كان منظرُ تلك النبتة الملتصقة بحواف الجبل مُلفِتًا، تداعبها النسمات الباردة فتحرك أغصانها الصغيرة، وعلى مرأى الشمس الباسمة كان المسير نحوها بخطواتٍ متحفزة تنفض ما علق بالجسد من تَمطٍّ وتثاؤب، وعلى خلاف قريناتها فإن شيئًا يجذبنا نحوها، على الرغم من صغر حجمها وانغراسها وسط تشققات الصخور، وكأنها تلوذ بها من عبث العابثين وأفواه الماشية وهيجان الطبيعة.
ما إن أمسك فؤاد العلوي ببعض أوراقها حتى ضجّ المكان بروائح عطرية آسرة، لوّح بيده لي من بعيد وهو يكرر «ألم أقل لك إن الحياة الحقيقية وسط السهول والبراري لا الأبنية الأسمنتية والأسواق المكتظة»، ظلّت رائحتها تعبق في الفؤاد طويلًا، لم نستطع تبيّن كنهها أو معرفة نوع النبتة، واستمر الرحالة الكويتي يكرر عبارته الشهيرة «الجبل الأخضر أحد بدائع الأرض وعجائب الطبيعة، لكن الناس لا يعلمون».
لم أسر في حياتي في مسيرٍ جبلي «رياضة الهايكنج» إلا في ذلك اليوم الذي ألحَّ عليّ فيه فؤاد كثيرًا، ففكرة قضاء يوم في أحضان الطبيعة لم يبد مألوفًا لي من قبل، ومجرد أن افترشنا الأرض في تلك الليلة، وخلا كلٌ منا إلى خيمته الصغيرة التي لا تتسع إلا لشخصٍ واحد، حتى بدأت رحلة أخرى مدهشة بتفاصيل مدغدغة للمشاعر. الخيم كانت على مقربةٍ من جرفٍ هارٍ على أحد سفوح الجبل الأخضر، عتمة المكان وهدوء الطبيعة وتوقف كل شيء عن الحركة إلا ارتعاشة الأغصان التي تحركها النسمات بين الحين والآخر؛ خلوة لا مثيل لها إلا في أحلام العارفين ومندوحة العاشقين، إضاءة السماء وامتداد النجوم في تشكيلاتها الواسعة فرصة لأن يعيد الإنسان خلق أفكاره وإثارة شجونه وافتعال كل المساحات المتفجرة في الركن القصي للنفس للتساؤل والتصافي ومحاورة الضمير وتوليد الخيال وتغذية مشاعر الأمل والفرح واسترجاع بواقي الذكريات ومحاسبة المواقف، بيدَ أنها حضرة روحية يقطع متعتها انطفاءة العين بسباتٍ وادع، فالنوم سلطان لا تقهره الطبيعة ولا تنتصر عليه الملذات.
الرائحة الزكية التي التصقت بنا من مصافحة تلك النبتة استمرت في العبق، الأنف مُزكم واليد عطرة والقلب مبتسم والصدر ممتلئ والفِكرة جذلى، إذ يكرر فؤاد أن كل شيءٍ في الحياة هو فكرة، وجود تلك النبتة العطرية بمرتفعات الجبل الأخضر فِكرة، وارتباطنا معها فكرة، واعتلاؤها الصخور الصلدة وتسربها بين الشقوق فكرة، تلك الأفكار عندما تتعاظم تتجلى قدرة الخالق في إثارة التناسق المثير للدهشة في عناق الطبيعة لبعضها، ولئن أخذت المادّية اليوم مَأخذها من مزاج الإنسان وسلبته حقه الروحي بمنغصات متطلبات المدنية المرهقة، فإن التجول بين أفياء الجبل الأخضر يعيد للإنسان روحه التي اغتصبتها الحداثة، فمن غير الممكن أن يقول قائل إن روحًا لم تتماهَ بين النبتة والصخور، أو أن تلك الرائحة المتدفقة ليست رسالة سلامٍ منها لكل العابرين، فالطبيعة أم، والأم كما يقال بالدارج الشعبي العربي «تلم» أي تجمع كل مفردات الطبيعة ومكونات الحياة مع بعضها لتجربة لحظاتٍ من الأنس. عندما يفيق المرء من نومه العميق، باستقبال أشعة الشمس التي تبدو هي الأخرى كسلى في يومٍ بارد بمرتفعٍ عالٍ وهي تلقي التحية على المتوجهين بأبصارهم نحوها، وقد قضى ليله كله يراقب حركة الأفلاك تحت سبع سماواتٍ طباق، لترتد إليه بصيرته التي غفت هي الأخرى عن التأمل في الكون، فحرمان النفس من حقها في الاسترخاء التأملي هو جريمة وأي جريمة!
الناس في ممارسة رياضة المسير الجبلي مختلفون، فبعضهم يعتبرها سانحة رياضية، فلا يلتفت لما حوله من مترادفات، فغايته تحقيق هدف الرياضة الأسمى بمقاتلة الشحوم المترهلة والدهون المتراكبة، فلا يأنس بحفيف شجر أو رفرفة طائر أو لذعة نسمة باردة، في حين يعتبر البعض ذلك المسير فرصة للتناغم الروحي واستنطاق الكون والاطمئنان على عاطفته إن كانت على قيد الحياة أو في عِداد الأموات.
في الجبل الأخضر كل شيءٍ يتحرك، حتى الجبال الراسية يخيّل إليك أنها تناجي الله، وتشكو إليه طمع الإنسان، وجشعه باستغلال كل شيء، دون أن تكون له بصمةً فيها، عدا أولئك الفلاحين الذين يحرثون الأرض، وينحتون الجبال، ويشقون الأفلاج لكي تبقى رقعة تلك الأرض خضراء حقًا، فالجبين المتورد بعد جهدٍ عالٍ ليس مجرد عَرقٍ يشي بما بذله من كدحٍ ومشقة، بل هي عزيمةٍ يأبى إلا أن يطاول الجبال شموخًا وكبرياء.
من أراد أن يعيش تجربة مختلفة في استنطاق الطبيعة عليه أن يرافق الرحالة الكويتي فؤاد العلوي في جولاته، إنه يتحدث مع الورد الجبلي تحدث المفتون المأسور، ولكأنه يهمس في أذن الكون أن ثمة حياة فريدة لا وجود لها إلا في الجبل الأخضر، فبرغم براعته في التصوير الفوتوغرافي فهو يقضي وقته في التأمل والاستمتاع، ويندر أن يلتقط إلا صورة واحدة أو اثنتين ليومه كله، ذلك أنه يؤمن أن لسان الطبيعة حريٌ بالإنصات له وعدم الانشغال بالكاميرا، فذاكرة الخيال هي الأكثر تأثيرًا على الفؤاد، ويسهل استحضارها في البال، وما ذاكرة الكاميرا إلا ضيقة وغير مأمونة، ولا تبلغ مبلغها في إذكاء الجمال وصناعة الحبكة الممتعة، فمن فاتته لذة التأمل لن تغنيه صورٌ لا يعود الإنسان إليها إلا فيما ندر، ويندر أن تفارق لحظات التأمل الحقيقية خيال الإنسان أو تغادر فؤاده.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجبل الأخضر کل شیء إلا فی
إقرأ أيضاً:
جودة الحياة والأنشطة الاجتماعية
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
كثيرة هي الدراسات التي تؤكد أهمية النشاطات الاجتماعية على صحة الفرد وعلى استمرار كفاءة قدراته العقلية؛ فهذه الأنشطة الاجتماعية المختلفة لها أثر على الأبعاد العاطفية والنفسية والعقلية على الإنسان، وهي من أهم العوامل المؤثرة.
وفي دراسة بدأت عام 1938 على 268 فردًا، أُجريت في جامعة هارفارد، واستمرت لمدة 80 سنة على من تبقّى من الأفراد، إضافة إلى 1300 فرد من أبناء هؤلاء، لمعرفة كيف تؤثر تجارب الحياة المُبكرة على الحياة والشيخوخة، علمًا بأن عددًا من هؤلاء أصبحوا شخصيات ناجحة ومؤثرة وآخرين أصيبوا بانفصام في الشخصية وبعضهم غدوا مُدمني كحول!
وقد علّق روبرت والدينجر مدير الدراسة وأستاذ الطب النفسي في جامعة هارفارد على نتيجة الدراسة بقوله "النتيجة المدهشة هي أن علاقاتنا الاجتماعية ومدى سعادتنا في تلك العلاقات لها تأثير قوي على صحتنا". وأضاف "إن العناية بجسدك أمر مهم لكن الاهتمام بعلاقاتك الاجتماعية هو شكل من أشكال العناية الذاتية أيضا".
وقد كشفت الدراسة بصورة واضحة لا لبس فيها أنَّ العلاقات الاجتماعية الوثيقة هي التي تجعل الناس سعداء طوال حياتهم أكثر من المال والشهرة؛ فهذه العلاقات تحمي الناس من مُعضلات الحياة وتساعد في تأخير التدهور العقلي والجسدي وهي أفضل وسيلة للتنبؤ بالحياة الطويلة السعيدة من الطبقة الاجتماعية أو معدل الذكاء أو حتى الجينات الوراثية.
وعندما ننظر إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية عمومًا، نلاحظ أنَّ البعد الاجتماعي من أقوى الأبعاد وأكثرها وضوحًا، فإذا كان الاهتمام بجودة الغذاء وممارسة التمارين الرياضية ليستا في سلّم الأولويات عند الكثيرين من أفراد المجتمع، فإن العلاقات الاجتماعية مازالت قوية على الرغم من تراجعها النسبي.
ومن هنا، فمن المهم جدًا المحافظة على هذه العلاقات الاجتماعية، وعدم النظر لها وكأنَّها إرث ثقيل يجب التخلص منه، فنحن وإن كنَّا في زمن العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي إلّا أن محاولة التخلص من العلاقات الاجتماعية أو التقليل من شأنها خطأ كبير سنرتكبه في حق أنفسنا وفي حق مجتمعاتنا، كما تثبته العديد من الدراسات العلمية والتي أشرت إلى أحدها.
وتختلف صور ومظاهر هذه الروابط الاجتماعية، ولربما من أهمها وأكثرها تميزًا في مجتمعاتنا الإسلامية هو الحضور للمسجد والصلاة جماعة، وحضور المحاضرات في المناسبات الدينية المختلفة، لأن كلاهما يتكرران في حياة الفرد المسلم بشكل كبير؛ إذ إن المسلم يعتاد على الحضور للمسجد بصورة دائمة ويستمع إلى المحاضرات بشكل متكرر فخطب الجمعة مثلا يستمع لها بشكل أسبوعي.
إنَّ ما نرغب في التركيز عليه هنا، هو أهمية الاستفادة القصوى من هذه التجمعات المهمة، فمن الخطأ الكبير الذي يقع فيه الكثيرون أنهم يحضرون هذه التجمعات دون أن يقضوا فيها أوقات تتميز بالجودة، فتراهم يحضرون إلى الصلاة مثلا لتأدية الواجب ليس إلّا، أمَّا أن يستغلوا الحضور، بحيث يؤثر ذلك في نفسيتهم وحياتهم بصورة رائعة وإيجابية، فهذا أمر يغفلون عنه تمامًا، ويمكنهم أن يحققوا ذلك بصور بسيطة وسهلة؛ فتبادل الابتسامة مع الآخرين والسلام عليهم والسؤال عن أحوالهم وتبادل الحديث الودي له بالغ الأثر على الطرفين. وينطبق الأمر ذاته على الامام الذي يؤم الصلاة، وليسمح لي أئمة المساجد- وأنا دونهم علمًا وقدرًا- بكلمة في هذا الصدد، فمن أكبر الأخطاء أن يظن الامام أن وظيفته تنحصر في حضور الصلاة وإلقاء المحاضرة والوعظ والإرشاد وتوضيح الأحكام الشرعية؛ بل إن عليه أن يدرك أن وظيفته سامية ومسؤوليته كبيرة؛ فعدد من المؤمنين يحضرون الصلاة وهم مثقلون بتحديات يواجهونها، وينتظرون من يخفف عنهم ولو بابتسامة جميلة تشرح صدره، فكم يبهج النفس أن تجد الامام الذي يدخل المسجد بابتسامة يوزعها على المؤمنين يسلم على هذا ويتحدث مع آخر ويطبع قبلة على جبين الكبير منهم ويربت بيده على الصغير ويستشير أحدهم ويشير على آخر، ويشعرهم بأنَّه منهم، إن هذه الأمور البسيطة لها بالغ الأثر على نفسية الإمام والمأموم على حد سواء.
كما إنَّ علينا أن ندرك أن الأثر الاجتماعي إنما يتحقق عندما يستغل الفرد حضوره في تلك التجمعات، أما أن يحضر فيها وهو منشغل بهاتفه النقال، وما أن ينتهي الخطيب من إلقاء محاضرته حتى يُسرع بمغادرة المسجد، لا يُحقق ذلك الأثر المرجو من حضوره. ومن الغريب ما يطرحه بعضهم بأن سماع المحاضرات المفيدة عبر الوسائل السمعية والبصرية المختلفة تفي بالغرض وهي البديل عن الحضور!! فيمكنني أن أستفيد من المحاضرة دون أحضر إلى المسجد إلى أو إلى قاعة المحاضرة، لكن هذا الطرح لا يأخذ بعين الاعتبار الفوائد الجمّة المترتبة على التجّمع نفسه والتفاعل مع الآخرين من الأصدقاء والإخوة، ولذا ففائدة الحضور لا تقارن إذا أحسن الفرد وأجاد استخدام فترة حضوره لتلك التجمعات.
وهكذا الحال مع مناسبات الأفراح والأتراح، فالبعض يحضر هذه المناسبات ويقتصر همه في أداء المهمة، وقد كنت من هؤلاء قبل مدّة، ولكن بعد أن راجعت نفسي أدركت كم كنت مخطئاً في ذلك، واليوم تغيرت نظرتي لهذه التجمعات، فأصبحت أحضرها محاولا الاستفادة منها وإفادة الآخرين، لا بالحديث الجاد والنقاش الهادف دوماً بل ربما بابتسامة أو حديث ودي أشارك الآخرين به.
إنَّ المناسبات الاجتماعية التي تزخر بها مجتمعاتنا الإسلامية هي من الثروات المُهمة التي يجب أن نحافظ عليها، بحيث نقضي على بعض السلبيات التي تتخللها ونحافظ على الإيجابيات فيها، ولا ننظر لها كعبء ثقيل علينا أن نزيحه عن كاهلنا.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر