لجريدة عمان:
2024-10-02@01:12:20 GMT

كارل ماركس.. ودعم التحرر العربي

تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT

في شتاء عام 1882، خلال العام الأخير من حياته، أصيب كارل ماركس بالتهاب شعبي حاد، وأوصى طبيبه بفترة راحة في مكان دافئ. تم استبعاد جبل طارق؛ لأن ماركس كان بحاجة إلى جواز سفر لدخول المنطقة، وباعتباره شخصًا عديم الجنسية، لم يكن بحوزته جواز سفر. كانت الإمبراطورية الألمانية لأوتو فون بسمارك مغطاة بالثلوج ومحرمة عليه بأي حال من الأحوال.

وكانت إيطاليا غير واردة لأنه، على حد تعبير فريدريك إنجلز، «الشرط الأول فيما يتعلق بالنقاهة هو أنه لا ينبغي أن يكون هناك مضايقات من قبل الشرطة».

أقنع إنجلز وبول لافارج Paul Lafargue، صهر ماركس، المريض بالتوجه إلى الجزائر العاصمة. في ذلك الوقت، تمتعت عاصمة الجزائر الفرنسية بسمعة كوجهة جيدة للهروب من قسوة الشتاء الأوروبي. وكما تذكرت إليانور ماركس ابنة ماركس لاحقًا، فإن ما دفع ماركس حقًا للقيام بهذه الرحلة غير العادية هو هدفه الأول: إكمال رأس المال.

عبر ماركس إنجلترا وفرنسا بالقطار، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط بالقارب. وأقام في الجزائر العاصمة اثنين وسبعين يومًا، وهي المرة الوحيدة في حياته التي قضاها خارج أوروبا. ومع مرور الأيام، لم تتحسن صحة ماركس، لكن معاناته لم تكن جسدية فقط. لقد كان وحيدًا جدًا بعد وفاة زوجته وكتب إلى إنجلز أنه كان يشعر «بنوبات عميقة من الكآبة العميقة، مثل دون كيشوت العظيم». وبسبب تدهور حالته الصحية، غاب ماركس أيضًا عن ممارسة النشاط الفكري الجاد.

1) مقدمة الملكية الخاصة:

وبسبب سلسلة من الأحداث غير المواتية خلال إقامته، لم يتمكن ماركس أبدًا من الوصول إلى أعماق الواقع الاجتماعي الجزائري. كما لم يكن من الممكن له أن يدرس خصائص الملكية المشتركة بين العرب، وهو الموضوع الذي كان يثير اهتمامه كثيرًا منذ سنوات قليلة مضت.

في وقت سابق، في عام 1879م، نسخ ماركس، في أحد دفاتر ملاحظاته الدراسية، أجزاء من كتاب عالم الاجتماع الروسي ماكسيم كوفاليفسكي Maksim Kovalevsky، ملكية الأراضي الجماعية: أسباب تراجعها ومسارها وعواقبها. وقد خصصت المقاطع لأهمية الملكية المشتركة في الجزائر قبل وصول المستعمر الفرنسي، وكذلك للتغييرات التي أدخلوها. نسخ ماركس من كوفاليفسكي ما يلي: «إن تكوين الملكية الخاصة للأراضي – في نظر البرجوازية الفرنسية – هو شرط ضروري لأي تقدم في المجال السياسي والاجتماعي». إن الحفاظ على المزيد من الملكية الجماعية، «كشكل يدعم النزعات الشيوعية في العقول، يشكل خطرًا على المستعمرة وعلى الوطن على حد سواء».

انجذب ماركس أيضًا إلى تصريحات كوفاليفسكي التالية: «لقد واصل الفرنسيون نقل ملكية الأراضي من أيدي السكان الأصليين إلى أيدي المستعمرين في ظل جميع الأنظمة... الهدف هو نفسه دائمًا: تدمير الملكية الجماعية للسكان الأصليين وتحويلها إلى موضوع للبيع والشراء الحر، وبهذه الوسيلة أصبح الممر الأخير أسهل في أيدي المستعمرين الفرنسيين.

وفيما يتعلق بالتشريع المتعلق بالجزائر الذي اقترحه الجمهوري اليساري جول وارنييه Jules Warnier ، أيد ماركس ادعاء كوفاليفسكي بأن هدفه الوحيد هو «مصادرة أراضي السكان الأصليين من قبل المستعمرين والمضاربين الأوروبيين». وذهبت وقاحة الفرنسيين إلى حد «السطو المباشر» أو تحويل جميع الأراضي غير المزروعة المتبقية للاستخدام المحلي إلى «ملكية حكومية». وقد تم تصميم هذه العملية لتحقيق نتيجة مهمة أخرى: القضاء على خطر المقاومة من قبل السكان المحليين.

مرة أخرى، من خلال كلمات كوفاليفسكي، لاحظ ماركس: «إن تأسيس الملكية الخاصة واستيطان المستعمرين الأوروبيين بين العشائر العربية سيصبح أقوى وسيلة لتسريع عملية حل الاتحادات العشائرية، حيث كان لمصادرة ملكية العرب التي يقصدها القانون غرضان: 1) تزويد الفرنسيين بأكبر قدر ممكن من الأرض، و 2) إبعاد العرب عن روابطهم الطبيعية بالتربة، وكسر آخر قوة للعشيرة. وبالتالي يتم حل النقابات، ومعالجة أي خطر يشكله التمرد.

وأشار ماركس إلى أن هذا النوع من إضفاء الطابع الفردي على ملكية الأراضي لم يؤمن فوائد اقتصادية ضخمة للغزاة فحسب، بل حقق أيضًا «هدفًا سياسيًا: تدمير أساس هذا المجتمع».

2) تأملات في العالم العربي:

في فبراير 1882م، بينما كان ماركس في الجزائر العاصمة، ظهر مقال في صحيفة يومية محلية يوثق مظالم نظام الملكية الذي تم صياغته حديثًا. وكما ذكرت صحيفة الأخبار، كان بإمكان أي مواطن فرنسي في ذلك الوقت الحصول على امتياز لأكثر من 100 هكتار من الأراضي الجزائرية دون مغادرة فرنسا؛ يمكنهم أيضًا إعادة بيعها إلى أحد السكان الأصليين مقابل 40 ألف فرنك. في المتوسط، باع المستعمرون كل قطعة أرض اشتروها مقابل 20-30 فرنكًا بسعر 300 فرنك.

وبسبب اعتلال صحته، لم يتمكن ماركس من دراسة هذه المسألة. ومع ذلك، في الرسائل الستة عشر الباقية التي كتبها ماركس (فُقدت الرسائل الأخرى)، قدم عدة ملاحظات مثيرة للاهتمام من الحافة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. إن الأشخاص الذين يبرزون حقًا هم أولئك الذين يتعاملون مع العلاقات الاجتماعية بين المسلمين.

لقد صدم ماركس بشدة من بعض خصائص المجتمع العربي. وعلق قائلًا: «بالنسبة للمسلم الحقيقي، فإن مثل هذه الحوادث، سواء كانت جيدة أو سيئة، لا تميز بين أبناء محمد. ولا تتأثر المساواة المطلقة في علاقاتهم الاجتماعية. على العكس من ذلك، فقط عندما يفسدون، فإنهم يدركون ذلك. ويعتبر ساستهم، بحق، أن هذا الشعور وممارسة المساواة المطلقة أمر مهم. ومع ذلك، فإنهم سيذهبون إلى حالة من الفوضى والدمار بدون حركة ثورية».

في رسائله، هاجم ماركس بازدراء الانتهاكات العنيفة والاستفزازات المستمرة التي يرتكبها الأوروبيون، مستنكرًا «غطرستهم المكشوفة وغطرستهم تجاه «السلالات الأدنى»، [و] الهوس المروع الذي يشبه هوس مولوك Moloch بالتكفير» فيما يتعلق بأي شيء يحث على فعل التمرد. وشدد أيضًا على أنه في التاريخ المقارن للاحتلال الاستعماري، «يتفوق البريطانيون والهولنديون على الفرنسيين».

وفي الجزائر نفسها، أبلغ ماركس إنجلز عن القاضي التقدمي، فيرمي Fermé، الذي تحدث معه عن «شكل من أشكال التعذيب...لانتزاع «اعترافات» من العرب، وهو أمر طبيعي (مثل الإنجليز في الهند) من قبل الشرطة. لقد أبلغ ماركس أنه «على سبيل المثال، عندما ترتكب جريمة قتل من قبل عصابة عربية، عادة مع السرقة، ويتم القبض على الأوغاد الفعليين بمرور الوقت ومحاكمتهم وإعدامهم، لكن هذا لا يعتبر تكفيرًا كافيًا من قبل عائلة المستعمر المصابة. إنهم يطالبون في الصفقة بـ»سحب» ما لا يقل عن ستة من العرب الأبرياء...عندما يسكن مستعمر أوروبي بين أولئك الذين يعتبرون «السلالات الأدنى»، سواء بصفته مستوطنًا أو مجرد رجل أعمال، فإنه يعتبر نفسه بشكل عام أكثر حرمة من الملك.

3) ضد الوجود الاستعماري البريطاني في مصر

وبالمثل، وبعد بضعة أشهر، لم يقم ماركس بأي انتقادات فيما يتعلق بالوجود البريطاني في مصر. أنهت حرب عام 1882م، التي شنتها القوات البريطانية، ما يسمى بالثورة العرابية التي بدأت عام 1879م ومكنت المملكة المتحدة من إقامة محمية على مصر. كان ماركس غاضبًا من التقدميين الذين أثبتوا عدم قدرتهم على الحفاظ على موقف طبقي مستقل، محذرًا من أنه من الضروري أن يقاوم العمال الخطاب القومي للدولة.

عندما برر جوزيف كوين Joseph Cowen، عضو البرلمان ورئيس المؤتمر التعاوني - الذي اعتبره ماركس «أفضل البرلمانيين الإنجليز» - الغزو البريطاني لمصر، أعرب ماركس عن عدم موافقته التامة. وبطبيعة الحال، انتقد أيضًا الحكومة البريطانية قائلًا: «لطيف جدًا! في الواقع، لا يمكن أن يكون هناك مثال صارخ على النفاق المسيحي أكثر من «غزو» مصر - غزو بهدف السلام!

لكنه وجه انتقادات خاصة لكوين «الراديكالي». في خطاب ألقاه في 8 يناير 1883م، في نيوكاسل، أعرب كوين عن إعجابه بـ «المآثر البطولية» للبريطانيين و«إبهار عرضنا العسكري». كما أنه لا يستطيع «أن يتصنع السعادة على الاحتمال الضئيل لكل تلك المواقع الهجومية المحصنة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وفي إطار صفقة، إقامة «إمبراطورية إفريقية بريطانية» من الدلتا إلى كيب تاون».

لقد كانت في نظر كوين إمبراطورية على النمط الإنجليزي، تتسم بـ»المسؤولية» عن «المصلحة الداخلية». وفي السياسة الخارجية، خلص ماركس إلى أن كوين كان مثالًا نموذجيًا «لأولئك البرجوازيين البريطانيين الفقراء، الذين يتأوهون وهم يتحملون المزيد والمزيد من «المسؤوليات» في خدمة مهمتهم التاريخية، في حين يحتجون ضدها عبثًا».

4) هل كانت لدى ماركس مركزية أوروبية؟

في وقت متأخر من حياته، انخرط ماركس في تحقيقات في المجتمعات خارج أوروبا وعبر عن موقفه بشكل لا لبس فيه ضد ويلات الاستعمار. ومن غير الصادق أن نقترح خلاف ذلك، على الرغم من مدى الموضة السائدة في الأوساط الأكاديمية الليبرالية «لتوبيخ ماركس» بسبب مركزيته الأوروبية.

خلال حياته، تابع ماركس عن كثب الأحداث الرئيسية في السياسة الدولية، وكما نرى من كتاباته ورسائله في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أعرب عن معارضته الشديدة للقمع الاستعماري البريطاني في الهند ومصر، وكذلك للاستعمار الفرنسي في الجزائر. لم تكن لدى ماركس مركزية أوروبية، ولم يكن يركز اهتمامه فقط على الصراع الطبقي، كما يزعم كثيرون. اعتقد ماركس أن دراسة الصراعات السياسية الجديدة والمناطق «المحيطية» أساسية لنقده المستمر للنظام الرأسمالي. والأهم من ذلك أنه وقف دائمًا إلى جانب المظلومين ضد الظالمين.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الجزائر من قبل

إقرأ أيضاً:

البرهان و”الملكية الوطنية للحلول” للحرب

في حين ينعقد الاجتماع الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة يجد السودان أمره معلقاً بالمنظمة كما لم يحدث من قبل على أنه زبون قديم لها منذ التسعينيات. فجرب من قبل أن يكون بعض أهله في دارفور مثلاً تحت حماية الأمم المتحدة. ولكن لم يسبق للعالم أن اتفق له وجوب تجييش قوة لحفظ السلام لحماية جملة المدنيين فيه كما أوصت لجنة تقصي الحقائق عن حربه التي استمع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتقريرها خلال السادس من سبتمبر (أيلول) الجاري. كما لم يسبق للسودان أن كان إطعام غالب شعبه وإيواؤهم بيد المنظمة. فاضطرت الحرب الدائرة في جنباته إلى مغادرة الملايين من أهله بلداتهم بما وصف بـ”النزوح الأكبر عالمياً”، ووصفت المجاعة التي جاءت بأثر هذه الزعازع بـ”أنها الأسوأ في العالم لـ40 عاماً خلت”.
وليس من الفأل الحسن أن ينعقد أكثر أمرك على منظمة اتفق كثر على أنها ليست على ما يرام في يومنا.
ويكفي أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هو من كاد ينعاها للعالم في مقابلة كئيبة مع فريد زكريا خلال الأسبوع قبل الماضي. فلم يجد ما يقوله لفريد الذي عدد له سلبية المنظمة حيال الحرب في أوكرانيا وغزة سوى بوجوب التمسك لا يزال بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة في التعايش السلمي. وخلص إلى أن المنظمة عاجزة وتحتاج بعد 79 عاماً من قيامها إلى الأخذ بالمستجدات في العالم بقوة من مثل التغيير المناخي والذكاء الاصطناعي والإفلات من العقاب. وبهذا تتناغم مع عالم مختلف وصفه بـ”المألوف الفوضوي الجديد”.
ولآخرين آراء موزونة عن المنظمة. فهم متفقون على أنها على مفترق الطرق ولكنها، على خلاف سابقتها عصبة الأمم، صمدت للحادثات وسجلت نجاحات عديدة كأكبر مؤسسة للتعاون الدولي، غير أنها الآن محاصرة مع ذلك بتحديات جمة من ضعف تمويلها، وتفاقم بيروقراطيتها، والشقاق بين الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن. وتضعف جميعاً من فعاليتها. وقال أحدهم من حسن الظن بها أن الناس يتكلمون عن شلل الأمم المتحدة ولكنهم لو رجعوا لأعوام الحرب الباردة لوجدوها غشيتها فترات تعطل عمل مجلس الأمن فيها تقريباً بالكلية للخصومة الأميركية السوفياتية. فلم يُمرر في مجلس الأمن سوى قرار واحد عام 1959، وكان استخدام “الفيتو” هو الهواية المفضلة. وأضاف، أقله أن مجلس الأمن لا يزال يجتمع إلى يومنا مهما قلنا عنه، ولا تزال منظمات الأمم المتحدة للغوث حجة لا يعلى عليها في أن المنظمة قامت لتبقى.
واتصل بحال الأمم المتحدة المشفق ضربة لازب، نقاش حول دور الولايات المتحدة الأميركية فيها بوصفها سادن النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كانت الأمم المتحدة عنوانه الأكبر. وجاء الرئيس جو بايدن في كلمته بالأمم المتحدة بمجاز صالح لتوصيف منزلة بلده في هذا النظام العالمي. فاسترجع أبيات مشهورة من قصيدة “الرجعى” للشاعر ويليام ييتس:
الأشياء تتداعى
ولم يعد المركز يقوى على لملمتها
والعنان مطلق للفوضى لتجتاح العالم
وجاء بها بايدن بحق الأمم المتحدة. فقال إننا على رغم الفوضى الضاربة أفضل حالاً بالأمم المتحدة مما كنا بعد الحرب العالمية الأولى حين اندلقت الفوضى على مصراعيها على العالم.
ولكن هناك من رأى في كتابات حفلت بها “فورين بوليسي” أن أميركا قطب النظام العالمي الجديد عاجزة عن لملمة الأشياء من حولها. وبلغ بكاتب أن سألها أن تعيد صياغة خطاب التزامها الدولي. فقال إنه طالما كانت أميركا تخرق القوانين الدولية للدفاع عن العالم الحر، وإسرائيل داخلة في التعريف، صح أن تروج لمهمتها لا بحماية النظام العالمي ذي الشرائع بل لحماية عالمها الحر. وزاد بقوله إن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن يقول إن بلاده تقف مع عالم مبني على قوانين لا الشكوى الخام، وهي فكرة جاذبة. ولكن الأصل في الامتثال للقانون ألا يفرق، فبلينكن نفسه من قال للكونغرس إن إدارته ستفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا ما صدرت تهم منها بحق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل. وكان المنتظر حسب قول الكاتب أن تقف أميركا إلى جانب المحكمة وهي تنهض بواجبها في تطبيق القانون الدولي، ولكن يسوء أميركا بالطبع أن توجه تهم الإبادة الجماعية لزعيم الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، في زعمها.
ويضيف الكاتب أن أميركا كانت صريحة خلال الحرب الباردة في أنها خرجت للدفاع عن العالم الحر ولم تحتج للاعتذار عن ذلك.
على ما يبدو من ارتهان أمان السودان وإيواء أهله بالأمم المتحدة، إلا أن رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق عبدالفتاح البرهان جاء في كلمته أمام الأمم المتحدة (الـ26 من سبتمبر الجاري) بنهج سيكيف ذلك الارتهان بوجه كريم ومنتج. فدعا إلى ما سماه “الملكية الوطنية للحلول السودان ” للحرب في وكررها مرات أربع. وأراد بالمفهوم أن خلاص السودان مما هو فيه رهين بالإرادة السياسة السودانية. وهي الإرادة التي تؤمن بها الأمم المتحدة نفسها فعالية حلولها للمسألة السودانية ونجاحها. وصدر البرهان في دعوته هذه عن حسن ظن السودانيين بعزيمتهم في النهوض بأمرهم كما لا يحسنه غيرهم، فلم يستسلموا للديكتاتورية في تاريخهم منذ الاستقلال وأسقطوا نظماً لها ثلاث بنضال مدني فادح، وكان آخرها نظام الإنقاذ للإسلاميين الذي استعصى على المجتمع الدولي والذي حاول إسقاطه بالجزرة تارة وبالعصا تارة أخرى، وسقط في توقيته الوطني وبإرادة وطنية.
ولاستصحاب الملكية السودانية للحلول صح أن يكيف المجتمع الدولي مساعيه بما يمكن لها من التنزل على الأزمة برداً وسلاماً.
وأول تكييف لمساعي المجتمع الدولي هو في التصالح مع حقيقة الحفاظ على الدولة السودانية ومؤسساتها، فلسنا ليومنا في حال مزايدة عليها أو استبدالها بليل، وسبقت البلدان العربية الأعرف بالسودان إلى هذه المصالحة. وكان هذا موقف مصر من الحرب منذ يومها الأول، وما فتئت تعيده لمن ألقى السمع. وصدعت به سفيرة قطر لدى الأمم المتحدة في كلمتها بالجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس الـ26 من سبتمبر الجاري. وجاء التعبير الأميز له في قرارات مجلس التعاون الخليجي الأخير في قولهم بـ”أهمية الحفاظ على سيادة وأمن السودان واستقراره ووحدة أراضيه، والحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية ومنع انهيارها”.
ويعني هذا بغير لبس توطين القوات المسلحة في الحرب كطرف شرعي من جهة أنها مؤسسة للدولة الوطنية لا يجوز انهيارها. ويترتب على هذا أن يتخلص العالم من نظرية “الجنرالين” عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو اللذين يوصفا بأنهما يخوضان حرباً للحكم سكرى بالشوكة. ولن يعفي هذا بالطبع القوات المسلحة من أن تتقيد بقانون الحرب الإنساني غير أنه يجعل انتهاكاتها “مؤسفة” كما تجري العبارة في حين تقع انتهاكات ’الدعم السريع‘ في نطاق الإرهاب.
ولما لم يتفق للمجتمع الدولي الشرعية في الحرب الدائرة ساوى بين عنف الطرفين مساواة اعتقل بها نفسه دون تنفيذ قرارات اتخذها لوقف تصعيد الحرب والانتهاكات ضد المدنيين، ولنأخذ مواقف المجتمع الدولي من المعارك الدائرة حول الفاشر بين القوات المسلحة وحلفائها في القوات المشتركة من حركات دارفور المسلحة و’الدعم السريع‘. فلم يتحرك مجلس الأمن قيد أنملة لتنفيذ قراره 2736 خلال الـ13 من يونيو الماضي الذي دعا فيه “الدعم السريع” إلى وقف حصار المدينة وخفض التصعيد، وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين. ومما قاله مندوب بريطانيا في المجلس أن “الهجوم على الفاشر سيكون كارثياً لمليون ونصف المليون ممن نزحوا إليها فارين بجلدهم”. وقال مندوب سويسرا إن القرار يبعث برسالة لا لبس فيها لـ”الدعم السريع” لإنهاء حصارها للفاشر.
وكانت أميركا أول من حذر من الهجوم على الفاشر على لسان المندوبة الدائمة لأميركا لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، فناشدت “حميدتي” والقوى المتحالفة مع الجيش والجيش ألا يصعدوا الحرب. وقالت خلال الـ24 من أبريل الماضي إنها منزعجة لأخبار الهجوم الوشيك على الفاشر من قوات “الدعم السريع”. وخيرت واشنطن “الدعم السريع” بين أمرين هما أن يواصل ما هو فيه فيكبد الناس الزعازع في مجازفة بتفكك دولتهم، أو وقف الهجوم. ودعت في الـ11 من سبتمبر الجاري إلى وقف إطلاق النار على الفاشر التي أخذ “الدعم السريع” في مهاجمتها منذ أبريل الماضي، رأفة بملايين من الخلق الأبرياء. ووصفت المندوبة الدائمة لأميركا لدى الأمم المتحدة توماس غرينفيلد الفاشر بأنها على شفا حفرة من مجزرة. وطلبت من “الدعم السريع” رفع الحصار عنها أو أن العواقب ستكون وخيمة على المسؤولين عن الهجوم على الفاشر. واكتفت أميركا بتوقيع عقوبة على قياديين على رأس قوات “الدعم السريع” التي تهاجم المدينة بوضعهما في القائمة السوداء.
ولم يمتثل “الدعم السريع” لهذا الإلحاف الدولي إلى يومنا وظل بمنجاة من العقوبة: ثغاء كثير ولا صوف كما يقولون. وبدا أن صيغة “حرب الجنرالين” هي طريق الهرب من التزام المجتمع الدولي أخذ أي منهما بالشدة. فكان آخر ما جاء عن الرئيس بايدن عن السودان مراوغة بين الجنرالين. فأكد أن “هجمات ’الدعم السريع‘ تلحق أضراراً بصورة غير متناسبة بالمدنيين”، ودعا الجيش في وقت واحد إلى “وقف القصف العشوائي الذي يدمر حياة المدنيين والبنية التحتية”. وكأن هذه العبارات القوية للجنرالين في طلب السلامة لأهل الفاشر لـ”العلم” فحسب ولا عواقب لها. وهذا باب في تداعي الأشياء وعجز المركز في لملمتها. وبدا أن المخرج لبلد مثل السودان أن يظل يتمسك بـ”الملكية الوطنية للحلول”.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الملكية تدعو مسافريها إلى التحقق من مواعيد رحلاتهم
  • إدعاءات بتجنب توسع الحرب.. ودعم سرى لإسرائيل
  • "فتح": الصين حاضنة آمنة للقضية الفلسطينية وقضايا التحرر في العالم
  • "سكة الحرفيين".. مهرجان لإحياء التراث ودعم للمنتجات اليدوية بالأحساء
  • ضبط مخالف لارتكابه مخالفة رعي بمحمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية
  • السعودية تعلن عن مساعدات للشعب اللبناني.. ودعم مالي شهري لـمعالجة الوضع في غزة
  • السودانيون بالقاهرة : تأييد ودعم للقوات المسلحة
  • محمد بن حمد: تطوير التعليم يحقق نهضة الوطن
  • توم كروز يصدم الجمهور في قاعة ألبرت الملكية.. شاهدوا ما فعله
  • البرهان و”الملكية الوطنية للحلول” للحرب