في أمسيّة رمضانية مضيئة ليلة الثلاثاء بالنادي الثقافي؛ ألقى الدكتور محمود حمد شذرات من خلال بحوثه ورؤاه النقدية في جمع مميز من المهتمين بالشعر خاصة والأدب عامة.
وتناول الدكتور مجموعة من القضايا الأدبية الشائكة، وكضابط حرب خبير؛ تنّقل الدكتور وأمَّنا في حقل مليء بألغام شعرية وأدبية عديدة، لطالما مثلّت هاجسا وشكلت الآراء النقدية تجاه قضايا شعرية مفصلية وأدبية كذلك ظل الوسط الشعري يتحاشاها لحساسيتها وإمكانية تأثيرها على العلاقات بين الشعراء والأدباء والنقاد.
«كل ما يُقال عن الشعر هي مغامرة فاشلة، لماذا؟ لأن الشعر في خطاب سطوته -كما يسمّيها ميشيل فوكو- لا يعتمد على ما تقوم به الأجناس الأخرى من سطوة خطاب تنطلق من الإيمان بالخطاب نفسه، أو مُقارَبةِ صاحِبِهِ. لأنه لا يستقر؛ فلو عدنا إلى -ما نستطيع أن نسميه الشعر القديم معنا في الذاكرة العربية- لوجدنا بأن الشعر العربي القديم يستعصي على الإمساك، يستعصي حتى على محاولة قراءته بمنظور واحد. فهيمنة خطاب الشعر تختلف عن هيمنة أي خطاب آخر؛ لأنني دائما أضع في الحسبان المقولة التي أعتد بها كثيرا «الشعر هو ما لا يقال إلا بالشعر» بتصرف. هكذا يبتدئ الدكتور جلسته المثرية والمثيرة في آن، فهي من الجلسات التي تثير التساؤلات وتستفز العقل على البحث الإبداعي خارج نطاق السائد، بما ينفض الغبار عن التراكمات المدرسية -أي التلقينات الثابتة المكررة في المناهج الدراسية المختلفة- والتي لا يعني بالضرورة أنها بائدة ولا تصلح للدراسة والنظر؛ وإنما برؤيتها من منظور آخر ونقدها نقدا آخر يمنحها أبعادا مختلفة عما هو سائد ومسلَّم به. وهذه مهمة الناقد في الأصل؛ أن يدلنا على مكامن الجمال والقوة والمَكَنَة، كما يدلنا على مواطن الخلل والضعف والخطأ. فهو يجلو غبار الفكرة السائدة لا لأجل أنها سائدة فحسب؛ بل لأنه يرينا القضايا من زاوية لم نعتد النظر منها إلى تلك القضايا.
وهنا أستطرد استطرادا قصيرا؛ فإن الحركة الأدبية العمانية بنموها المطّرد وفوز عدد كبير من أدبائها وكتّابها بجوائز عالمية وعربية مرموقة، لهي فرصة ثمينة لتطور حركة النقد العمانية خاصة والعربية عامة. كما أن حركة النقد العمانية فرصة للنقاد بأن يعودوا ويتجهوا لدراسة الأدب العماني على قدم المساواة كما يُدرس أدب أقرانهم من العرب، ففي ذلك خدمة لتطور الحركة الثقافية العمانية عامة، فالناقد قادر على إبراز كتب ومخطوطات ظلت منسية وحبيسة الأدراج؛ لأن مؤلفها لا يملك من السطوة الأدبية أو الاجتماعية ما يتيح لكتبه الذيوع والانتشار فضلا عن التأمل والالتفات إليها. وأما حركة النقد العربية؛ فإن الأدب العماني خاصة والثقافة العمانية على الإطلاق ظلت مُتجاهلة لفترة طويلة ولا يُنظر إليها كما يُنظر إلى نظرائها من البلدان العربية الأخرى. فإن فوز رواية «سيدات القمر» للدكتورة جوخة الحارثية بجائزة مان بوكر العالمية، كأول رواية عربية مترجمة تفوز بهذه الجائزة، وهي لم تفز بجوائز عربية من قبل؛ لهو أكبر دليل على هذا التجاهل بغض النظر عن كونه متعمدا أم غير ذلك. فالجوائز تشبه العلامات التي تظهر على شاشة السيارة؛ فلا يلتفت النقاد -كما أصحاب السيارات- إلى تشريح الأدب وفحصه -نقده- إلا بعد فوزه بالجوائز، إلا إن كان ذا سطوة كما أسلفنا. فهي دعوة إلى الالتفات إلى الكتّاب الآخرين -حتى من رحل عن عالمنا- والنظر في آثارهم الكتابية نظرة متجردة من الآراء المسبقة.
بالعودة إلى المحور الرئيس وهو حديث الدكتور محمود؛ فبعد حديثه عن الخطاب ومفهومه وذكر بعض آراء وتعريفات عمالقة النقاد العرب القدماء، كقدامة ابن جعفر وابن سلّام وابن رشيق القيرواني. يلاحظ المتابع لحديثه مزاوجة الدكتور ومقاربة الآراء النقدية للنقاد العرب القدماء، بالنقاد المعاصرين. كقوله في معرض حديثه عن تعريف القدماء للشعر «.. يضيف ابن رشيق -إلى تعريف الشعر- المعنى، وعندما تقرأون ما يقوله عن المعنى ستكتشفون أن المعنى هو الذي نتدارسه اليوم لكونه -كما يسميه- (بول) ريكور الصورة». ومثل هذه الالتفاتات النقدية والمقاربات، حصلت مع رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ومقارنتها بالكوميديا الإلهية لدانتي ألييجري في الجانب الأدبي، أو لكتب روجر بيكون وتوما الإكويني ومقارنتها بكتب ابن رشد ومنهجه الفلسفي. إن أهمية النقد لا تكمن في الإشارة إلى من جاء أولا بالمعنى الفلاني والصورة الفلانية، بل في البناء والهدم؛ هدم المهترئ وبنائه بأساسات أقوى.
كما هو معلوم، فلا يمكن الحديث عن الشعر دون الحديث عن الشعرية والشاعرية، والشعرية القديمة والحديثة، ومعاني الحداثة وتجلياتها والإتيان بشواهد قديمة وحديثة في المقاربات النقدية جميعها. إن الإنترنت من نعم العصر الحديث، وحيث كنا نسمع ونقرأ عن المجالس الأدبية كمجلس هارون الرشيد والعلماء والأدباء بين يديه أو مجالس التوحيدي وثعلب، أو مجالس شيخ الأدباء طرا أبو العلاء المعري، فنتمنى لو أننا غشيناها؛ فإننا نستطيع اليوم مشاهدة الأمسيات والنقاشات والحوارات عبر اليوتيوب، ومن حسن الطالع أن هذه الأمسية إحدى الأمسيات المسجلة. وبطبيعة الحال، فلا يمكن اختزال كلام ناقد حصيف كالدكتور الأديب محمود حمد في بضعة سطور، لذلك أدعو المهتمين إلى مشاهدة الجلسة كاملة عبر اليوتيوب بعنوان « الخطاب الشعري وتحولاته» وهو عنوان ورقة الدكتور ذاتها. ولي أمل بأن يكون للنقد مكانته العالية كما للرواية اليوم، وكما للشعر بالأمس؛ فالنقد في شتى مناحي الحياة هو الدافع الأول لتحريك الراكد وتغيير الثابت على غير أساس، ولهداية السائرين على غير هدى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عن الشعر
إقرأ أيضاً:
الأندية العمانية والاستثمار الرياضي
رامي بن سالم البوسعيدي
في ظل التحولات الاقتصادية التي تشهدها سلطنة عُمان وتوجهها نحو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، أصبح من الضروري النظر إلى الرياضة كقطاع استثماري واعد يسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني.
والأندية الرياضية العُمانية -التي لطالما اعتمدت على الدعم الحكومي- أغلبها تواجه تحديات مالية كبيرة تعيق قدرتها على تحقيق التميز الرياضي والتنمية المستدامة، وهذا ما لمسناه في كثير من الأندية، وهو ما تسبب حتى في تقليص قدرتها على تنفيذ أنشطة ثقافية ورياضية وشبابية، لذا يعد التحول إلى نموذج استثماري يعتمد على الخصخصة وتطوير إدارة الأندية حلاً فعالًا لتجاوز هذه التحديات وفتح آفاق جديدة للنمو والنجاح.
تحويل الأندية العُمانية إلى كيانات استثمارية يُمكن أن يبدأ من خصخصتها وتحويلها إلى شركات رياضية خاضعة لقوانين التجارة والاستثمار، وهذا التحوُّل يعني فصل الإدارة الرياضية عن الحكومة ومنح القطاع الخاص فرصة المشاركة في إدارة وتطوير الأندية، ويمكن للأندية أن تطرح أسهمها للاكتتاب العام؛ مما يُتيح للمستثمرين المحليين والدوليين فرصة المشاركة في تمويلها وتحقيق أرباح من خلال العوائد الاستثمارية، هذه الخطوة لا تسهم فقط في تحسين الأداء الرياضي؛ بل تخلق بيئة اقتصادية متكاملة تشجع على الابتكار والاستثمار في مجالات أخرى مرتبطة بالرياضة.
تجربة الأندية الأوروبية تمثل نموذجًا يُحتذى به في هذا الجانب، على سبيل المثال نادي مانشستر يونايتد الإنجليزي يعد مثالًا بارزًا على نجاح الخصخصة والاستثمار في الرياضة، عندما تحول النادي إلى شركة مساهمة عامة، تمكن من جذب استثمارات ضخمة ساهمت في تحسين بنيته التحتية وتطوير أدائه الرياضي، فضلًا عن تعزيز مكانته كعلامة تجارية عالمية، هذا النجاح لم يقتصر على مانشستر يونايتد فحسب، بل شمل العديد من الأندية الأوروبية التي أصبحت تعتمد على استراتيجيات تسويقية واستثمارية مبتكرة لتحقيق الاستدامة المالية، وهو ما اتجهت له بعض الأندية العربية، وقد يكون بنماذج أخرى، ولكنها بذات الأهداف.
محليًا يمكن للأندية الاستفادة من هذه التجارب العالمية وتكييفها بما يتناسب مع البيئة المحلية، وتحويل الأندية إلى شركات رياضية سيُعزِّز من قدرتها على بناء شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص وجذب الرعايات التجارية، والاستفادة من التقنيات الحديثة في تحسين الأداء الرياضي والتواصل مع الجماهير، كما أن تطوير البنية الأساسية الرياضية من خلال استثمارات خاصة سيجعل سلطنة عمان وجهة رياضية قادرة على استضافة فعاليات دولية؛ مما يُسهم في تنشيط السياحة وتعزيز الاقتصاد الوطني.
النظر إلى الرياضة كقطاع ترفيهي فقط لم يعُد مُناسبًا للمرحلة الحالية، الرياضة أصبحت صناعة متكاملة تسهم في توفير فرص عمل وجذب الاستثمارات وتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة، وإذا تم تنفيذ خطط الخصخصة والاستثمار في الأندية العُمانية بشكل استراتيجي ومدروس، فإن ذلك سيضع الرياضة في قلب الاقتصاد الوطني ويجعلها محركًا للتنمية المستدامة، وعلى الحكومة والقطاع الخاص العمل معًا لوضع إطار قانوني وتنظيمي يدعم هذه التحولات، مع ضمان الشفافية والحوكمة الجيدة في إدارة الأندية لتحقيق التوازن بين الأهداف الرياضية والاقتصادية.
ومن النتائج المتوقَّعة لهذا التوجه نحو الخصخصة والاستثمار في الأندية العُمانية، هو تأسيس دوري محترفين قوي يتمتع ببيئة تنافسية عالية وقادرة على جذب أفضل المواهب المحلية والدولية، ووجود دوري محترفين يسهم في تحسين مستوى الأندية واللاعبين، كما يفتح المجال أمام الاستثمارات التجارية من خلال حقوق البث التلفزيوني وبيع التذاكر والرعايات التجارية، وهذا التطور يرفع من قيمة الرياضة كمنتج اقتصادي يُسهم في جذب جماهير أوسع وتعزيز مكانة سلطنة عمان على الخريطة الرياضية الإقليمية والدولية.
ويُسهم هذا التحول في بناء قاعدة رياضية متينة تدعم المنتخبات الوطنية في مختلف الفئات العمرية؛ حيث ستصبح الأندية أكثر قدرة على تطوير الأكاديميات واكتشاف المواهب ورعايتها، كما يؤدي الاستثمار في البنية الأساسية الرياضية إلى توفير منشآت متطورة تستضيف الفعاليات المحلية والدولية؛ مما يُعزِّز من السياحة الرياضية ويرفد الاقتصاد الوطني بعوائد جديدة، هذا النموذج المتكامل سيخلق منظومة رياضية مستدامة تخدم طموحات سلطنة عمان على المستويين الرياضي والاقتصادي.
ختامًا نؤكد أن التحول إلى نموذج استثماري ليس مجرد خيار، بل ضرورة تفرضها التغيرات الاقتصادية العالمية ومتطلبات التنمية في سلطنة عُمان، والرياضة ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل أداة اقتصادية واجتماعية تعزز من مكانة الدول وتسهم في تنويع اقتصاداتها، خاصة وأن الأندية العُمانية تمتلك المقومات لتكون جزءًا من هذا التحول، إذا ما تم تبني رؤية استثمارية طموحة تُعيد تعريف دورها وتضعها على طريق النجاح والاستدامة الاقتصادية.