اجـتـماعـيـات النـظـام الأهـلي
تاريخ النشر: 28th, March 2024 GMT
لماذا يبدو المجال السياسي العربي المعاصر مجالا مزيجا من الحداثة والتـقليد على نحو يوحي وكأنه تركيب مهجن من مادتين متجافيتين؟ هل أسباب ذلك كامنة في السياسة، أي فيه هو كمجال، بحيث يـعْـزى ذلك التـركيب إلى بط ما في وتيرة التحديث، مثلا أو إلى نقص في الإرادة السياسيـة: إرادة الذهـاب بذلك التحديث إلى منتهاه؟ بعبارة أخرى؛ هل مكْـمن المعضلة في نظـام السياسة، حصْرا، أم في حيـزات اجتماعيـة أخرى تحتاج إلى معالجة عميقة تفضي إلى تحرير السياسي من عـوائقه الكابحة؟
مبْنى هذه الأسئلة على فرضيـة تأسيسيـة منها تنطلق مقاربـتنا للموضوع، ومفادها أن السياسي واحـد من مباني الاجتماع لا تـتقـرر هيأته ويستقيم على حال منه إلا بأثـر من محددات أخرى تقع خارجه، لن نعيد هنا ما درج على قوله، والعمل به، في التحليل الماركسي من إيلا مبدأ تحديد الاقتصادي للسياسي الأولوية القصوى في التحليل، بالنظر إلى أهميـة أدواره الحاسمة وبالنظر إلى مركزيـة أثره في نشو ظواهر السياسة ومؤسساتها؛ فلقد أصبح ذلك معلوما في الدراسات الاجتماعية والسياسية حتى تلك التي ينجزها باحثون لا ينتمون إلى هذه المدرسة، وإنما سنشير إلى محدد ثانٍ - ليس بعيدا تماما عن الأول - يتعلق بـ اجتماعيـات السياسة والسياسي.
نعرف، على التحقيق، أن أظْهر سمة للمجتمع الحديث هي النشاط العالي لفاعلية الإدماج والصهر الاجتماعيين فيه؛ وهي الفاعلية التي تعتمل بيسْر كلما استندت إلى فاعلية رديف تجري في الحقل الاقـتصادي هي: الصهر وإلحاق الأطراف بالمركز، وإخضاع العمل الزراعي والتجاري للديناميات الصناعية من أجل توليد مجال اقتصادي مندمج. لذلك كلما تقدمت سيرورة الاندماج الاقتصادي واتسعت نطاقا تقدمت معها، بالتبعة، عملية الانصهار الاجتماعي. على أن هذا قانون سار في المجتمعات التي نجحت العلاقات الرأسمالية فيها في تقويض ما قبلها من علاقات إنتاج سابقة؛ وهذا عين ما يحصل في مجتمعات الغرب والرأسماليات الميتروپـوليـة. أما حيث تكون رأسمالية الهوامش والأطراف عاجزة عن أن تجب ما قبلها من أنظمة إنتاج؛ بل حين يكون في صـلْب بنيان طبيعتها وآلياتها الذاتـية أن تـنْحو نحو الإبقـاء على أنظمة الإنتاج التـقليدية تلك وإعادة إنتاجها، يحصل الافتياق إلى الأسباب التي تفضي إلى الاندماج الاقتصادي الذي به تتـقـدم عملية الانصهار الاجتماعي. هذا ما يفسر لماذا تستـقـيـم عمليـة التكوين الاجتماعي الأفقي والتبنـين الطبقي في مجتمعات الغرب، فيما هي تتعسر في المجتمعات العربية بل تستحيل أحيانا. والفارق بين سمات المجتمع الحديث والمجتمع التـقليدي ليس فقط في أن الانقسامات الاجتماعية تختلف، مبْـنى وفاعلية، في كل منهما فيكون مبناها على الطبقات الاجتماعية في الأول وعلى العصائب الأهلية في الثاني، بل لأن هذا الفارق هو الذي يفسر لماذا يقوم الاجتماع السياسي الحديث هناك، بينما يمتنع عليه القيام هنا؛ إذْ لم تتهيأ لذلك الاجتماع السياسي الحديث الاجتماعيـات المناسبة التي تسمح بقيامه...
لهذا الضعف الشديد في عملية التبنْين الاجتماعي الأفقي أسبابها التي قضت بوجودها، والتي لا تـقْبل ردها إلى العامل الاقتصادي - دائما - حتى مع التسليم بضعْف مفعولية التغيير الذي يحْدثه هذا العامل في بنى الإنتاج، وبما يمكن أن يكون لذلك من أثـر في نوع الهندسة الاجتماعية التي يمكنه أن يوفـر لها مـواردها ومقـدماتها. لعل من بين تلك الأسباب الثـقـل الشديد للمواريث التي من طبيعة اجتماعية- أنثروبـولوجية، ومن طبيعة ثـقافية (أي تتعلق بالذهنيات العامة الموروثة). ما يزال المجتمع العربي، حتى إشعار آخر، مجتمعا عـصبويـا يعيد إنتاج علاقاته الانقسامية الأهلية، وتنتظم جماعاته داخل أطر تضامنية تقليدية، الولاء فيها فرعي ومصروف إلى العصبية. ليس معنى ذلك أنْ لا وجود لطبقات اجتماعية، بالمعنى الحديث، ولا لانقسامات على أساس المصالح الطبقـية، ولا ولاء وطني أعلى من الولاءات الفرعية في هذا المجتمع؛ فلقد توجد هذه جميعها - وهي فعلا موجودة وسارية المفاعيل - ولقد يخْفي طفورها ما يضْمره الاجتماع الأهلي في جوفه من مخبآت، لكنها ما تـفْـتأ تهْـتك سرها فتطفو على السطح ما إنْ يعْرض لذلك الاجتماع السياسي القائم عارض من تأزم يأتي على قواعد توازناته بأسباب الاختلال. حينها، فقط، نكتشف إلى أي حـد هي بنى تقليديـة قوية وراسخة، وإلى أي حـد تـنْشـد إلى روابطها التـقليدية أفعال الناس وأفكارهم وسيكولوجيـتهم الجمعيـة انشدادا يفـقدهم أي صلة حقيقية بروابط الاجتماع المدني الحديث!
نعم، توجد طبقات اجتماعية، ومؤسسات مدنية تضامنية إنتاجية أو مهنية (نقابات وجمعيات وروابط...)، وأحـزاب سياسية... في هذا المجتمع الانـقـسامي غير المنـدمج؛ كما توجد بينها اختلافات أو نزاعات بسبب تبايـن المصالح الاجتماعية والخيارات والاقتناعات والإيديولوجيات. غير أنه، وعلى وجودها، يـظل يخترقها تيار الانقسام الأهلي اختراقا صامتا يكاد أن لا يفصح عن حاله في العادي من الأوضاع، ثم ما يلبث - عند احتدام أي أزمة- أن يطـل برأسه متماديا في تعطيل آليات التكوين المدني الحديث، عائدا بالاجتماع الأهلي إلى كهوفه العصبوية التـقليدية! من البين، إذن، أن اجتماعيات تقليدية من هذا النوع لا يمكنها أن توفر أساسا صالحا لقيام مجال سياسي حديث... ولا لرسوخه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
وزيرة التضامن: صندوق دعم الجمعيات الأهلية سيحقق طفرة كبرى في منظومة العمل الأهلي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ترأست الدكتورة مايا مرسي وزيرة التضامن الاجتماعي الاجتماع الأول لمجلس إدارة صندوق دعم مشروعات الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وذلك عقب تشكيله، حيث عقد الاجتماع بمقر وزارة التضامن الاجتماعي بالعاصمة الإدارية الجديدة.
واستهلت وزيرة التضامن الاجتماعي الاجتماع بالترحيب بالحضور، متمنية لهم التوفيق خلال الفترة المقبلة، مشيرة إلى أن المجتمع المدني أصبح شريكًا أساسيًا في العديد من المهام لتنفيذ استراتيجية التنمية، وتعول عليه الدولة كشريك أساسي للعب هذا الدور، لذلك هناك أهمية كبيرة لهذا الصندوق، وسيسهم في تحقيق طفرة كبرى في منظومة العمل الأهلي في مصر وتقديم الدعم لمؤسساته، مؤكدة على أن للصندوق الشخصية الاعتبارية العامة.
وأوضحت الدكتورة مايا مرسي أن استراتيجية الصندوق تتمثل في إيجاد بيئة ممكنة وداعمة بشكل فعال ومحوكم للعمل الأهلي ليتمكن من المساهمة بفاعلية وكفاءة في تحقيق الأهداف الوطنية للتنمية والعدالة الاجتماعية والمناخية، وكذلك الاستجابة الفعالة للتحديات الإنسانية والإغاثية للمجتمع.
وأشارت وزيرة التضامن الاجتماعي ورئيسة مجلس إدارة الصندوق إلى أن رؤية الصندوق تتمثل في وجود مجتمع مدني مستقل وممكن وقادر على الشراكة الفعالة مع الدولة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما يسعي لتعزيز عمل المجتمع الأهلي وقيم المواطنة الإيجابية من خلال المساهمة في إنشاء نظام بيئي تمكيني وداعم لمؤسسات المجتمع الأهلي.
وشهد الاجتماع استعراض مشروع النظام الأساسي للصندوق التي تتوافق مع قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي الصادر بالقانون رقم 149 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية.
ومن جانبه أكد الدكتور أحمد سعدة، المدير التنفيذي لصندوق دعم مشروعات الجمعيات والمؤسسات الأهلية، أن الصندوق يعمل وفق مبادئ الإدارة بالنتائج، حيث يسعى لتحقيق أهدافه الاستراتيجية من خلال خطط مدروسة ومخرجات واضحة تضمن استدامة الأنشطة التي تقوم بها مؤسسات المجتمع الأهلي المنشأة وفقاً لأحكام القانون، وذلك كله وفق إجراءات واضحة وعادلة تضمن الشفافية وتكافؤ الفرص بين جميع مؤسسات المجتمع الأهلي المتعاملة معه.
كما يلتزم الصندوق بأعلى معايير الشفافية في كافة معاملاته بما في ذلك إعداد ونشر دليل سنوي يشمل بيانات الجمعيات والمؤسسات الأهلية والاتحادات النوعية والإقليمية التابعة لها، بما يتيح للمواطنين فرصاً متكافئة للإسهام والمشاركة في العمل الاجتماعي التطوعي.
وأضاف سعدة أن الصندوق يستهدف تعزيز واستثمار موارده من خلال إقامة مشروعات خدمية وإنتاجية وتنظيم معارض، بما يضمن استمرارية دعمه لأنشطة المجتمع الأهلي، كما يرحب الصندوق بالتعاون مع الجهات التي تمارس أنشطة مماثلة أو تسهم في تحقيق أهدافه، وذلك عقب موافقة مجلس إدارة الصندوق.
وأوضح سعدة أن الصندوق سيتولى مهام الترخيص وتنظيم المسابقات والتوقعات الخاصة بالشركات ومؤسسات المجتمع الأهلي، وذلك وفقا لما تنظمه القوانين واللوائح، وغيرها من الأمور التي تساهم في تنمية موارد الصندوق.
ويشار إلى أن المجلس يضم في عضويته كل من الأستاذ أيمن عبد الموجود مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي لشئون مؤسسات العمل الأهلي،والدكتور محمد العقبي مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للاتصال الاستراتيجي والإعلام،والأستاذ عمرو حسني رئيس الوحدة المركزية للجمعيات والعمل الأهلي، والسيد المستشار جمعة الجنزوري نائب رئيس مجلس الدولة، والدكتور طلعت عبد القوي رئيس الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية وعضو مجلس النواب، والأستاذ الدكتور صفوت النحاس رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة الأسبق ورئيس الاتحاد النوعي لجمعيات التنمية الإدارية.