ما تزال قضية فلسطين عندنا حقاً مضاعاً لا نعززه بمعرفة به من فوق علم دقيق بمن أضاعه. لن تجد “الجزيرة” أو “الحدث” تنتحي في سيل أخبارها بمختص بالتاريخ والثقافة ليلقي الضوء على قضايا تثيرها الحرب من جديد فوق نار شعواء. وددت طوال تتبعي للمعارك وخبرائها و”المعلقين على الأنباء” أن تأتي هذه القنوات بمن يناقش موضوع العداء للسامية الذي يقرض الآن في قماشة الديمقراطية الامريكية كما لم تُقرض منذ المكارثية.
في معرض نعيي للبروفسير إدوارد سعيد في 2003 عرضت لمساهمته في “تثقيف” المسألة الفلسطينية وتقعيدها في مخيال الغرب التاريخي والسياسي. فالقضية عنده ليست حقاً أندلسياً سليباً آخر. هي الغرب بطريقة أخرى.
قال الشيخ محمد فضل الله إننا لم نعلم عن اسرائيل كثير شيء على أننا لم نعرف سواها لنصف قرن من الزمان. فقد أعمانا حقنا الصريح في فلسطين عن الإحاطة الدقيقة بهذا العدو اللئيم. فالحق عندنا يعلو ولا يعلى عليه وما ضاع حق وراؤه مطالب. ولكن سيبقى السؤال إن كنا قد تصفحنا أوراق حقنا هذا لا كعقيدة وطنية وقومية ودينية مجردة، بل كثقافة نسربها الي العالم فيصبح حقنا جزءاً من وعي العالم بذاته ومن احترامه لآدميته وغضبته للحق.
ولذا قال المرحوم إدوارد سعيد إن فلسطين هي قضية العالم. ولم تكن هذه القضية في أحسن حالاتها نبلاً ومصداقية مثل يوم أجازت الأمم المتحدة قراراً أدخل الصهيونية في العقائد المعادية للجنس البشري. مثلها مثل النازية ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ثم انحدرنا تدريجياً من هذه القمة إلى سفح انكمشت فيه القضية الي حجم عربي أو فدائي بالأحرى لا صدى مذكوراً له في جنبات العالم.
من المعلوم أن فلسطين شاغل عربي محرج وقديم. ولكني لا اعرف إن كنا جعلناها محوراً للتعليم المدرسي أو العام عندنا. وهو تعليم يتجاوز إلحاحنا على حقنا فيها لمعرفة أدق بالعالم الذي تمخض عن إسرائيل فولد مصيبة.
اقتحمتني هذه الأفكار المراجعة وأنا أقرأ كتاب المرحوم إدوارد سعيد “مسألة فلسطين” بعد وفاته في العام الماضي لأول مرة. وتحسرت على تباطؤي في قراءته. فقد قرات له “الاستشراق” و”الإمبريالية والثقافة” وغيرها من الكتب النظرية في وقتها. وقدرت أنني استبعدت كتبه عن فلسطين لأنني ربما اكتفيت بالمعلوم بالضرورة من حقنا المغتصب فيها.
وعلمت من الكتاب بعد قراءته لا عن هذا الحق المغتصب فحسب، بل عن منطقه الغلاب أيضاً الذي إن بلغ العالم بالحكمة والموعظة الحسنة لهدى العالم الي الأقوم. فمن رأي سعيد أن إسرائيل هي من عمل العالم والغرب بالطبع. فهي بالنسبة للغرب استثمار مزدوج. فمن جهة هي استثمار في الماضي في تلك الأرض المقدسة التي لم يهدأ للغرب بال وهي في يد العرب أو المسلمين. وهي من الجهة الأخرى استثمار في المستقبل. فالغرب اراد ان يجعلها وطناً لليهود ممن أخذوا بثقافته ومناهجه حتى تكون منارة غربية ديمقراطية في صحراء العرب المسكونة بالاستبداد الشرقي.
وهنا ينبه سعيد بذكاء إلى “تحالف” عجيب بين الماضي والمستقبل لقتل الحاضر. ففي فلسطين، في قول سعيد، شحنة خيالية وعقائدية غربية ثقيلة حولت فلسطين من حقيقة إلى شبح ومن حضور إلى غياب. فإسرائيل عنده هي تأويل للماضي ورجم بالمستقبل ولم يحفل مهندسوها بالحاضر الفلسطيني. فهي في نظر سعيد التأويل الذي غطى على النص الذي هو الفلسطينيون. وقول سعيد هذا في عمومه معروف لدي معظمنا، ولكن بربك أنظر كيف أحكم سعيد تأطيره بحيث يسوغ لكل ذي نظر وفؤاد.
أعجبني أيضاً قول سعيد إن إسرائيل مستعمرة من نوع جديد. فالمعلوم عن الاستعمار بالضرورة أن الأهالي المستعمرين هم جزء من مشروعه الحضاري المزعوم. فهو يريد أن يأخذ بيدهم في مراقي التحديث والتمدين. خذ مثلاً مشروع الجزيرة. فهو قد قام لخدمة مصلحة إنجليزية معلومة، ولكن السودانيين كانوا مادة مهمة فيه. أما إسرائيل فهي مستعمرة ليس الأهالي (الفلسطينيون) في حسبانها. فليس في مشروعها إدخالهم في أي “حظوة” تمدينية كما قد فعل الإنجليز فينا كما تذيع صفوة البرجوازية الصغيرة.
فهي وطن لليهود، وبس. وقد حال ذلك دونها ودون الاستثمار في مستقبل الأهالي الذين استولت على ديارهم. كان الأوربيون قساة على الأهالي الذين ينكصون عن السير الي المستقبل المرسوم لهم متذرعين بالتراث ومتمسكين بالماضي. أما إسرائيل فتقسو على الفلسطينيين الذين ينقدون مشروعها الذي لا سند له سوي الماضي والحجة الإنجيلية. فهي في الاستعمار لا تشبه إلا روحها.
إن فقد سعيد لفقد والله. فقد خلق الله قلمه الذكي لمنعطف الهرج والخنا والتبذل العربي الراهن. وهو منعطف أصبح فيه التهافت على إسرائيل عادة علنية. وأصبح الاصطلاح معها حق شرعي. فأنت تسمع أليس من حقي أن اصطلح إذا اصطلح فلان. ومن يقرأ سعيد يعلم أن خصومة إسرائيل التي تاجها الظفر، باسم الله، لم تبدأ بعد.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: إدوارد سعید
إقرأ أيضاً:
سعيد باللقاء.. بوتين ينظر بإيجابية الى مباحثاته مع ترامب بالرياض
رحب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستئناف الحوار الروسي الأمريكي المرتقب في الرياض، وقال إنه ينظر إليها بإيجابية، مرحبا بحقيقة أن هناك نتيجة جيدة.
وتابع: سأكون سعيدا بلقاء دونالد ترامب، وأعتقد أنه سيكون سعيدًا أيضًا، لكني لا أستطيع تحديد متى يمكن تنظيم مثل هذا الاجتماع.
أخبار متعلقة أمريكا.. مقتل شخصين على الأقل في تصادم طائرتين بأريزونا"ديكتاتور بدون انتخابات".. ترامب يفتح النار على زيلينسكيوالتقى وزيرا الخارجية الروسي سيرجي لافروف والأمريكي ماركو روبيو يوم الثلاثاء في المملكة السعودية، في أول لقاء على هذا المستوى منذ بدء الحرب الغزو في فبراير 2022.
وفي حديثه للتليفزيون الروسي، قال بوتين إنه قيم بشكل إيجابي هذه المناقشات، مرحبا بهاكخطوة أولى.
وأضاف: من دون تعزيز الثقة بين روسيا والولايات المتحدة، يستحيل حلّ مشكلات عدة، بما في ذلك الأزمة الأوكرانية.استئناف العمل الدبلوماسي الطبيعيوقال الرئيس الروسي: اتفقنا على استئناف العمل الدبلوماسي الطبيعي، لقد خطونا بالخطوة الأولى لاستئناف العمل في مجالات مختلفة.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } بوتين ينظر بإيجابية الى مباحثاته مع ترامب بالرياض - أ ف ب
وأضاف: هدف وموضوع مفاوضاتنا كان استعادة العلاقات الروسية الأمريكية، وتعزيز الثقة بين روسيا والولايات المتحدة.
وأشار إلى أن بلاده لم ترفض قط التفاوض مع أوكرانيا، وتابع: شركاؤنا في هذه المفاوضات هم الذين رفضوا، الأوروبيون أوقفوا كل الاتصالات مع روسيا، والجانب الأوكراني رفض التفاوض".
وشدد على أنه لا أحد يستبعد أوكرانيا من هذه العملية.