الخمسين الأولى من تأسيس الصهيونية 1897م إلى تأسيس الدولة اليهودية 1947م.

الخمسون الأولى هي الخمسون الخاصة بالتأسيس الفعلي بالقوة، والخمسون الأخيرة هي الخمسون الخاصة بالاعتراف الطوعي بها. هذا يفسر لك المفارقة التاريخية التي جرت بين التاريخَين الفريدين، بين 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973م، و7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م. في الأول كانت إسرائيل هي الغريبة في الإقليم، في الثاني كانت المقاومة الفلسطينية هي الغريبة في الإقليم من وجهة نظر الحكومات العربية والإسلامية على الأقل.

لقد تمكنت إسرائيل في الخمسين عامًا الأخيرة بما يكفي لتحييد كافة الدول العربية والإسلامية حيادًا مذهلًا ومدهشًا، حيادًا جعل من ضمائر السلطات العربية والإسلامية قطعًا من خشب اصطناعي، أو من بلاستيك ميت لا يهتز ولا يتأثر ولا يتعاطف، وشعبُ فلسطين من أهل غزة يتعرض لمحرقة فظيعة تهلك البشر والشجر والحجر، والعرب والمسلمون بلا أي رد فعل تحسِب له إسرائيل أدنى حساب.

محرقة يخجل منها التاريخ، محرقة تشين كل من شهدها ولم ينكرها، محرقة لن ينجو القرن الحادي والعشرون من لعنتها، هذه الخمسون عامًا 1973- 2023م من خاتمة الحروب حتى الإبادة، أعادت العرب والمسلمين في الشرق الأوسط إلى روح القرن التاسع عشر، روح الخنوع الأصلي الطبيعي في مواجهة الغرب وحضارته وعنفه وغطرسته وقوّته .

صعود وأفول

3 – أن روح القرن التاسع عشر تعود بعيوبها دون مزاياها، فعند نهاية القرن السابع عشر، انكسرت قوة المسلمين العليا على أبواب فيينا 1683م، ثم انكسرت في حروب متلاحقة أمام روسيا، والنمسا، وبولندا، وما عرف باسم العصبة المسيحية المقدسة التي استنزفت قوى العثمانيين فيما يقرب من عشرين عامًا من 1683 م حتى 1699م.

فعند العام 1700م كانت روسيا تبدأ رحلة الصعود الطويل كإمبراطورية أوروبية عظمى، هدفها الرئيسي محو السلطنة العثمانية وطردها من أوروبا المسيحية، وفي العام ذاته كان العثمانيون على إدراك كافٍ أنهم بين خيارين: فإما التحديث وإما الفناء، فإن لم يأتِ الفناء على يد الأعداء، فهو آتٍ بفعل الزمن، فمع مطلع القرن الثامن عشر كانت القوى الأوروبية تتحول إلى إمبراطوريات تطوّق العالم، وكانت الإمبراطورية العثمانية يتقلص ظلها وينسحب من هنا ومن هناك.

بدأ السلطان أحمد الثالث 1673 – 1736م، في مطلع القرن الثامن عشر، مسيرة التحديث، وهي: كيف نأخذ بمصادر القوة التي أخذت بها أوروبا فانتصرت علينا وانهزمنا أمامها، وتكررت المحاولات عند مطلع القرن التاسع عشر مع السلطان سليم الثالث 1761 – 1808م، ثم السلطان محمود الثاني 1785 – 1839. لكنه تحديث متعثر على مدار قرنين كاملين انتهى بالزوال مع مطلع القرن العشرين.

سقوط المراكز السياسية

4 –  لم يقتصر التحديث على مركز الإسلام في إسطنبول، فقد جرت محاولات جادة في مصر محمد علي باشا وذريته من بعده  1805 – 1882م، انتهت بالاحتلال البريطاني، ثم محاولات جادة في تونس الباي محمد صادق 1813م – 1882، والوزير المصلح خير الدين 1820 – 1890م، وقد انتهت بالاحتلال الفرنسي 1881م.

في المراكز الثلاثة: إسطنبول والقاهرة وتونس، جرت محاولات التحديث على النمط الأوروبي في بناء الجيوش والتعليم العسكري والتعليم المدني واستعارة الدساتير والبرلمانات، واستقدام الخبراء الأجانب، وفتح البلاد لتدفق المغامرين الأوروبيين، والاقتراض والاستلاف من بيوت المال والمرابين والتجار الأجانب، حتى تزامن إفلاس إسطنبول والقاهرة وتونس في وقت متزامن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد أعقب الإفلاسَ احتلالُ مصر وتونس في عامين متتاليين، وتأخر احتلال ثم زوال المركز الأخير للإسلام في إسطنبول حتى الحرب العالمية الأولى 1914- 1918م، احتلها الأوروبيون، ثم أزالوها من الوجود بعد ما عمرت الحضارة الإنسانية ما يقرب من سبعة قرون .

5 – قبل مائة عام أو يزيد قليلًا، سقط المركز السياسي الأخير للإسلام السني، وسقطت معه الحضارة الإسلامية ذاتها، وصدر وعد بلفور 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، ووضعت بلاد العرب تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني بموافقة أميركا والعالم الأوروبي، ثم تدفقت قوافل الهجرة اليهودية من أركان العالم إلى فلسطين، ثم نحن اليوم نشهد الإبادة لآخر حصون المقاومة الفلسطينية، مع تهجير جديد لمن يمكن تهجيره، تحت قصف النيران لمن بقي من أهل فلسطين.

هذا هو السياق التاريخي الذي تجري فيه فصول المحارق والمذابح والإبادة الصهيونية – الصليبية في شتاء 2023 – 2024 م. حيث فلسطين لا صديق لها ولا صاحب ولا شقيق ولا حليف، متروكة لإسرائيل تفعل بها ما تشاء، وأهلها متروكون لعدوهم ينكل بهم كيف يشاء، يحدث كل ذلك بينما عواصم العروبة والإسلام ترى فصول الإبادة كأنها لا وجود لها، وكأنها لا تعنيها من قريب أو بعيد .

انهيار فكري وروحي

6 –  عادت إلينا، أو نحن عدنا، إلى روح القرن التاسع عشر، أي سقوط المناعة الذهنية والروحية والفكرية، أي الاستسلام الطوعي للقوة الصهيونية – الصليبية، مع فارق أنه في القرن التاسع عشر، كنا ندرك أن الغرب خطر علينا، وكانت أهداف التحديث آنذاك المقصد منها هو اجتناء مصادر القوة التي نقف بها أمام خطر الغرب.

العثمانيون كانوا على إدراك كافٍ بذلك، محمد علي باشا وذريته كانوا على إدراك كافٍ بذلك، بايات تونس كانوا على وعي كافٍ بذلك، الكل كان لديه إدراك أن الخطر زاحف عليه وواصل إليه، فلا مفر من الاستعداد لمواجهته، لكن روح القرن التاسع عشر التي نعيشها الآن هي التي تذهب بنا طوعًا إلى الانضواء تحت أميركا في سقف العالم، ثم تحت إسرائيل في سقف الإقليم، لحظة متفردة من الهزيمتين: السياسية والحضارية، لحظة عدمية نختار فيها الحياة تحت ظلال العدو، فنفقد الذات والهوية والملامح والوجود، نعيش حالة مشوهة من الخنوثة والتخنث السياسي والحضاري .

7 – في مثل هذا السياق، سياق السقوط في قاع البئر، نفقد التمييز، ونسيء الاختيار، فنضل الطريق، ونتساءل من المسؤول عن حرب الإبادة ضد غزة وأهلها ؟ ثم نجيب بأن المقاومة هي المسؤولة.

هذه – بالضبط – هي روح القرن التاسع عشر، هي روح الهزيمة التي زعمت أن استفزازات المماليك للتجار الفرنسيين في القاهرة، هي السبب في غزو نابليون مصر 1798م وليس أن الفرنسيين منذ فشل حملة لويس التاسع 1250 م لم يتوقفوا عن التفكير في العودة إلى احتلال مصر، وقد ازدهرت الفكرة في عهد لويس الرابع عشر 1638 – 1715م.

كذلك الزعم بأن الثورة العرابية 1881م هي السبب في احتلال بريطانيا، مصرَ، وليس أن بريطانيا حاولت على مدى القرن التاسع عشر كله احتلال مصر. كذلك الزعم بأن إهانة داي الجزائر قنصلَ فرنسا 1827 هي السبب في احتلال فرنسا، الجزائرَ 1830 م وليس أن الجزائر هدفٌ لكافة القوى الأوروبية من مطلع القرن السادس عشر، ولأجل هذا دخلت تحت الحماية العثمانية 1520م.

كذلك القول إن عدم قدرة باي تونس على حماية الحدود مع الجزائر – التي صارت مستعمرة فرنسية – هي السبب في احتلال تونس 1881م، وليس أن فرنسا كانت تخطط لاحتلال تونس مع احتلالها الجزائر قبل ذلك بأكثر من خمسين عامًا .

تزييف الوعي

8 –  في القرن التاسع عشر، وُجد منا وبيننا من استقبل المستعمرين الغازين استقبال الفاتحين، كما وجد من تعاون معهم وعمل تحت قيادتهم وباع نفسه لهم، لكن ذلك كان الاستثناء النادر حتى ولو شغلوا مواقع نفوذ وسلطة مهمة، وكانت الأغلبية تحتفظ بوعي سليم؛ بأن المستعمرين أعداء غاصبون لا حق لهم في بلادنا، ومحال أن يكونوا قد جاؤوا – كما يزعمون – لخيرنا وتقدمنا، هذه الأغلبية سليمة الفطرة مستقيمة الطباع، رغم شيوع الأمية آنذاك، كانت هي وقود حركات المقاومة التي واجهت الاستعمار حين دخل، ثم ناصبته العداء عبر الثورات حين استقر به المقام، ثم جاهدته حتى طردته وظفرت بالحرية والاستقلال.

9 – لكن بعد تدجين الوعي وتزييف الفهم في العقود الخمسة الأخيرة، باتت فكرة المقاومة محل إدانة وتنفير وتحقير، بينما فكرة التطبع والتكيف والتطبيع والتقرب والتحالف مع العدو هي أصل السياسة في العواصم العربية والإسلامية.

هذا الوعي المزيف أخطر على المقاومة الفلسطينية من الإبادة الصهيونية، فلولا استقرار هذا الوعي المدجن وتسلله إلى النفوس وتسربه إلى الضمائر، لولاه، لكان يستحيل على الصهيونية ومعها أميركا وأوروبا، أن تجرؤ على هذه الإبادة على مهل وعلى مرأى من الإنسانية ومسمع، هذا الوعي الزائف – التطبيع خير والمقاومة شر – هو وقود الإبادة الصهيونية، كما هو الحصار الأشد على المقاومة الفلسطينية وعزلها وتجريدها من السند الأخلاقي والمدد المعنوي والعطف الأخوي عربيًا كان أم إسلاميًا .

10 –  بكل يقين إسرائيل انهزمت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، مثلما انهزمت في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973م، وبكل يقين بعد 6 أكتوبر/ تشرين الأول، مصر كانت في حرب مع أميركا وليس إسرائيل فقط، كذلك بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كانت المقاومة ومازالت – حتى تاريخ كتابة هذه السطور – في حرب مع أميركا والغرب وليس إسرائيل.

وكما لم تكن مصر مسؤولة عن حرب أكتوبر/ تشرين الأول الأولى، فإن المقاومة ليست مسؤولة عن حرب أكتوبر/ تشرين الأول الأخيرة.

أما الإبادة بمعنى إخلاء أرض فلسطين التاريخية من كل ما يمكن إخلاؤه من أهلها على مراحل، وحسبما تسمح الظروف، فهذه خُطة قديمة ليست وليدة نصر المقاومة وهزيمة العدو في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات المقاومة الفلسطینیة العربیة والإسلامیة تشرین الأول 2023م الشرق الأوسط هی السبب فی تحت قیادة وعد بلفور ولیس أن

إقرأ أيضاً:

شواطئ.. لماذا تتحارب الأمم؟ (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يتابع ريتشارد نيد ليبو Richard Ned lebow الأستاذ الفخري في النظرية السياسية الدولية في قسم دراسات الحرب في كينجز كوليدج لندن وأستاذ فخري رئاسي في كلية دارتموث، فى كتابه بعنوان (لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل) والذي نقله إلى العربية إيهاب عبد الرحيم على بقوله: إن الطبيعة البشرية وفوضوية النظام الدولي يجعلان من الحرب ظاهرة متكررة، تعمل فوضوية النظام الدولي على تشجيع الأقوياء على "أن يفعلوا ما يشاءون"، كما صاغها الأثينيون لأهل جزيرة ميلوس Melians، في حين أن الضعفاء "يعانون ما لا بد منه".

هناك بطبيعة الحال، ارتباطات مهمة بين الحروب التي تدور بين الدول وتلك التي تنسب داخلها، إذ إن الدوافع نفسها توجه المشاركين فيها في كثير من الأحيان، كما تؤدى النزاعات الأهلية في بعض الأحيان إلى إثارة الحروب بين الدول، والعكس صحيح. يميز القانون الدولي بين الحرب الأهلية التي تدور رحاها بين طرفين من دولة واحدة، والحرب بين الدول، التي يصفها القانون بأنها منازعة مفتوحة ومعلنة بين دولتين مستقلتين، والتي تشنها حكومتاهما. يتسم هذا التعريف بأنه معقول، لكنه ليس مناسبًا تمامًا لأنه لا يشمل الصراعات التي لا يوحد فيها إعلان رسمي للحرب.   

يمثل العنف الذي تمارسه جماعة ما ضد أخرى ممارسة موجودة منذ قديم الأزل. يمكن تمييز الحرب عن العنف بأهدافها السياسية ومفاهيم الأطراف المشاركة فيها حول طبيعتها الخاصة. وأصبحت الحرب الحديثة ممارسة اجتماعية متزايدة التعقيد، التي كانت تقوم على مفهوم الدولة: وحدة سياسية ذات سيادة تمتلك شبه احتكار لاستخدام القوة على أراضيها. وقد تطورت أهداف الحرب على مر القرون. ورغم أننا لا نعرف إلا القليل عن "الحرب" في عصور ما قبل التاريخ، لكننا نستطيع أن نفترض على نحو معقول أنها نشأت عن صراعات على النساء، وآبار السقي، وأراضي الصيد، والأراضي التي اعتبرت ذات قيمة لأسباب دينية أو اقتصادية. وفى وقت مبكر، أصبحت الحرب هي الوسيلة الرئيسية التي يسعى من خلالها الشبان ومجتمعاتهم إلى الحصول على الشرف، والهيبة، والمكانة. وتزودنا إلياذة هوميروس Homer بتحليل متعمق لمجتمع أرستقراطي في العصر البرونزي، الذي كانت فيه الحرب وسيلة للانتقام، وأداة لاكتساب الشرف. وبالنسبة إلى اليونانيين والطروادتين Trojans على حد سواء، لم يكن هناك أي تمييز بين الملك والدولة، أو بين المنازعات الخاصة والعامة. ومع تطور"المدينة" polis، والدول لاحقا، وقد حدث تحول مهم آخر نتيجة للقومية، والتجنيد العسكري الإجباري. 

دفعت هذه التطورات ببعض العلماء إلى تفريق الحروب الحديثة عن كل ما سبقها. أن الحروب التي شنت "من أجل شرف شخصي، أو بغرض الانتقام، أو إثراء الملوك والنبلاء، والتي تميزت بها العصور الوسطى استبدلت على نحو متزايد باستخدام القوة كأداة من أدوات السياسة العامة لتحقيق أهداف سياسية". يعكس هذا الادعاء، من دون قصد، نجاح المؤرخين الألمان في القرن التاسع عشر في تطوير خطاب حول السيادة، والذي هدف إلى إضفاء الشرعية على سلطة الحكومة المركزية وعلى مشروع بناء الدولة. ومن المعالم المحورية لهذا الخطاب – وللنماذج الواقعية والعقلانية المعاصرة – نجد تصوير السياسة الخارجية باعتبارها عقلانية من الناحية الاستراتيجية، وأن الهدف منها هو زيادة سلطة الدولة. وفى حين صار الملوك، والنبلاء، والإمبراطوريات الآن مجرد تاريخ، بيد أنهم كانوا مسؤولين في كثير من الأحيان بإشهار سيوفهم لأسباب لا تتعلق كثيرًا بالواقعية السياسية Realpolitik. وطوال القرن العشرين، وصولا إلى القرن الحالي، فإن الشرف، والشعور بالمهانة، والانتقام، والشر المحض كانت – ولاتزال – تمثل دوافع قوية في الشئون الدولية. وفى كثير من الأحيان تخوض الدول حروبا لأسباب لا علاقة لها بالأمن إلا قليل، إن وجد. منذ عصر هيرودوت Herodotus، ظل المؤرخون يكتبون عن الحرب. وكثير من تلك الدراسات متضمنة روايات سردية ضخمة حول صعود وسقوط الإمبراطوريات والدول. 

عند النظر في دوافع الحرب من منظور تاريخي، ينبغي لفت انتباهنا إلى ثلاثة تحولات مهمة في التفكير. يتعلق الأول، بطبيعة الثروة وانعكاساتها على العلاقات بين الدول. حتى مجيء آدم سميث Smith وعلم الاقتصاد الحديث، كان من المعتقد أن ثروات العالم متناهية، مما يجعل العلاقات بين الدول تشبه لعبة صفرية المحصلة، والتي كان يُعتقد فيها أن الزيادة في ثروة إحدى الدول لا بد أن تأتى على حساب الدول الأخرى. وبمجرد أن تعلمت النخب السياسية أنه يمكن زيادة الثروة الإجمالية عن طريق تقسيم العمل واستخدام مصادر الطاقة الميكانيكية واقتصاديات الإنتاج الواسع النطاق، أصبح التعاون الاقتصادي الدولي عمليا، وأصبح ينظر إلية في نهاية المطاف باعتباره وسيلة أخرى لتوليد الثروة. 

بدأ التحول الثاني في التفكير في القرن التاسع عشر، وتسارعت وتيرته خلال القرن العشرين. وهو يتعلق بالسعي الجمعي مقابل الذاتي إلى تحقيق الأمن. لطالما ظلت التحالفات، سواء الرسمية أو غير الرسمية، جزءا من ممارسات السياسة الخارجية، لكنها اتخذت معنى جديدًا في مؤتمر فيينا. سعى المنتصرون في الحروب النابليونية إلى العمل بشكل جماعي للحفاظ على الوضع القائم بعد الحرب، وبالتالي الحيلولة دون اندلاع الثورات والحروب بين الدول من جديد. 

أما ثالث التحولات في التفكير، وأحدثها، فيتعلق بطبيعة المكانة في الشؤون الدولية. منذ ظهور النظام الدولي الحديث، سعت القوى العظمى دائما إلى الحفاظ على السيطرة على المكانة، وعلى الوسائل التي يتم من خلالها تعريفها، وتحديد الجهات المسموح لها بالتنافس عليها. وطوال هذه الفترة، ظلت القوة العسكرية والنجاح في استخدامها الوسيلة الرئيسية للدول لكسب المكانة والاعتراف بها كقوى عظمى.  

وللحديث بقية   

مقالات مشابهة

  • مالية كوردستان تعلن جدول رواتب الموظفين لشهر تشرين الثاني
  • العملة الخضراء ترتفع واليورو عند أدنى مستوى منذ تشرين الثاني 2022
  • كأس العرب قطر 2025: المنتخب المغربي سيشارك في الغالب بالفريق الرديف بسبب تزامن المسابقة مع نهائيات كأس إفريقيا
  • نيويورك نيكس.. «الاستعراض التاسع»
  • العراق ضمن المجموعة الرابعة لبطولة كأس العرب لكرة القدم
  • الأخضر الأول في أفريقيا .. مصر تشغل مطار برج العرب الصديق للبيئة تجريبيا |صور
  • المبالغ وصلت.. موعد نهائي لصرف رواتب موظفي كردستان لشهر تشرين الثاني
  • حدث القرن | هذا موعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. تفاصيل
  • المغرب.. ارتفاع العجز التجاري 6.5% من كانون الثاني إلى تشرين الثاني
  • شواطئ.. لماذا تتحارب الأمم؟ (2)